مع فشل أغلب جهود الوساطة الأنجولية والإقليمية المبذولة لوضع نهاية دبلوماسية- مرحلية على الأقل- للأزمة في شرقي الكونغو، وتقديم تركيا نهاية يناير الماضي، عرضًا غير مكتمل بالوساطة بين الكونغو ورواندا، تداعت الأزمة الأخيرة منذ منتصف يناير الفائت في شكل عودة قوية للهجمات المتبادلة بين قوات جيش جمهورية الكونغو الديمقراطية وقوات المتمردين من الحركة المعروفة باسم “حركة M23” التي تدعمها بشكل كامل دولة رواندا المجاورة، حيث ساهم هذا الدعم في نجاح قوات M23 في الاستيلاء على مدينة جوما عاصمة إقليم كيفو الشمالي (27 يناير)، مما يؤشر إلى تصعيد إقليمي مرتقب في الأزمة في الشهور المقبلة في ظل غياب مبادرات جادة، وبدء توجه إقليمي بدفع كينشاسا للدخول في محادثات مباشرة مع حركة M23، مما يعني تكريسًا للأمر الواقع.
قاد التصعيد الحالي إلى تضخم أزمة المشردين الداخليين، حيث تجاوز إجمالي أعداد الكونغوليين الذين تركوا منازلهم حاجز 7 ملايين نسمة، حسب تقارير صادرة عن الأمم المتحدة قرب نهاية يناير 2025، مع ارتفاع أعداد القتلى في النصف الثاني من يناير الماضي إلى قرابة ألف شخص، حسب تقارير مهمة من الأمم المتحدة([1])؛ مما يجعل الأزمة هي الأكبر من نوعها في العالم، ويثير تساؤلات حول سبب التجاهل الدولي والإقليمي غير المبرر لها، باستثناء تفسيرات استدامة نهب موارد الكونغو المعدنية بنهم متزايد من قبل أغلب الأطراف الدولية والإقليمية وثيقة الصلة بأهداف رواندا (التي تستسيغ وصفها “بإسرائيل إفريقيا” منذ سنوات) في شرقي الكونغو، والتي يمكن قراءتها في ضوء زيارة رئيس رواندا بول كاجامي الأخيرة إلى تركيا (23 يناير) قبل أيام قليلة من هجوم جوما، وتحصله على دعم إسرائيلي متجدد وفق المحادثات الهاتفية بين وزير خارجية رواندا ونظيره الإسرائيلي نهاية يناير وسط تقارير عن استخدام حركة M23 أسلحة “مشابهة للأسلحة الإسرائيلية” في هجومها الأخير على جوما، والمرتقب نحو العاصمة كينشاسا.
التطور العملياتي: تراجع الجيش الكونغولي وتقدم قوات التمرد
![حركة M23](https://masr360.net/wp-content/uploads/2025/02/حركة-M23.webp)
واصلت حركة M23، لا سيما منذ النصف الثاني من يناير 2025، تقدمها نحو مدينة جوما (كبرى مدن شرقي الكونغو والواقعة على الحدود مع رواندا، وسبق أن سيطرت عليها الحركة لمدة أسبوع كامل في العام 2012)، حتى أسقطتها بالفعل في 27 يناير الماضي؛ مما أدى إلى تشرد أكثر من مائتي ألف كونغولي في يناير الماضي وحده.
اتسق هذا التطور مع تحقيق قوات التمرد تقدمات ملموسة في الشهور الأخيرة من العام 2024. وقد اكتظ عشرات الآلاف من المشردين الكونغوليين على أطراف مدينة جوما (عاصمة إقليم كيفو الشمالي، والتي يبلغ عدد سكانها قرابة مليوني نسمة). وفي الوقت نفسه أكد جان- جاك بوروسي Jean-Jacques Purusi، الحاكم الإقليمي لإقليم كيفو الجنوبي، نبأ استيلاء حركة M23 على مدينة مينوفا مضيفًا معلومات حول استيلاء المتمردين على مدن تعدينية هامة، مثل لومبيشي Lumbishi، ونومبي Numbi، وشانجي Shanje، إضافة إلى مدينة بويريمانا Bweremana في إقليم كيفو الشمالي. وأكد الجيش الكونغولي في بيان رسمي (21 يناير) تحقيق قوات التمرد M23 اختراقات مهمة في مينوفا وبويريمانا([2]).
