تداولت وسائل الإعلام قراراً منسوب إلى السيد المستشار/ رئيس محكمة استئناف القاهرة، يحمل رقم 247 بتاريخ 29 ديسمبر سنة 2024، يحظر فيه على القضاة التحدث أو الكتابة أو الظهور في وسائل الإعلام، أو منصات التواصل الاجتماعي، كما أن ذلك القرار يوجه القضاة إلى منع الإذن بالتصوير داخل جلسات المحاكمات أثناء انعقادها.

ومن الناحية الواقعية فقد شهد العالم في العقد الأخير إنشاء وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر ويوتيوب، وتتعلق الإشكالية الأساسية في مدى إمكانية استخدام القاضي لوسائل التواصل الاجتماعي، شأنه في ذلك شأن أي فرد، سواء للتعبير عن آرائه، أو للتواصل مع العالم الخارجي بشكل عام. والواقع أن مواجهة هذه الإشكالية ذات الأهمية القصوى، يتنازعها اتجاهان أساسيان؛ يرفض أولهما الاعتراف للقضاة بمُكْنَة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، استنادًا إلى ما تقتضيه اعتبارات الحياد. أما الاتجاه الثاني، فيعترف للقضاة، كمواطنين، بهذه المُكْنَة بحسبانها إحدى صور ممارسة حرية التعبير عن الرأي، ولكن في ظل قيود تفرضها طبيعة الوظيفة القضائية.

وقد تضمنت المواثيق والاتفاقيات القانونية الدولية للقاضي الحرية في التعبير عن رأيه، لكنها حرية مقيدة، فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الفصل الثامن منه على أنه يحق لأعضاء السلطة القضائية، شأنهم في ذلك شأن المواطنين الآخرين، التمتع بحرية التعبير والاعتقاد والانتساب والتجمع، شريطة أن يتصرف القضاة دائماً في ممارستهم لهذه الحقوق، على نحو يحافظ على هيبة ووقار مناصبهم وعلى نزاهة واستقلال السلطة القضائية، ولم يخرج الميثاق الأوروبي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة الذي تم إقراره من طرف مجلس أوروبا على ذلك، فقد نص على وجوب امتناع القضاة عن أي فعل أو سلوك أو تعبير من شأنه، أن يؤثر على الثقة في حيادهم أو استقلالهم، أما مبادئ (مجلس بيرج) بشأن استقلال السلطة القضائية الدولية، فقد أكد أن القضاة يتمتعون بحرية التعبير وتكوين الرابطات أثناء توليهم منصب القضاء بطريقة لا تتعارض مع مهامهم الوظيفية أوقد تنال من حياد ونزاهة القضاء، وأنه يتعين عليهم أن يكونوا متحفظين في التعليق على الأحكام أو أي مشاريع أو مقترحات أو موضوع متنازع عليه، ويتخذون مسلكا يحفظ هيبة منصبهم ونزاهة واستقلال القضاء.

ومن الناحية القانونية، فقد نظم القانون قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 ذلك، وتناول واجبات القضاة وحظر على القضاة الاشتغال بالسياسة أي عدم ممارسة العمل السياسي فقط، ولم يحرم القضاة من إبداء الرأي. وهذا ما استقرت عليه القوانين المنظمة لشؤون القضاء المصري منذ اصدار المرسوم بقانون رقم 66 لسنة 1943، ثم المرسوم بقانون رقم 188 لسنة 1952. إلا أن القانون رقم 43 لسنة 1965، أضاف حكماً جديداً بنص المادة (75) مفاده “إذا قام القاضي بترشيح نفسه في الانتخابات يعد مستقيلاً من تاريخ الترشيح”.

أما عن الشق الثاني من القرار والمتعلق بحظر الإذن بالتصوير داخل قاعات الجلسات أثناء انعقادها، فقد صدر القانون رقم 71 لسنة 2021 بتعديل أحكام قانون العقوبات، وذلك بإضافة مادة جديدة برقم 186 مكرر والتي تعاقب على أفعال التسجيل أو التصوير أو النشر لما يدور في جلسات المحاكم دون تصريح من رئيس المحكمة المختصة، بعد أخذ رأي النيابة العامة.

