كتب- سمير عثمان
بعد 15 شهرًا من القتل والدمار وإراقة الدماء في كل مكان، تدفق آلاف النازحين الفلسطينيين من الجنوب إلى شمال غزة بعد وقف إطلاق النار، وفي مشاهد لن تمحوها الأيام من الذاكرة، كان الطوفان البشري يتجه من شارعي صلاح الدين والرشيد الساحلي، سيرًا على الأقدام لمسافة تزيد عن 20 كيلو مترًا، وعلى الرغم من المصير المجهول للعائدين، إلا أن العودة كانت حتمية، لا بديل عنها، خاصة وسط دعوات التهجير التي يطالب بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته الشديدة الولاء لأكثر أطروحات اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفا.
لا منازل، لا مستشفيات، لا مدارس، لا مياه.. مدن تفتقر الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للعيش، وعلى الرغم من ذلك، كانت الفرحة تملأ وجوه العائدين، رافعين علامة النصر، وملوحين بالعلم الفلسطيني.. ومع المشاهد التي اختلطت فيها دموع الفرح بالحسرة والألم والحزن، ما زالت عيون العالم أجمع تترقب المستقبل الغامض الذي تخبئه الأنقاض المتراكمة لأهالي غزة العائدين.
على مدار السنوات الماضية، شهد قطاع غزة العديد من الحروب التي كانت أقل وطأة من حرب أكتوبر 2023، وهو ما أدى إلى إضعاف بنيتها التحتية في كل هجوم تقوم به قوات الاحتلال، بداية من انتفاضة الأقصى الأولى، ولكن أحداث طوفان الأقصى غيرت معالم المدينة الصامدة لسنوات، وقد تتسبب في تغيير معالمها الجغرافية.
تكلفة العودة
15 شهرًا من الحرب على غزة، كانت كفيلة بتحويل القطاع إلى كتل من الأنقاض، تخفي تحتها عشرات الجثث التي تعفنت؛ بسبب عدم القدرة على انتشالها، في كارثة إنسانية هي الأكبر في التاريخ الحديث، بحسب منظمة الأمم المتحدة.
وفقًا للأرقام التي أصدرتها وزارة الصحة الفلسطينية حول عدد الضحايا، فقد تخطى عدد الضحايا 48 ألف شهيد، وهو ما يمثل نسبة أكثر من 2% من تعداد أهالي غزة، و59% منهم من النساء والأطفال وكبار السن، فضلًا عن أكثر من 111 ألف مصاب، بينما نزح أكثر من 90% من سكان القطاع نحو الجنوب، بما يقدر بحوالي 2 مليون نازح، منهم من نزح أكثر من 10 مرات؛ بسبب الحروب المتكررة من قوات الاحتلال، فيما عاش النازحون أيامًا قاسية ولا يزالون في المخيمات إثر التعرض للبرد القارس والأمطار الغزيرة، ما أدى إلى مقتل العديد من الأطفال بالخيام، فضلًا عن تدمير ما يزيد عن 243 ألف وحدة سكنية، أدت لتشريد معظم السكان، منهم أكثر من 700 ألف طفل، وأكثر من 300 ألف امرأة، بينما تخطى عدد الأسرى في سجون الاحتلال 10 آلاف أسير.
تدمير البنية التحتية لقطاع غزة، والهجمات المستمرة على مدار الساعة لقوات الاحتلال، بالإضافة إلى الركام الناتج عن تدمير المباني، كانت أسباب رئيسية في عدم القدرة على إحصاء عدد الشهداء، الأمر الذي دفع باحثين بكلية لندن للطب الاستوائي إلى إصدار دراسة حول عدد الضحايا؛ جراء الحرب الإسرائيلية على غزة حتى شهر يونيو 2024.
الدراسة التي نشرتها مجلة “ذا لانسيت”، أكدت أن عدد ضحايا الحرب قد يصل إلى 186 ألف ضحية، وهو ما يفوق بكثير التقديرات الفلسطينية ذاتها، إذا توقفت الحرب، مشيرًة إلى أن عدد الضحايا غير المباشر يزيد في الصراعات الدموية، مثل حرب غزة بمقدار من 3 إلى 15 ضعف العدد المُقدر.
