وسط تنامي بوادر الحرب التجارية بين أمريكا والصين، يقف الاقتصاد المصري مترقبًا للتداعيات التي تطوله؛ جراء الصراع بين أكبر اقتصادين عالميين، فبكين أكبر شريك تجاري لمصر على مدار 12 سنة متتالية، والولايات المتحدة تليها في المرتبة الثانية بقائمة شركاء القاهرة التجاريين.
تتزايد المخاوف في ظل حساسية الاقتصاد المصري السريعة لأي تطورات عالمية وعدم قدرته على التكيف، بحكم اعتماد موارده الدولارية على مصادر ريعية، مثل قناة السويس والسياحة، ما يجعله مرتبطا بالأوضاع العالمية بصورة مستمرة، فضلاً عن حجم الواردات الكبيرة من الخارج التي تجعل الأسعار المحلية مرتبطة بمستوى التضخم عالميًا.
رغم التحذيرات المستمرة على مدار سنوات، لا يزال الاقتصاد المصري معتمداً على التدفقات الرأسمالية الخارجية والاقتراض الخارجي، وذلك بدلاً من الاعتماد على الموارد والمدخرات المحلية، فضلاً عن نمو الاستهلاك الترفي، وزيادة الأصول التمويلية ووسائل الدفع، بما لا يتماشى مع مقدار السلع والخدمات المتاحة.
الصين وأمريكا ومصر.. اختلالات كبيرة بالميزان التجاري
يرتبط تأثر مصر بالحروب التجارية بحجم التبادل التجاري بينها وبين الشركاء، فعلى مدى السنوات العشر الماضية، شهدت مصر عجزًا تجاريًا مستمرًا مع الولايات المتحدة، بمتوسط حوالي 3.57 مليارات دولار سنويًا، وتُظهر بيانات مركز التجارة الدولية، أن الواردات المصرية من الولايات المتحدة تجاوزت صادراتها باستمرار، وكان أعلى رقم تم تسجيله في 2022 عند 6.95 مليارات دولار.
في المقابل، تباينت الصادرات المصرية لأمريكا، إذ بلغت أدنى مستوياتها عند 1.13 مليار دولار عام 2014، وبلغت ذروتها عند 2.54 مليار دولار عام 2021، قبل أن تنخفض إلى 1.95 مليار دولار عام 2023.
في المقابل، يمثل اختلال التوازن التجاري بين مصر والصين تناقضًا صارخًا مع تفاعلاتها الاقتصادية مع شركائها التجاريين الآخرين، حيث يبلغ متوسط العجز التجاري السنوي الكبير 10.64 مليارات دولار.
ارتفعت الواردات المصرية من الصين إلى 14.8 مليار دولار بحلول عام 2022، وعلى النقيض من ذلك، نادرًا ما تجاوزت الصادرات المصرية إلى الصين مليار دولار، وكان عام 2022 الاستثناء، حينما تم تسجيل مستوى 1.85 مليار دولار.
وتزايد العجز التجاري لمصر مع الصين على مر السنين، حيث ارتفع من 7.73 مليارات دولار عام 2014 إلى 12.03 مليار دولار عام 2023. وتؤكد هذه الزيادة على غلبة السلع الصينية في سوق الواردات المصرية، خاصة في قطاعات مثل الآلات والإلكترونيات والمنسوجات.
تحولات كبيرة بالعلاقات بين مصر والصين وأمريكا
مع تدشين مبادرة الحزام والطريق، تحولت مصر إلى حليف إقليمي محوري للصين، فخلال الفترة من 2017 ـ 2022، ارتفعت الاستثمارات الصينية بمصر بنسبة 317%، ما يتناقض بشكل صارخ مع انخفاض بنسبة 31% بالاستثمارات الأمريكية خلال الفترة ذاتها.
نتيجة لذلك، برزت الصين كأكبر شريك تجاري لمصر، مع توسع التجارة الثنائية بشكل ملحوظ، إذ ارتفعت الواردات من الصين من 8 مليارات دولار عام 2017 إلى 14.4 مليار دولار عام 2022، بينما نمت الصادرات المصرية إلى الصين من 693 مليون دولار إلى 1.8 مليار دولار.
