تكاد تصريحات ورؤى الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” للسيطرة الكاملة على قطاع غزة بعد إخلائه من سكانه، ألا تصدق من فرط مصادمة الحقائق والغلو في التعسف مع أية حقوق فلسطينية سياسية وإنسانية.
هذا تطهير عرقي صريح دون ريب.
حاول أن يضفي دون جدوى طابعا إنسانيا على جريمة حرب متكاملة الأركان.
قال إن تطهير غزة مؤقت لحين إعمارها، الذي قد يمتد إلى خمسة عشر عاما، ثم عاد لينفي بصريح العبارة أية عودة محتملة بعد أي عدد من السنين.
لم يعد سؤال اليوم التالي: من يحكم غزة؟
أصبح الآن: لمن غزة؟
بدت إجابته في جوهرها نسخة رديئة من الإرث الاستعماري القديم.
لم يخف رغبته في احتلال القطاع وتطهيره من سكانه.
يعمره ويستثمر في شواطئه الساحرة وجوه المعتدل، كما قال حرفيا عند صعوده إلى البيت الأبيض.
إنه يتحدث كمطور عقاري، لا كرئيس لأكبر قوة في العالم.
تتماهى رؤيته مع نزعات مماثلة أخرى لديه لشراء جزيرة جرينلاند الدنماركية غصبا، وضم كندا إلى الولايات المتحدة دون أي قواعد، كأنها عملية احتلال لا وحدة بين دولتين جارتين بينهما أواصر مشتركة، والاستيلاء على قناة بنما، وتغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا.
أنه رجل يطلب نوعا من “سلام القوة”، أن يفرض كلمته، ولا راد لها على العالم كله، كأن القانون الدولي حذف من القواميس السياسية، أو كأننا عدنا إلى العصور الاستعمارية بكامل مفرداتها.
ليس قطاع غزة وحده، الضفة الغربية أيضا، سوف تتعرض لمصير مشابه من التهجير القسري.
هو نفسه قال، إنه سوف ينظر في أمرها قريبا متماهيا مع اعتقادات اليمين الصهيوني في أكثر صورها عنصرية وتوحشا.
إنه رجل يستثمر في حرب الإبادة على غزة.
غريمه الرئيس الأمريكي السابق “جو بايدن”، وفر لآلة الحرب الإسرائيلية الغطاء الاستراتيجي والسياسي والعسكري، وهو الآن يكمل المهمة بالتطهير العرقي والتهجير القسري.
بدا مثيرا، أن يتحدث عن معاناة غزة، التي لم تعد تصلح للحياة، فيما لم يدن بحرف واحد حرب الإبادة، التي تعرضت لها لخمسة عشر شهرا.
ولا أشار إلى أي مسئولية، يتحملها رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، الرجل الذي جلس بجواره مبتسما في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، كأنه غير ملاحق بمذكرة توقيف استصدرتها بحقه المحكمة الجنائية الدولية وحكومته متهمة بأبشع التهم، الإبادة الجماعية، أمام محكمة العدل الدولية.
وبدا مثيرا أيضا، أن “نتنياهو” يدعو في نفس المؤتمر الصحفي إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط، معتمدا على دعم “ترامب”، دون أدنى استعداد لتقديم أية رؤية سياسية، تتجاوز الترويع والقتل.
بصورة أو أخرى، سوف تساعد تصريحات ورؤى “ترامب” في ترميم تصدعات الحكومة اليمينية الإسرائيلية.
المشهد منذر بموجات عنف وفوضى في الإقليم كله.
إسرائيل لن تحتمل، والولايات المتحدة سوف تضار في مصالحها الاستراتيجية بأكثر من أي توقع.
الدنيا تغيرت، عما كانت عليه قبل نهاية الحرب العالمية الثانية.
في أعقاب تلك الحرب سقطت الإمبراطوريتان الاستعماريتان القديمتان البريطانية والفرنسية، ونشأت قواعد جديدة في إدارة الصراعات الدولية، أدخلت عليها تعديلات من حقبة لأخرى.