مذبحة سارية المفعول
الدراسة أشارت، إلى أن الصراعات المسلحة لها آثار صحية غير مباشرة، تتجاوز الضرر المباشر الناجم عن العنف، موضحًة أن حتى لو انتهى الصراع على الفور، فسوف يستمر وقوع العديد من الوفيات غير المباشرة في الأشهر والسنوات المقبلة لأسباب، مثل الأمراض الإنجابية والأمراض المعدية وغير المعدية، ومن المتوقع أن يكون إجمالي عدد القتلى كبيرًا؛ نظرًا لشدة هذا الصراع، والبنية الأساسية للرعاية الصحية المدمرة، والنقص الحاد في الغذاء والمياه والمأوى، وعدم قدرة السكان على الفرار إلى أماكن آمنة، وفقدان التمويل لوكالة الأونروا.
كما أكدت الدراسة، أن التناقض مع أرقام وزارة الصحة الفلسطينية يعكس تدمير البنية التحتية للرعاية الصحية في غزة، وبالتالي عدم قدرتها على إحصاء القتلى بدقة وسط القصف الإسرائيلي المستمر للقطاع، فيما قام الباحثون المشاركون بتحليل البيانات من مصادر متعددة، بما في ذلك سجلات مشرحة مستشفى وزارة الصحة، واستطلاعات عبر الإنترنت تعتمد على المشاركين، وبيانات النعي على وسائل التواصل الاجتماعي، وتوصلوا إلى أرقام تقديرية باستخدام طريقة إحصائية، تُعرف باسم “تحليل الالتقاط والاستعادة”، والتي تُستخدم عندما لا يتم تسجيل جميع البيانات ذات الصلة.
حياة تفتقر للحياة
الحرب التي استمرت 15 شهرًا بلا رحمة ولا هوادة، تسببت في تدمير 90% من شوارع غزة، بما يعادل 2.83 مليون متر من شبكات الطرق، فضلًا عن 88% من شبكات المياه والصرف الصحي بمجموع 655 ألف متر طولي، و330 ألف متر طولي من شبكات المياه، فيما تم تدمير 3680 كيلو مترًا طوليًا من شبكات الكهرباء.
ومن بين 37 مستشفى كانت تعمل قبل طوفان الأقصى، لا يوجد اليوم سوى 7 مستشفيات فقط تعمل بالحد الأدنى من المتطلبات والتخصصات الطبية، وذلك بعد استهداف الاحتلال للمستشفيات والأطقم الطبية التي كانت تواجه الأمرين، ما بين معالجة الجرحى والمصابين وقاذفات الدبابات.
إبادة غذائية
“وعليك أن تحيا وأن تحيا.. أن تعطي مقابل حبة الزيتون جلدك”، هكذا عبر محمود درويش عن شجر الزيتون الذي وصفه، كأنه عصي على الاقتلاع من الأرض، ولكن قوات الاحتلال لم تتوقف عند هدم المنازل وتدمير الطرق ومتطلبات الحياة الأساسية، ولكن الحرب أدت إلى انعدام الأمن الغذائي الشديد لجميع سكان غزة، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو”، حيث أصبحت على وشك المجاعة، حيث يعد القطاع الزراعي مصدرًا لأكثر من 45% من الغذاء لسكان القطاع، حسب مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
وقالت المنظمة، إنه وفقًا لأحدث تقييم جغرافي أجرته منذ اندلاع الحرب، وحتى ديسمبر الماضي، فإن 75% من الحقول التي كانت تستخدم لزراعة المحاصيل وبساتين أشجار الزيتون قد تضررت أو دمرت، فضلًا عن تلويث التربة.
وأوضحت المنظمة، أن أكثر من ثلثي الآبار الزراعية لم تعد تعمل، مما أدى إلى شلل الري، في حين وصلت خسائر الثروة الحيوانية إلى 96%، وتوقف إنتاج الحليب تقريبًا، ولم يبق على قيد الحياة سوى 1% من الدواجن، كما أصبح قطاع صيد الأسماك على وشك الانهيار، مما أدى إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي بالمنطقة.
مجاعة على الأبواب
أكد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في تقريره أن 2.1 مليون إنسان يعانون من مستويات مختلفة من انعدام الأمن الغذائي، منهم ما يقرب من نصف مليون يعانون من انعدام الأمن الغذائي من المستوى الخامس وهو المستوى الكارثي.
