بهروب الأسد أوائل ديسمبر الماضي، ودخول الجماعات المسلحة دمشق؛ فإننا بذلك نستكمل توجها متصاعدا لدى الإسلاميين في المنطقة للاندماج في السياسة الوطنية، أو ما أطلقت عليه في مقال سابق “التوطين المحلي”.

شكلت الانتفاضات العربية- التي اندلعت أواخر العقد الأول من هذا القرن- نقطة تحول مهمة في المنطقة. أظهرت الانتفاضات الشعبية الواسعة النطاق التي طرحت سؤال التغيير بقوة (وهو بالمناسبة، لا يزال مطروحا وعجزنا جميعا عن تقديم إجابة له حتى الآن). بات التغيير ممكنا، على الرغم من مزاعم كل من الإخوان، بأن الإصلاح التدريجي من داخل الأنظمة ممكن. أما تنظيم القاعدة فقد رأى أن القوة المسلحة وحدها قادرة على إجبار هذه الأنظمة على الإصلاح.

في بلدان مثل ليبيا وسوريا، تشكلت جماعات مسلحة محلية للإطاحة بالأنظمة التي أثبتت عجزها البنيوي عن الإصلاح، في مفاصلة واضحة عن فكرة الجهاد العالمي التي مثلها تنظيم القاعدة أولا وداعش تاليا. أما الجماعات ذات الأصول الإخوانية؛ فبعد أن كان مطلوبا- قبل الربيع العربي- إدماجها في المجال السياسي؛ بات مطروحا بشدة تفاعلها مع السياسة الوطنية- أي داخل أقطارها.

المشكل كما طرحته حقبة الربيع العربي، ليس إقامة الدولة الإسلامية- كما ادعى الإسلاميون بشقيهم: العنيف والسلمي، ولا قدرتهم على تقديم مشروع بديل للدولة والمجتمع والعالم، ولكن: “قدرتهم على إدارة إجماع وطني ينشئ رواية إصلاحية وتنموية جديدة تتفق مع أهداف ومبررات الربيع العربي، ومدى التزامها بالحريات والديمقراطية؛ خاصة الفردية والاجتماعية منها، وقدرتها على الإصلاح الاقتصادي والتوزيع العادل للموارد”.

هنا يصبح السؤال المطروح هو: كيف يتم دمج الإسلاميين في الإطار الوطني المحلي؟ وما الذي يمكن أن تقدمه لنا الخبرة السورية من دروس في هذا الصدد؟

ميزة التجربة السورية، أن الجماعات مثل: أحرار الشام، وهيئة تحرير الشام، برغم أنهما تبنتا العمل المسلح في مواجهة نظام الأسد، ووجدت الهيئة جذورها الفكرية والتنظيمية في تنظيم القاعدة- أي ضمن حركة الجهاد العالمي… بالرغم من ذلك إلا إنهما استطاعا، أن ينتجا سياسة محلية ارتبطت اساسا بالبيئة السورية، وبأهداف ومبررات مواجهة نظام الأسد.

تتبع الباحث المتميز جيروم دري يفون، في كتابه الصادر بالإنجليزية من أيام، هذه الظاهرة، فيما أطلق عليه “تسييس الجهاد”.

يشير مفهوم التسييس عنده إلى: تطويرأهداف تكتيكية واستراتيجية واقعية، وتحالفات دائمة مع جهات فاعلة أخرى، بما في ذلك الدول الأجنبية والجماعات المسلحة غير الحكومية، وتطبيع تفاعلاتها مع السكان.

هو يدرك أن الجماعات الجهادية من طبيعة سياسية، لكن اختيار مصطلح “التسييس” يسعى من خلاله إلى التقاط تحول الجماعات المسلحة إلى جهات فاعلة سياسية سائدة نسبيا. هو يهدف من خلال مفهوم التسييس إلى معالجة المشكلات التي يثيرها مفهوم الحرب على الإرهاب- كما تطرحه الخبرة الغربية. هو بهذا المفهوم يتحدى “الافتراض السائد، بأن الجماعات الجهادية تتجه دائماً إلى التطرف في الصراعات المسلحة”. وبدلاً من ذلك، يزعم أن “التسييس والتطرف هما نتاج عمليات مؤسسية داخلية وخارجية، ليست فريدة من نوعها بالنسبة للجماعات الجهادية”. في تقديره تنشأ هذه العمليات عن “كيفية إدارة الجهاديين لديناميكياتهم الداخلية وعلاقاتهم الاستراتيجية مع الجهات الفاعلة الخارجية”.