يظهر ذلك الاعتماد الاقتصادي المتزايد بشكل خاص في القطاعات التي تهيمن عليها الواردات الصينية، مثل الآلات والإلكترونيات والمنسوجات، بالإضافة إلى ذلك، يمتد دور الصين بمصر إلى مشاريع مثل بناء البرج الأيقوني في العاصمة الإدارية الجديدة في مصر.
هل يتأثر سعر الصرف؟
في التجربة السابقة للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حدثت تقلبات كبيرة في الأسواق المالية العالمية، مما أثر على تقييمات العملات مثل الدولار الأمريكي واليوان الصيني، ما سبب آثار مباشرة على الاقتصادات الناشئة، بما في ذلك مصر، حيث ضغط هروب رأس المال؛ بحثًا عن استثمارات أكثر أمانًا، على الجنيه.
ما زاد من تأثر مصر حينها، اعتمادها على الاستثمار الأجنبي المباشر؛ للحفاظ على استقرار سعر الصرف لديها، ما عرضها للخطر بشكل خاص، في ظل أن فترات الصراعات التجارية المكثفة تشهد ميلاً من المستثمرين عالميًا للحذر والانسحاب من الأسواق، التي يُنظر إليها على أنها محفوفة بالمخاطر.
رغم استقرار السوق النسبي في مصر، والذي عززته الإصلاحات الاقتصادية المدعومة من صندوق النقد الدولي، فقد شهدت تدفقات رأس المال خلال هذه الأوقات انخفاضًا، مما حد من توافر العملة الصعبة وساهم في انخفاض قيمة الجنيه.
الحرب التجارية بين البلدين تؤدي لتعطيل أنماط التجارة العالمية، مما أثر على عائدات التصدير في مصر وأرباح النقد الأجنبي، وبالتالي وضع ضغوط إضافية على الجنيه، وتسبب في تدفقات رأس المال إلى الخارج من الأسواق الناشئة، ما قلص احتياطيات مصر من النقد الأجنبي، وإضعاف عملتها، وحملت أيضًا تأثيرات تضخمية بزيادة تكلفة الواردات، مما أدى إلى التضخم المحلي وتقويض القدرة الشرائية وزعزعة استقرار العملة بشكل أكبر.
ورغم تلك الضغوط، شهدت مصر زيادة كبيرة بالاستثمار الأجنبي المباشر. ففي الربع الثاني من عام 2024 وحده، ارتفعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مستوى قياسي بلغ 25.1 مليار دولار، مما يؤكد ثقة المستثمرين المتزايدة في الاتجاه الاقتصادي لمصر. ولم تعمل هذه الزيادة في رأس المال الأجنبي على تعزيز احتياطيات مصر من النقد الأجنبي فحسب، بل دعمت أيضًا استقرار الجنيه المصري.
البحث عن شركاء جدد
حفزت الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، التي اتسمت بزيادة التعريفات الجمركية والحواجز التجارية، البلدين على البحث عن شراكات تجارية بديلة وتعزيز التحالفات الإقليمية.
في هذا المشهد المتطور، يشير توسع كتلة البريكس لتشمل مصر والسعودية والإمارات إلى تحول استراتيجي، يهدف إلى إعادة معايرة ديناميكيات القوة العالمية، وتقليص الاعتماد على الأنظمة المالية التي يهيمن عليها الغرب.
يتماشي اندماج مصر في مجموعة البريكس مع أهدافها الاستراتيجية لتنويع شراكاتها التجارية وتأمين استثمارات كبيرة في البنية التحتية، خاصة أن تجارة مصر مع دول البريكس بلغت 9 مليارات دولار سنويًا، ما يعادل 30% من إجمالي حجم تجارتها في السنوات الأخيرة، وهو رقم من المتوقع، أن يرتفع مع تعميق هذه الشراكات.
في ضوء الجهود المتوقعة للرئيس ترامب لفك ارتباط الاقتصاد الأمريكي بالصين، قد تدخل إدارته بمواجهة مع كتلة البريكس بشكل أكثر مباشرة، وخاصة فيما يتعلق بمبادرتها لتقديم عملة موحدة، والتي تهدف إلى تقليص هيمنة الدولار الأمريكي.
وتتضمن استراتيجية الإدارة الأمريكية الجديدة استهداف الأنظمة المالية المرتبطة بالبريكس لحماية المصالح الاقتصادية الأمريكية والحد من إمكانات البريكس كبديل للنظام الاقتصادي العالمي الحالي المتمركز حول الغرب والدولار الأمريكي.