وحذر التقرير من حدوث مجاعة بين سكان غزة، بسبب قلة الغذاء وعدم تمكن الأطفال والنساء من الحصول على غذائهم، مشيرًا إلى أن 93% من الأطفال و96% من النساء يحصلون على مجموعات تغذية أقل من المطلوبة، مما يهدد بقاءهم على قيد الحياة، خاصة للأمهات الحوامل والمرضعات، وذلك وسط عدم القدرة على وفاء الأمهات باحتياجات أطفالهم الصغار على الغذاء اللازم للنمو.
إبادة تعليمية
يشير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى أن ما حدث من تدمير للبنية التعليمية من “إبادة المدارس”، وهو ما سيؤدي إلى عدم قدرة أكثر من 600 ألف طالب في مراحل التعليم من الوصول إلى المدرسة، حيث تم تدمير 92% من المباني التعليمية، وقتل أكثر من 10 آلاف طالب، وأصيب حوالي 20 ألف آخرين، بينما قتل نحو 416 موظف تعليمي، وأصيب أكثر من 2400، وهو ما يهدد بخسائر فادحة في رأس المال البشري للأجيال القادمة، ذلك فضلًا على عملية إعادة التأهيل النفسي لهؤلاء الطلاب.
الدكتورة هدى زكريا، أستاذ علم الاجتماع السياسي، أكدت لـ”مصر 360″، أن سكان غزة سيعانون لسنوات طويلة؛ بسبب الدمار الذي خلفته الحرب، مشيرًة إلى أنه على الرغم من أن الحرب تؤدي إلى رفع الروح المعنوية والإصرار على الثأر، إلا أن آثار الدمار والقتل ستظل باقية لتلقي بظلالها على الأجيال القادمة، وتحتاج إلى تدخل جميع القوى الإقليمية والدولية للتخفيف من حدتها.
وأضافت زكريا، أن الحرب ستؤدي إلى تغيير البنية الديموجرافية للسكان “توزع السكان مرة أخرى”، خاصة أن جميع النازحين العائدين لن يجدوا مناطق إيواء، وهو ما سيدفع بهم إلى التجمع في نقاط معينة على مساحات أصغر، وهو ما يترتب عليه تغييرات كبيرة في التركيبة السكانية لأهالي القطاع.
خريطة طبوغرافية جديدة
أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا”، تقريرًا نهاية العام الفائت بعنوان “حرب غزّة: الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة على دولة فلسطين”، أكد فيه أنه من المتوقع أن يرتفع معدل الفقر في فلسطين إلى 74.3% ليشمل 4.1 ملايين مواطن، منهم 2.6 مليون مواطن جدد ينضمون إلى مصاف الفقراء، كما يقدر أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1% مع ارتفاع معدل البطالة إلى 49.9%.
التقرير أشار، إلى أن فلسطين ستعود للخلف 69 عامًا؛ بسبب ما خلفته الحرب، حيث يتوقع أن ينخفض مؤشر التنمية البشرية لدولة فلسطين إلى 0.643 مما يؤخر التنمية بمقدار 24 عامًا، بينما يتوقع أن ينخفض مؤشر التنمية البشرية لغزة إلى 0.408، وهو المستوى المقدر لعام 1955، مما يمحو أكثر من 69 عامًا من جهود التنمية التي تمت.
وفقًا للتقرير، فإن خريطة غزة الطبوغرافية “سمات ومعالم الأرض”من المتوقع أن تتغير، حيث سببت الحرب دمارًا هائلًا في الشوارع والمباني والمنازل والبنية التحتية، وهو ما سيجعل أكثر من 2 مليون مواطن يبحثون عن مأوى في 13% فقط من إجمالي مساحة المنطقة التي كانت مأهولة قبل الحرب.
التدمير الذي أحدثه الاحتلال، أدى إلى تراكم المباني فوق بعضها لتترك خلفها ركامًا يقدر بحوالي 42 مليون طن، يحتاج 12 عامًا، وأكثر من 1.2 مليار دولار لنقله خارج القطاع بحسب تقارير دولية، وهو أحد العوائق التي تؤثر على عملية إعادة الإعمار.