وعلى الرغم من أنه يقدم منظورا مختلفا للتعامل مع هذه النوعية من الجماعات؛ إلا أنه في النهاية يظل أسيرا للنظر الغربي لهذه الجماعات؛ باعتبارها تهديدا أمنيا للمصالح الغربية. هو يقدم مفهوم التسييس نهجا للتعامل مع هذه الجماعات باعتبارها جماعات تمرد وليست إرهابية، في حين إني أقدم مفهوم السياسة الوطنية بالمعنى الذي شرحته عاليا للتعامل مع تطلعات شعوب المنطقة نحو الحكم الرشيد والتوزيع العادل للموارد والثروات.

وعلى الرغم من هذا الاختلاف المنهجي في المقاصد والغايات، إلا إننا يمكن من الكتاب استخلاص عدد من القواعد الذهبية للسياسة الوطنية- كما قدمته الخبرة السورية، وقد سبق، أن تناولت في مقالات سابقة خبرات بلدان أخرى كالأردن ولبنان.

ساهمت عدة عوامل متشابكة في تسييس حركة أحرار الشام وهيئة تحرير الشام على حد سواء:

١- الديناميكيات الداخلية والتطور الأيديولوجي: حتى قبل انتفاضة عام 2011، كانت الشخصيات التي شكلت فيما بعد حركة أحرار الشام منخرطة في مناقشات، تنتقد التجاوزات والإخفاقات الاستراتيجية للجهاد العالمي، وخاصة تنظيم القاعدة في العراق. وفر هذا أرضية خصبة لظهور نهج أكثر واقعية، يركز على سوريا.

٢- التعلم من أخطاء الماضي: كان لدى العديد من قادة أحرار الشام خبرة مباشرة أو غير مباشرة في الصراع في العراق، وشهدوا عواقب تنفير تنظيم القاعدة للسكان المحليين. لقد سعوا إلى تجنب تكرار هذه الأخطاء، وركزوا على التضمين المحلي وبناء “حاضنة شعبية”.

٣-المنافسة الفصائلية دفعت نحو التمايز: إن وجود جماعات أكثر تطرفاً مثل داعش، وبدرجة أقل جبهة النصرة، أجبر أحرار الشام على تحديد موقفها بشكل أكبر، ولكي يتجنبوا تشويه سمعتهم؛ بسبب ارتباطهم بالآخرين، فقد انتقدوا التطرف بنشاط، وتبنوا الرموز الثورية السورية، وسعوا إلى اكتساب الشرعية الدولية.

٤- التكيف من أجل البقاء: في حين كانت هيئة تحرير الشام أكثر صرامة من الناحية الأيديولوجية في البداية؛ بسبب انتمائها إلى تنظيم القاعدة، إلا أنها خضعت أيضًا لعملية تسييس، وقد كان هذا مدفوعًا بالضرورة بخسارة الأرض لصالح داعش ومواجهة الضغوط من تركيا، فضلاً عن ملاحظة النجاح النسبي الذي حققته حركة أحرار الشام من خلال اتباع نهج أكثر برجماتية.

٥- التركيز على الداخل بدلاً من الجهاد العالمي: إن التأطير الأولي للانتفاضة السورية باعتبارها صراعاً ضد نظام الأسد، وليس قتالاً ضد قوى أجنبية، جعل الاستراتيجية التي تركز على الداخل أكثر جاذبية للسوريين. وهذا يتناقض مع الصراعات مثل الجزائر، حيث كان العدو أقل وضوحًا على أساس الخطوط الوطنية.

٦- فرصة لتحالفات واسعة النطاق: أدى انتشار العنف ووحشية النظام إلى خلق سياق أصبح فيه التعاون بين الإسلاميين وغيرهم مقبولاً بشكل أكبر. وقد سمح هذا لأحرار الشام ببناء تحالفات أوسع وإظهار التزامها بمستقبل سوري مشترك، مما زاد من ابتعادها عن جماعات، مثل داعش التي رفضت مثل هذا التعاون.

٧- الضغوط والفرص الخارجية، وتغير موقف الدول الغربية: على عكس الصراعات السابقة، كانت القوى الغربية أكثر انفتاحًا على التعامل مع الجماعات الإسلامية في سوريا، وخاصة تلك التي تنأى بنفسها عن تنظيم القاعدة. وقد أعطى هذا لأحرار الشام حافزًا لمواصلة تسييسها، حيث سعت إلى اكتساب الشرعية والدعم الدوليين.