علاوة على ذلك، من المتوقع أن تنفذ إدارة ترامب سياسات من شأنها، أن تمنع المشاركة مع مجموعة البريكس، من بينها قيود على المعاملات التي تنطوي على عملات مدعومة من مجموعة البريكس أو فرض عقوبات على الكيانات المرتبطة بها، وهي إجراءات حال اتخاذها قد تعقد عملية التوازن الدبلوماسي بالنسبة لدول مثل مصر.
رب ضارة نافعة
لكن توجد بعض التقديرات التي ترى أن مصر قد تكون بين الأسواق التي يمكن أن تستفيد من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتعزز صادراتها إلى كلا السوقين بالتركيز على تكثيف صادراتها لهما، فمصر على سبيل المثال تصدر لأمريكا الملابس والأحذية، والأسمدة، والأثاث، والمنسوجات، والمنتجات الغذائية، والأواني الزجاجية، والمركبات، والألمنيوم. ويمكن لمصر تعزيز صادراتها من 29 منتجًا في هذه القطاعات بمبلغ 853 مليون دولار.
أما بالنسبة للصين، فلدى مصر فرصة لزيادة صادراتها من 30 منتجًا بمبلغ 310 ملايين دولار في قطاعات مختلفة. وتشمل القطاعات المحتملة الآلات والمعدات الكهربائية والإلكترونية، والمعدات البصرية والجراحية، ومستخلصات الدباغة والصباغة، والمطاط، والورق ومنتجات الورق، والملابس، والمنسوجات، والأواني الزجاجية، والمركبات، والحديد والصلب، والأثاث، والمواد الكيميائية، والذهب، والألومنيوم
وتتمتع مصر بفرص كبيرة في الولايات المتحدة في مجال الأسمدة، وخاصة اليوريا، حيث تبلغ فرص الاستثمار المحتملة 258 مليون دولار. كما يتمتع قطاع الملابس بإمكانات كبيرة، وخاصة في سراويل الرجال والأولاد القطنية، حيث تبلغ فرص الاستثمار المحتملة 100 مليون دولار. كما يمكن لمصر تعزيز صادراتها من أجهزة الاستقبال للتلفزيون بقيمة 107 ملايين دولار.
وإذا اشتد الصراع التجاري بين واشنطن وبكين، ربما تستفيد من العلاقة التجارية القوية معها الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة والمدخلات الصناعية التنافسية، مما يعزز القدرة الصناعية والإنتاجية الإجمالية لمصر.
ووقعت مصر والصين، أخيرًا 5 مذكرات تفاهم لتعزيز التعاون في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بين البلدين؛ بهدف إنشاء 3 مصانع لتصنيع كابلات الألياف الضوئية ومعدات الاتصالات و3 مراكز لتصدير خدمات التعهيد بطاقة 800 فرصة عمل في مجالات تصميم الدوائر الإلكترونية، وتطوير البرمجيات والبحث والتطوير في الشبكات الضوئية وتكنولوجيا التحول الأخضر وأشباه الموصلات وإنشاء صندوق استثماري تكنولوجي بحجم 300 مليون دولار ومركز بيانات و4 مراكز ومعامل لتدريب وبناء قدرات أكثر من 3250 متخصصا.
يوفر النزاع التجاري بين الولايات المتحدة والصين أيضًا لمصر فرصة فريدة؛ لوضع نفسها كشريك تجاري بديل لكلا البلدين، فمن خلال الاستفادة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي واتفاقيات التجارة القائمة، يمكن لمصر جذب الشركات التي تتطلع إلى التنويع، بعيدًا عن محور التجارة بين الولايات المتحدة والصين، وبالتالي جذب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر وخلق فرص العمل.
بصرف النظر عن الحروب التجارية، يحتاج الاقتصاد المصري لضبط تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية وضرورة السيطرة على السياسة المالية، والنقدية ومراعاة خطورة الاندماج غير المحسوب في الاقتصاد العالمي والإشراف والرقابة على الجهاز المصرفى، وضرورة معالجة سعر الصرف في مصر وذلك من خلال مراعاة نوعية السلع المراد تصديرها، ونسبة المکون الأجنبي في الإنتاج المحلي، ودرجة مرونة الجهاز الإنتاجي.