وواصلت قوات M23 (حسب تقارير موثقة من وكالة الأنباء الفرنسية وزعتها في 23 يناير الجاري) تقدمها على حساب الجيش الكونغولي الذي وصفته تلك التقرير “بالضعيف” في شرقي البلاد. كما أحكمت الحركة قبضتها على مدينة جوما في 27 يناير. وأرجعت التقارير هذا النجاح إلى نقاط الضعف في إدارة الجيش الكونغولي للمعارك في شرقي البلاد ودعم رواندا القوي والمتزايد لحركة M23، مما يعزز فرضيات تمكن الحركة من إحكام قبضتها مرة أخرى في مواقع تالية لجوما. وعززت هذه التطورات ما صدر عن تقرير خبراء الأمم المتحدة (يوليو 2024، واطلعت عليه وقتها وكالة الأنباء الفرنسية) من تدفق 3- 4 آلاف جندي نظامي رواندي لدعم حركة M23، والمحاربة إلى جوارها، بحيث باتت القوات الرواندية هي قوة الأمر الواقع في شرقي الكونغو وفي إدارة عمليات حركة M23([3]).
ومع قرب نهاية يناير الفائت، بادرت قوات الجيش الكونغولي بدفع أعداد إضافية من عناصرها لمواجهة قوات M23، والعمل على وقف تقدمها الملفت منذ مطلع العام الجاري. وجاء هذا التحرك (حسب تقارير مهمة بدءًا من 24 يناير) للتصدي لحالة الفزع البالغ وموجات التشرد الداخلي المتزايدة من مدينة جوما التي تعد مركزًا إقليميًا في شرقي الكونغو لقوات الأمن الكونغولية وجهود الإغاثة الإنسانية التي تقودها الأمم المتحدة في الإقليم. كما تخشى كينشاسا من نجاح تداعيات قوات M23 في الاستيلاء على جوما بعد نجاحات مباغتة في الأسابيع الأخيرة في استيلاء الحركة على مدن مينوفا وكاتالي وماسيسي والواقعة جميعها غربي جوما، مما يعني الاقتراب عمليًا من العاصمة كينشاسا في المرحلة المقبلة ([4]).
وفي 31 يناير، تعهدت حركة M23 بمواصلة تقدمها نحو العاصمة كينشاسا في الفترة المقبلة، مما يهدد بتمدد الأزمة في الكونغو بشكل غير مسبوق، وتجاوز أعداد المشردين الداخليين حاجز 10 ملايين شخص في أسابيع قليلة.
الغرب والكونغو.. مرحلة جديدة من النهب
تقع جمهورية الكونغو الديمقراطية، وهي واحدة من أغنى دول العالم بالموارد المعدنية الهامة للصناعات الحديثة والمتقدمة، في قلب اهتمامات الدول الغربية منذ التكالب الاستعماري الحديث على القارة في نهاية القرن التاسع عشر. لكن إعلان حكومات الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة (24 يناير) دعوة مواطني دولها بمغادرة شرق الكونغو، ولا سيما مدينة جوما؛ تحسبًا لصدامات عنيفة بين الجيش الكونغولي وقوات المتمردين في الأسابيع المقبلة ([5])، يؤشر إلى فشل ملموس في جميع جهود الوساطة الإفريقية الأخيرة للتوصل لتسوية للأزمة، مع رفع تلك الدول الغربية أياديها عن التدخل في الأزمة وتعميق التعامل مع الكونغو، باعتباره “رجل إفريقيا المريض”، مما يسمح بالافتئات على سيادته ووحدة أراضيه كأمر واقع، بل ودافع لتحقيق مصالح تلك الدول دون أعباء تذكر.
وجاء قرار العواصم الغربية وسط توقعات منظمات غربية مهمة تشرد أكثر من 400 ألف مواطن كونغولي في الأسابيع المقبلة؛ جراء الصدامات في شرقي الكونغو، وما وصفته صحيفة لوموند الفرنسية (24 يناير) باحتمالات تحول الصراع إلى “حرب إقليمية”([6]) كاملة الأركان. ورغم هذا التصعيد الكبير تظل مواقف الدول الغربية عند حدود “الترقب” وعدم الاكتراث المطلوب.
