حديث ترامب أول أمس في مؤتمره الصحفي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي على ضرورة تغيير خريطة غزة وصورتها ومستقبلها بتهجير مليون ونصف مليون فلسطيني من أرضهم، وتحويل قطاع غزة إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”، وكأنه مشروع استثمار عقاري، مشكلته إنه مهدم والمطلوب جذب استثمارات لإعادة بنائه من جديد، وتحويله إلى ما يشبه المنتجع السياحي بعد تفريغه من أغلب سكانه.
وإذا كان العامل الاقتصادي والتجاري يمثل أساس مشروع ترامب، وأن مواجهته تطلب أيضا التركيز على هذا العامل الاقتصادي، إلا إنه يتطلب أيضا تضافر عده عوامل وبناء منظومة سياسية متكاملة حتى يمكن مواجهة هذا المشروع.
والمؤكد، أن عودة الفلسطينيين بعد تهجيرهم أمر غير وارد ليس فقط على ضوء الخبرات السابقة، إنما أيضا؛ لأن الهدف الأمريكي الإسرائيلي من تهجير الفلسطينيين من غزة، هو السيطرة الكاملة على القطاع وتحويله لدبي جديدة، تجذب الاستثمارات الأجنبية، وتبني بلدا يبدو فخما، يسيطر عليه الاحتلال.
المفارقة، أن ترامب هو الذي طرح مشروع التهجير بهذا الشكل القاطع، وليس نتنياهو الذي اعتبره “هدية ترامبية”، ربما كان لا يجرؤ هو على طرحها في العلن، بما يعني أن دوافع ترامب ليست بالأساس أيديولوجية أو صهيونية في دعم إسرائيل، إنما هي دوافع رجل أعمال لا يعرف إلا الصفقات التجارية، ولن نندهش إنه لم يركز فيما قاله في مؤتمر أول أمس على حق إسرائيل في حماية نفسها والقضاء على حماس، إنما قال ما لم يقله غيره، إنه يرغب في تحويل غزة إلى ريفيرا الشرق، أو كما قال صهره تاجر العقارات، إن المناطق المطلة على البحر يمكن أن تساوي مليارات الدولارات، لو أُحسن الاستثمار العقاري فيها، وهى جمل فريدة وغير مسبوقة من داعمي إسرائيل الذين روجوا لسردية سياسية تعتبر أن المقاومة المسلحة إرهاب، وأن إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل دفاع عن النفس، أما هذه المرة فالأمر تحول إلى صفقة تجارية لرجل غير داري بالتاريخ وبمعاني الاستقلال وقيم التحرر الوطني المغروسة في نفوس الفلسطينيين.
والحقيقة، أن التعامل مع ترامب لن يكون بالشعارات الأيديولوجية التي تؤكد حق الفلسطينيين في أرضهم؛ لأنه لا يفهمها، فهو ليس رجل فكر لديه مشروع عقائدي صهيوني، إنما هو رجل بيزنس وعلاقات، قوة وأوراق ضغط توزن بها الدول، ويعرف حجمها وتأثيرها، وبالتالي مطلوب من مصر ومعها الدول العربية الفاعلة، ألا تشغل بالها “بالهتيفة” ولا بالمظاهرات الباردة سابقة التجهيز، إنما ببناء منظومة متكاملة بالتحالف مع الدول العربية الفاعلة لدعم الفلسطينيين في صمودهم وتشبثهم بأرضهم، وعدم تكرار هذا “الحياد السلبي” في عدم الضغط من أجل تقديم المساعدات الإنسانية المطلوبة للفلسطينيين أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة، كما يجب أيضا بناء منظومة اقتصادية وسياسية متكاملة لمواجهة مشروع ترامب قائم على محورين:
الأول: الجبهة الداخلية أو منظومة الداخل التي ستواجه مشروع ترامب، وهي بالقطع لن تكون بمظاهرات موجهة، ولا بشعارات “حنجورية” أو تعبوية في مواجهه تاجر، لا ينتمي للصورة التقليدية للاستعمار، ولا يعرف إلا لغة الصفقات وقوتك على الأرض.
وهنا علينا ألا ننسى أن مصر سبق وواجهت ليس فقط ضغوطا خارجية، إنما غزو خارجي، كما حدث أثناء العدوان الثلاثي وقاومها الشعب وانتصر فيها؛ لأن طبيعة المعركة وثقة الناس في النظام القائم، جعلت انتصار الشعب حتميا، أما حاليا فالمعركة ليست معركة ضد غزو خارجي، ولا احتلال أجنبي سيخرج الشعب بالملايين لمقاومته كما فعل طوال تاريخه السابق، إنما هي معركة تقوم على الابتزاز الاقتصادي واستغلال هشاشة الوضع الداخلي في مصر الذي لمح له ترامب أكثر من، مرة حين قال إن أمريكا ساعدت مصر كثيرا، ويجب أن تساعدنا في هذا المشروع، وأنها ستوافق في النهاية على مشروعة.
معركة مصر لن يحلها اصطفاف وطني؛ لأن المعادلة بسيطة، وتقول إنكم في وضع اقتصادي ضعيف ومأزوم ويمكننا أن ننقذكم أو نحل جانبا من مشاكلكم الاقتصادية، لو قبلتم بمليون ونصف مليون فلسطيني؟ فهل الإجابة ستكون باستعراضات وشعارات ومظاهرات، كأن إسرائيل في حرب ضد مصر وأمريكا ستغزوها؟ أم أن المعركة في الضغوط الاقتصادية والسياسية والمطلوب تعظيم أوراق القوة وتحسين وضع مصر الاقتصادي بإجراءات فورية، تجعلها قادرة على مواجهة هذه الضغوط.
والحقيقة، إن تكرار الحديث عن ضرورة وقف المشاريع غير المنتجة، وتخارج الدولة من النشاط الاقتصادي ووضع نظام شفاف للمراقبة على أنشطة أجهزة الدولة كل ذلك سيعزز من قدرة مصر على مقاومة مشاريع ترامب.
أزمة مصر في سوء وضعها الاقتصادي وديونها التي تجاوزت ١٧٠ مليار جنيه، وهو ما يعرفه ترامب جيدا، وجعلته يقول إنها ستحصل على مال لتسديد جانب من ديونها، وأنها ستشارك أمريكا في مشروعها العقاري في غزة، وكأنه امتداد لمشاريع الدولة العقارية في مصر. إن الحل في ترتيب البيت الداخلي وأولويات التنمية بطريقة مختلفة، تنقذ البلاد من ضغوط حقيقية، يتم التعامل معها بخفة شديد وبصوت خافت وأحيانا مهتز.
مواجهه مشروع ترامب في إجراءات سياسية واقتصادية جديدة وإصلاحات جراحية عميقة، وتنسيق عربي لدعم الصمود الفلسطيني يبني على بيانات وزاراتي الخارجية في مصر والسعودية الرافض بشكل واضح لمشروع التهجير.
لم يحدث في التاريخ، أن اعتبرت أرض محتلة مشروع تجاري فالمطلوب أولا أن تكون أرض محررة، ويعيش شعبها بحرية وكرامة في دولته المستقلة، ثم بعدها يقرر أي المشاريع أنسب لتنميته وازدهاره، وحتى في هذه الحالة لن تبني المشاريع العقارية دولة كبيرة أو صغيرة، قديمة أو ناشئة، على الفلسطينيين أن يختاروا نموذجهم للتنمية المنتجة التي يرغبونها، بعد أن ينالوا أولا الحرية.