حزن مقيم
أكدت دراسة بعنوان “الآثار الاجتماعية والنفسية للحرب الإسرائيلية على غزة لدى طلبة جامعة القدس المفتوحة، وانعكاساتها على دافعيتهم نحو التعلم”، أعدها عدد من أساتذة الجامعة، أن الآثار النفسية التي يعاني منها الطلاب تتمثل في زيادة مشاعر الحزن والكآبة، فضلًا عن أن مشاهد الحرب لا تفارق مخيلتهم، مع زيادة الشعور بالخوف والقلق والغضب.
فيما شملت الآثار الاجتماعية، عدم القدرة على مواجهة تحديات الحياة مع قلة التركيز، مع زيادة الخلافات بين الأهل، بالإضافة إلى نوبات الهلع التي تصيبهم خلال النوم، مع انخفاض الوضع المادي، وعدم الرغبة في التفاعل في مقابل زيادة الرغبة في الانعزال، وكذلك ارتفاع مستوى الكراهية، وهذه التأثيرات جاءت؛ بسبب مشاهد القتل والجثث المتفحمة في الطرقات والمجازر التي يتم ارتكابها يوميًا.
شروط إسرائيل للإعمار وصفة لتجدد الحرب
تواجه عملية إعادة إعمار غزة العديد من التحديات والصعوبات، كما تحتاج إلى متطلبات سياسية تصر عليها دولة الاحتلال، منها نزع سلاح حماس وتفكيك الفصائل المسلحة.
وفي هذا السياق، يقول الدكتور أحمد يوسف أحمد، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، إن عملية إعادة الإعمار تواجه مهمة صعبة إلى حد كبير، حيث تشترط إسرائيل إنهاء وجود الفصائل المسلحة، وهو ما لا تقبله حماس، مشيرًا إلى أن وجود السلاح مع حماس وبقية الفصائل سيؤدي إلى استمرار إسرائيل في جرائمها ضد غزة وشعبها، وهو ما يعيدنا إلى الحرب مرة أخرى، وذلك وسط تخبط في السلطة الفلسطينية وعدم اتفاق بين فتح وحماس على عملية إدارة القطاع.
وأكد يوسف لـ”مصر 360″، أن أفضل اقتراح هو الاقتراح المصري بوجود لجنة الإسناد، والتي تقوم بإدارة قطاع غزة، منوهًا أن هذا المقترح جاء بعد عدم توافق حركتي فتح وحماس، فيما يعد أحد المقترحات التي تقضي على ذرائع دولة الاحتلال بالتدخل في الشأن الفلسطيني.
وأضاف، أن إسرائيل ترفض بشكل قاطع وجود أي أسلحة داخل قطاع غزة، وهو ما قد يؤدي إلى عرقلة تنفيذ المقترح المصري، لافتًا إلى أنه في هذه الحالة يجب الوصول إلى تفاهمات بين الدول الداعمة والمؤثرة في المشهد الدولي والإقليمي، خاصة أنه في حالة عدم الوصول لاتفاق سيهدر جهود التهدئة.
تشير التقارير الأممية، إلى أن تكلفة إعادة الإعمار تتكلف ما يزيد عن 80 مليار دولار، وقد تستغرق 15 عامًا، وفي حال لم تتجدد الحرب مرة أخرى، فإنه بحلول عام 2050 من الممكن أن يعود نصيب الفرد من الناتج المحلي إلى ما كان عليه عام 2022.
الأمر لا يتقصر فقط على تكلفة الإعمار، ولكن يظل هناك تساؤل ما زال عالقا ومعلقا من يمول عملية الإعمار مطروحًا؟ وسط حديث عن شرط وجود تعهدات إسرائيلية بعدم الحرب مجددًا، خشية تدمير أي عمليات إعمار يمكن أن تتم بالقطاع.
أعلنت عدة شركات مصرية نيتها المشاركة في عملية إعادة الإعمار في غزة، كما من المتوقع أن تشارك قطر وتركيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، في ظل مخاوف خليجية من المشاركة؛ بسبب شروط إسرائيل سحب سلاح حماس أو العودة للحرب مجددًا، ما قد يدفع جهود إعادة الإعمار إلى النقطة صفر مرة أخرى.