ولاحظت “لوموند”، أن توجيهات العواصم الغربية لمواطنيها بالمغادرة تمت عبر كافة وسائل التواصل الممكنة (الإيميلات والرسائل النصية والمكالمات الهاتفية وغيرها)، فيما لا تزال المطارات والطرق في شرقي البلاد مفتوحة وتعمل بسلاسة نسبية، بينما تواصل القوات العسكرية الكونغولية مدعومة بقوات الأمم المتحدة (قوات الرد السريع MONUSCO’s Quick Reaction Forces) المواجهات العنيفة مع قوات المتمردين (حسب بيان للأمم المتحدة في 23 يناير الفائت).
ويبدو أن الدول الغربية باتت تميل لقبول أفكار توسع الحرب في شرقي الكونغو إلى حرب إقليمية مستدامة في الإقليم، تعيد أجواء مطلع تسعينيات القرن الماضي، دون إبداء المساعي الضرورية لمواجهة هذه الحرب، ووضع أطرافها (وفي مقدمتهم رواندا) عند مسئولياتهم الدولية والإقليمية.
تركيا والأزمة في شرق الكونغو: وساطة لمأسسة النهب؟
استكمالًا للحضور التركي المتصاعد في الشئون الإفريقية، بادرت أنقرة بعرض وساطتها في الأزمة الجارية في شرقي الكونغو بين حكومتي رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجاء ذلك في تأكيدات الخارجية التركية استعدادها لبذل أي نوع من الدعم؛ لإنهاء الحرب (في شرقي الكونغو) ([7]).
وجاء عرض الوساطة التركي دالًا على فشل المقاربة الإفريقية في مواجهة الأزمة، ومؤشرًا إلى اضطلاع فاعلين آخرين بجهود مواجهة هذه الأزمة، تتضمن- ضمنًا وقياسًا لتجارب الوساطات التركية الأخرى في أزمتي ليبيا والصومال- إثيوبيا على سبيل المثال- إعادة توزيع المكاسب التي ستترتب على أية تسوية سلمية، مثل الموارد المعدنية الهامة في شرقي الكونغو ومأسسة الاستحواذ الجائر عليها. وإجمالًا فإن العرض التركي (الذي أعلنته أنقرة على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان الخميس 23 يناير) يستهدف حل المشكلة” على نحو يسهم في استقرار وسلام إقليم البحيرات الكبرى”. كما كشف إعلان أردوغان عن عرض الوساطة عقب لقاء مع نظيره الرواندي بول كاجامي عن قناعة الأخير بتنحية جميع المبادرات الإفريقية الحالية أو المحتملة (مع قرب انعقاد قمة الاتحاد الإفريقي بعد أيام قليلة) الرامية للتدخل في الأزمة لصالح الوساطة التركية، كما يؤشر توقيت الدعوة (قبل أيام من جولة إفريقية مرتقب لأردوغان، تركز على الأزمة الصومالية- الإثيوبية) إلى تمكن تركيا من تعزيز حضورها الإفريقي كمنسقة للتدخل الدولي مع بدء إدارة ترامب الثانية عملها قبل أيام قليلة من قمة تركيا- رواندا ([8]).
![الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الرواندي بول كاغامي خلال مؤتمر صحفي في أنقرة](https://masr360.net/wp-content/uploads/2025/02/الرئيس-التركي-رجب-طيب-أردوغان-والرئيس-الرواندي-بول-كاغامي-خلال-مؤتمر-صحفي-في-أنقرة.jpg)
وفي 25 يناير الفائت (قبيل سقوط مدينة جوما بساعات)، أعلنت الخارجية الكونغولية على لسان نائبة وزير الخارجية جراسيا يامبا كازادي، رفض كينشاسا عرض الوساطة الذي قدمته تركيا “للرئيس بول كاجامي”، موضحًا أن بلاده لم تطلب أية وساطات (من تركيا)، وأنها ترى أن “الحلول الإفريقية، يجب أن يطرحها الأفارقة”، وأن كينشاسا لا تزال ملتزمة “بعملية أنجولا” التي أطلقها الاتحاد الإفريقي ([9]). لكن الموقف الكونغولي واجه ضربة قاصمة بعد إعلان جماعة شرق إفريقيا حثها كينشاسا على الدخول في محادثات سلام مباشرة مع حركة M23، وهو ما طالبت به مرارًا رواندا، ورفضته كينشاسا، باعتبارها تدخلًا في شؤونها الداخلية.