٨- النفوذ التركي والسياسة الواقعية: مع تحول تركيا إلى لاعب رئيسي في الصراع، أصبح دعمها ضروريًا لبقاء أية مجموعة. كان على كل من أحرار الشام وهيئة تحرير الشام، أن يتكيفا مع الضغوط التركية، ويقبلا القيود المفروضة على أفعالهما وخطابهما في مقابل الرعاية.

٩- الهياكل التنظيمية المتناقضة: فنموذج أحرار الشام القائم على الإجماع، وهيكلها اللامركزي، الذي بني على التحالفات والاندماجات، عزز النقاش الداخلي وسمح بمرونة أكبر في التكيف مع الاحتياجات المحلية، ومع ذلك، فقد أدى هذا أيضًا إلى بطء عملية اتخاذ القرار وصعوبة تشكيل جبهة موحدة، مما أعاق في نهاية المطاف قدرتها على الاستفادة الكاملة من مزاياها المبكرة.

على النقيض من ذلك، حافظت هيئة تحرير الشام على هيكل أكثر تسلسلًا هرميًا مع سيطرة قيادية قوية. سمح هذا باتخاذ إجراءات أكثر حسمًا والقدرة على فرض إرادتها السياسية، مما ساهم في هيمنتها في نهاية المطاف في إدلب، على الرغم من العيوب الأولية.

بالطبع؛ لم يكن تسييس حركة أحرار الشام وهيئة تحرير الشام عملية خطية. بل كان تفاعلاً معقداً بين الأيديولوجية والاستراتيجية والديناميكيات الداخلية والضغوط الخارجية، مما يدل على الطبيعة القابلة للتكيف للجماعات الجهادية في الاستجابة لتطور مشاهد الصراع. وفي حين أن التحول المبكر الذي قادته أحرار الشام نحو البرجماتية، والذي كان مدفوعاً بالأيديولوجية قد وضعها في وضع جيد في البداية، فإن هيكلها اللا مركزي أعاق في نهاية المطاف قدرتها على التنافس مع نهج هيئة تحرير الشام الأكثر مركزية وحزماً. وفي المقابل، عملت هيئة تحرير الشام على تكييف أيديولوجيتها واستراتيجيتها بمرور الوقت، مما يدل على أن حتى الجماعات التي لديها تاريخ من الانتماء إلى الجهاد العالمي، يمكن أن تخضع لتسييس كبير، عندما تواجه حقائق سياسات القوة، والحاجة إلى تأمين الشرعية المحلية والدولية.

إن تسييس الجهاديين السوريين يختلف بشكل كبير عن تسييس جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، من حيث السياق والأهداف والأساليب، وهو ما يستحق أن نخصص له مقالا مستقلا، ولكن اندماج المجموعتين في السياسة الوطنية له قواعد متقاربة، تحكمه يمكن تلخيصها فيما يلي:

١-القطيعة التنظيمية مع الجهاد العالمي في الحركات الجهادية، ومع تنظيم الإخوان العالمي- كما في لبنان والأردن وفلسطين؛ لاعتبارات تتعلق بوضع بعض الأنظمة الإخوان على قوائم الإرهاب.

٢-طبيعة التنظيم: هل نحن بصدد بناء تنظيم عقائدي مغلق معيار العضوية فيه الالتزام الديني والأخلاقي والشعائري، كما يعرفها التنظيم، أم نحن بصدد بناء حركة جماهيرية تعبر عن قاعدة اجتماعية متسعة لها حاضنتها المجتمعية؟

٣- التوازن بين البراجماتية وبين الالتزام الأيديولوجي.

٤- طبيعة الحوكمة، حيث تقدم هيئة تحرير الشام في إدلب- كمثال- خبرة هامة في هذا الصدد؛ فقد قامت بتفويض السلطة في حكومة الانقاذ لنخب مدنية لاعتبارات عملية، وليست أيديولوجية نتيجة لندرة الموارد، وهو وسيلة لدمج نخب أكثر تكنوقراط، بالاضافة إلى دمج النخب الثورية الشابة.

٥- الانتقال من الطائفية للمشروع الوطني.

٦- إدراك اللعبة الجيو استراتيجية الدولية والإقليمية وموقعك منها، مع وجود رعاة إقليميين أو دوليين لهم متطلباتهم ومصالحهم.