فهل بصدور ذلك القرار يعد توجيها بعدم التصريح بالنشر أو التسجيل أو التصوير داخل أروقة المحاكم، أم أنه يعد مصادرة مسبقة على سلطة القضاة في إصدار ذلك لتصريح أو منع إصداره، بحسب ما يتراءى لهم بحسب سلطتهم.

ومن الناحية التقنية القانونية، فإن بصدور ذلك القرار يعد تجاوزاً عن النص القانوني، فهل انقلب السلم القانوني، وبات القرار أعلى مرتبة من النص القانوني؟ حتى ولو افترضنا كونه قراراً تنفيذياً أو تنظيمياً، فهو في مجمله لا يتعدى كونه قراراً إدارياً، وبالتالي لا يجوز له من الناحية القانونية، أن يتجاوز حدود النص القانوني، بأي معنى من المعاني، أو أن يتصرف فيما يتجاوز، ما أقره النص القانوني.

وفي حكم شهير للمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان أصدرته في عام 1979، وتعلق بنزاع بين صحيفة صنداي تايمز البريطانية والحكومة البريطانية، غلبت المحكمة الأوروبية جانب الحق في حرية التعبير عن الرأي على المناوأة الجنائية للحكومات والمحاكم، بأن اعتبرت قيام الصحيفة المذكورة بنشر مادة عن عقار طبي على الرغم من أمر محكمة بريطانية بالامتناع عن النشر بمثابة ممارسة مشروعة لحرية التعبير عن الرأي، لم تحمل إضرارا بالأمن القومي لبريطانيا أو بالسلامة الإقليمية للدولة أو بالأمان العام، ونفت عنها شبهة التورط في المناوأة الجنائية للمحاكم. بعبارة أخرى، قدمت المحكمة الأوروبية حرية الرأي والنشر وتداول المعلومات على قيود تعسفية لا ضرورات تبررها، حتى وإن كان مصدر هذه القيود أحكام وقرارات المحاكم.

وفي المجمل، يمكننا القول، بأن الارتكان إلى أن هيبة ونزاهة واستقلال القضاء، ضوابط على حرية التعبير عن الرأي للقضاة، دون تحديد المقصود منها “بدقة كاملة” وكافية لقياس الأداء، من شأنه أن يُفرغ حق القضاة في التعبير عن آرائهم بحرية من مضمونه، وأن يُعرضه للخطر، وهنا يصبح القيد أو الضابط مخالفاً للمعايير الدولية، وينتهك حق القضاة في التعبير عن آرائهم، فلا يجوز الركون إلى مصطلحات عامة، غير محددة، بدقة، والتعامل معها على أنها ضوابط على حرية التعبير، وإنما يتوجب تحديد القيد بدقة؛ لأنه استثناءٌ، وليس الأصل، والأصلُ ضمانُ حرية التعبير عن الرأي للقضاة وعدم تجريدهم من حق طبيعي لصيق بالإنسان، وأن الحكم على صحة أيّ ضابط أو قيد يرد على حرية التعبير عن الرأي- وغيرها من الحقوق والحريات- إنما يتوجب أن يكون منصوصاً عليه بنص قانوني واضح وصريح، ومحدد بدقة، يُمكّن القضاة من الحكم على سلوكهم وقياس تصرفاتهم من خلاله، وأن لا يكون عاماً وفضفاضاً، لأن المصطلحات العامة والفضفاضة من شأنها أن تُفرّغ الحق من مضمونه وأن تُعرضه للخطر في الممارسة العملية؛ وهذا ما يحصل للأسف عندما يتم الاكتفاء بذكر الضوابط الواردة على حرية التعبير عن الرأي، للقضاة وغير القضاة، وتجاهل الفحص ثلاثي الأجزاء (الاختبار الحاسم) اللازم للحكم على صحة وسلامة تطبيق أيّ قيد، وارد في المواثيق الدولية، في التشريع والممارسة العملية.

ومن هنا فإن صدور مثل ذلك القرار بكل ما جاء فيه لا يمكن أن يتماشى مع الضمان القانوني والحقوقي المرتبط بحرية الرأي والتعبير للقضاة بحسب كونهم من الأصل مواطنون لهم الحق في التمتع بكافة الضمانات والحقوق كغيرهم من المواطنين، كما أنهم بحسب مناصبهم الوظيفية يجب ألا يمثل القرار عدواناً كاملاً على ممارسة تلك الحقوق والحريات بشكل كامل.