وهكذا يبدو أن حظوظ الوساطة التركية، أو فرض حل على الكونغو كينشاسا، ستكون مرتفعة نظريًا لعدة اعتبارات، منها قدرة أنقرة على تقديم معادلة مقبولة دوليًا (وحتى لدول شرق أوسطية) من قبل الأطراف المعنية باستدامة نهب الموارد المعدنية الهامة في الكونغو في ظل الفوضى التي تضرب شرقي الكونغو، ويمكن تصاعدها لمستويات غير مسبوقة من عقود في الشهور المقبلة، ووضع خريطة محاصصة، يتم فرضها على كينشاسا، وتكون مقبولة من قبل كيجالي، واحتمالات أن تكون تلك الجهود التركية في سياق “تقسيم العمل الأمريكي” المرتقب في إفريقيا في ظل إدارة ترامب الثانية.
ختامًا، تهدد الأوضاع المتردية في شرقي الكونغو، واحتمال تمكن قوات حركة M23 من الاقتراب من العاصمة الكونغولية كينشاسا بدعم مباشر من قوات الجيش الرواندي النظامية بانفلات واحدة من أكبر الأزمات الإفريقية المعاصرة مع تجاوز أعداد المتأثرين من الأزمة بشكل مباشر حاجز 7 ملايين نسمة، وتوقعات تضاعف هذا الرقم حال نجاح قوات التمرد في مسعاها المعلن. كما أن عجز ديناميات العمل الإقليمي عن وضع تسوية مرحلية للأزمة وإفساح الطريق أمام وساطات من خارج القارة، يعني في المحصلة منهجية مألوفة لفرض تسوية يأتي في صلبها مأسسة نهب موارد الكونغو على المدى البعيد.
[1] At least 700 killed in DR Congo fighting since Sunday – UN, BBC, January 31, 2025 https://www.bbc.com/news/articles/c78xvgvy172o
[2]A rebel group is advancing on eastern Congo’s largest city and over 100,000 people have fled, AP News, January 22, 2025 https://apnews.com/article/congo-rebels-m23-displaced-conflict-bdd3579ee7852722a2dbc5aa37c75d62
[3] Agence France Presse, Advancing M23 Fighters In DR Congo Aided By Rwanda Backing, Army Weakness, Baron’s, January 23, 2025 https://www.barrons.com/news/advancing-m23-fighters-in-dr-congo-aided-by-rwanda-backing-army-weakness-f021df51
[4] DR Congo: Military fights to halt M23 rebels, UN ‘alarmed’, DW, January 24, 2025 https://www.dw.com/en/dr-congo-military-fights-to-halt-m23-rebels-un-alarmed/a-71392646
[5] France, US, UK urge nationals to leave DR Congo’s Goma as M23 battles intensify, France 24, 2025 https://www.france24.com/en/africa/20250124-france-us-uk-urge-nationals-to-leave-dr-congo-s-goma-as-m23-battles-intensify
[6] DR Congo battles intensify, Western nations ask citizens to leave Goma, Le Monde, January 24, 2025 https://www.lemonde.fr/en/le-monde-africa/article/2025/01/24/drc-governor-killed-on-front-line-fighting-against-m23-rebels_6737391_124.html
[7] Congo conflict: Türkiye offers to mediate widening gulf among parties, The East African, January 24, 2025 https://www.theeastafrican.co.ke/tea/news/east-africa/as-congo-conflict-worsens-tuerkiye-offers-to-mediate-4900196
[8] Agence France Presse, Turkey Offers To Mediate Between Rwanda And DR Congo, Barron’s, January 24, 2025 https://www.barrons.com/news/turkey-offers-to-mediate-between-rwanda-and-dr-congo-ea6fb606
[9] Congo rejects Türkiye offer of mediation in spat with Rwanda, The East African, January 26, 2025 https://www.theeastafrican.co.ke/tea/news/east-africa/congo-rejects-tuerkiye-offer-of-mediation-in-spat-with-rwanda–4901940