نشأ ما أطلق عليه الاستعمار الجديد، الاقتصادي بالدرجة الأولى.
بدا أن النسخة القديمة من الاستعمار لا سبيل لعودتها مرة أخرى، فقد سحقت بفضل حركات التحرر الوطني، التي لعبت مصر دورا جوهريا في قيادتها خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
إنه “إلغاء للتاريخ”.
تأميم قناة السويس عام (1956) كان في جوهره رد فعل تاريخي على إرث طويل من إهدار الكرامة الوطنية واستقلال القرار.
تحررت مصر بفواتير الدماء التي بذلت في حرب السويس، لا باتفاقية الجلاء التي وقعها “جمال عبد الناصر” عام (1954).
انطوت تلك الاتفاقية على تنازلات، تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس، إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.
من حين لآخر، هناك من يعمل على تزييف الحقائق بداعي كراهية ثورة (23) يوليو (1952).
قيل بالادعاء، إن مصر اكتسبت استقلالها بموجب تصريح (28) فبراير (1922)، الذي أعلنته بريطانيا من طرف واحد.
وقيل إنها أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة بعد إلغاء الحماية عليها.
احتفظت بريطانيا بحق تأمين مواصلات إمبراطوريتها في مصر، وحقها في الدفاع عنها ضد أي اعتداء، أو تدخل أجنبي وحماية المصالح الأجنبية والأقليات فيها وإبقاء الوضع في السودان على ما هو عليه!
كان ذلك استقلالا صوريا.
كان حادث (٤) فبراير (١٩٤٢)، قبل عشر سنوات من إطاحة الملك “فاروق”، نقطة تحول جوهرية في العلاقات بين قصور الحكم بكل تعقيداتهاـ قصر عابدين حيث يحكم الملك، وقصر لاظوغلي حيث الحكومة، وقصر الدوبارة حيث يملي السفير البريطاني الكلمة الأخيرة.
بصياغة أخرى، فهو اليوم المؤسس لكل ما جرى حتى (٢٣) يوليو.
في ذلك اليوم، وجه السفير البريطاني السير “مايلز لامبسون” إنذارا إلى الملك الشاب “فاروق”، الذي دأب على وصفه بـ”الولد”، وكان الوصف شائعا على لسانه، وسجله تكرارًا في مذكراته.
كان “فاروق” وقتها في الثانية والعشرين من عمره.
يقول نص الإنذار: “إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة من مساء اليوم، إن مصطفى النحاس دعي إلى تأليف الوزارة، فإن الملك فاروق يتحمل تبعات ما يحدث”.
كان النص، الذي أملاه السفير البريطاني على رئيس الديوان الملكي “أحمد حسنين”، مهينًا بأي معنى سياسي، وكاشفا لوهم “الاستقلال الصوري”، الذي حصلت عليه مصر.
بحقائق القوة المجردة، لم يكن هناك محل لادعاء استقلال، أو سيادة، أو احترام لـ”مليك البلاد”.
وكان “مصطفى النحاس” ضحية للتناقض بين ما رآه حقا أصيلا للوفد، باعتباره حزب الأغلبية الشعبية أيا كانت الملابسات والظروف، وبين ما اعتقد فيه طيف واسع من المصريين، من أنه تقبلها على “أسنة الحراب البريطانية”.
الحادث بدلالاته وردات فعله، سحب من “الحق” شرعيته السياسية والأخلاقية على نحو أثر بقسوة على سمعة حزب الأغلبية الشعبية.
لا يصح تحت أي ظرف، ومهما كان الثمن فادحا، أن يعاملنا أحد كدولة مستعمرة، تخضع للإمبراطور الجديد “ترامب” ووزير مستعمراته “نتنياهو”.
إذا لم ترفع مصر رأسها، تغضب لنفسها وتاريخها، لأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية، فسوف نخسر كل رهان ويضيع كل معنى.