قبل أن يتسلم دونالد ترامب مهام منصبه، وحتى اليوم، وهو يَصْدُر عنه مواقف خرقاء وشطحات، تمثل خوضا جانحا بعيدا حتى عن الشعارات، التي سبق أن أعلنها فور إعلان فوزه، من أن فترة حكمه سيسود فيها السلام في العالم.
واحدة من أبرز هذه المواقف هو ما تحدث عنه أكثر من مرة بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن. بطبيعة الحال وجدت مواقف ترامب معارضة رسمية وشعبية كبيرة في بلدان العالم الإسلامي والعربي، وبالأخص في الدولتين المعنيين مباشرة بحديثه، مصر والأردن.
ما من شك، أن ما صرح به دونالد ترامب يشكل تصعيدا كبيرا، لكونه ينحاز بشكل آلي ليس فقط للرؤى الصهيونية، بل إنه ينحاز لرؤى التيار اليميني المتطرف في إسرائيل، سواء الديني أو العلماني، وهو التيار التلمودي والحريدي والأكثر تطرفا والداعي إلى تصفية القضية الفلسطينية بالوسائل المرتبطة بالتصفية الجسدية وارتكاب المذابح، والعقاب الجماعي، وسياسة التجويع، وتهجير وتشريد السكان أصحاب الأرض، ونهب المقدرات والثروات والممتلكات وانتهاك المقدسات. أبرز الأمور التي ستعد من تداعيات سياسة مواقف ترامب، لو حاول تطبيق تلك السياسة على الأرض، هو استفحال المشكلة الفلسطينية، وعلى رأسها أزمة اللاجئين، التي نالت دوما قسطا مهما من مناقشات الأمم المتحدة، منذ القرار الأممي رقم 194 الداعي إلى حق عودة الفلسطينيين عقب نكبة 1948. وهو ما يشكل نكبة جديدة، تضاف إلى النكبات التي ارتكبتها إسرائيل بدعم كامل من الغرب، خاصة بريطانيا وفرنسا، ثم لاحقا وحتى اليوم الولايات المتحدة الأمريكية. وهو أيضا أمر تجاوز قرار 181 المؤسس لإسرائيل في نوفمبر 1947، حيث احتلت إسرائيل مساحات واسعة من الأراضي في النقب والجليل خلال نكبة 1948، قبل أن تتوسع ثانية في حرب 1967.
المؤكد، أن دعوات ترامب تجد لها فرص وقيود أمام المخاطبين بها، لكن يبدو أن فرص تمريرها أقل بكثير من فرص القفز عليها ومواجهتها بسبل عديدة.
بداية يمكن الإشارة إلى أن موجات الإبادة للمدنيين التي ارتكبتها إسرائيل خلال حربها في غزة، والتي استمرت لنحو 470 يوما، أوضحت للعالم، بما لا يدع مجالا للشك، أن الشعب الفلسطيني صمد وتمسك، ولا زال بأرضه وموقعه، تشهد على ذلك موجات النزوح المتتالية إلى شمال غزة عقب وقف إطلاق النار، والتي كان غرض إسرائيل- غير المعلن- من الحرب، أن يقوم الفلسطينيون بالهجرة القسرية إلى سيناء، وهو أمر لم يحدث على الإطلاق، لكونه غير مقبول رسميا وشعبيا من الجانبين المصري والفلسطيني. يكفي هنا أن يرى ترامب وأركان إدارته، وقادة اليمين الصهيوني المتشدد في إسرائيل الطوفان البشري الفلسطيني في موجات العودة إلى شمال القطاع، والتي شهدها العالم، بما يشبه نفرة الحجيج يوم عرفة، رغم علم هؤلاء، أنهم يذهبون إلى الرماد والركام والأطلال، وإلى مصير يتجهمهم.
سبب ثانٍ، سيؤكد فشل المخطط الأمريكي المقترح، هو أنه مخطط مرفوض عالميا، إذ لم ترحب به دولة واحدة، لكونه يمثل جنوحا ومجونا فكريا. ولعل ما زاد من رفضه، أنه ترافق مع خيالات ترامب الشاردة تجاه العديد من بلدان العالم. فمن مواقفه المعادية لبلدان أمريكا اللاتينية وعلى رأسها المكسيك والبرازيل وكولومبيا وفنزويلا وبنما جنوبا غرب المعمورة، إلى الصين العدو التقليدي له في شرقها، مرورا بالضغط الشديد على الحلفاء التقليديين في الدنمرك وفي الشمال في كندا، ما جعل الرجل، لم يترك له صديقا، بل إن شئنا القول، إن الرجل ربما وحد بعض الخصوم أو الأنداد، ما سيجعله مستقبلا في مواجهة غضب شعبي أمريكي، لكونه عمق كراهية شعوب العالم للولايات المتحدة.
سبب ثالث، متعلق بصعوبة تمرير مقترح ترامب، هو أنه “يفكر على قديمه” بمعنى كونه رجل أعمال، يظن أن الضغط على الخصوم اقتصاديا، ربما يجعلهم أكثر خضوعا وانصياعا لرغبته. هذا التفكير ربما ينجح في العلاقة بين الأفراد أو الشركات، لكنه يستحيل أن ينجح في العلاقات بين الدول. روسيا وكوريا الشمالية وإيران وكوبا والصين، هي أبرز الدول المتقدمة والنامية التي طالتها العقوبات القاسية، ولم ترضخ أو تلين مواقفها حتى اليوم.
سبب رابع، لاستشراف فشل المخطط الترامبي المؤيد بشكل كامل من اليمين الصهيوني، هو أن هذا المخطط الذي يتوافق مع ما يطرحه نتنياهو من رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، حسبما أعلن قبل لقائه بترامب، يتجاهل مآل المخططات السابقة التي صرح بها الصهاينة على مر العقود السابقة بدعم أمريكي كامل. تلك المخططات كان محطها سلة المهملات، لكونها تجاهلت رغبات أصحاب الأرض والدول أصيلة الوجود في المنطقة، واعتمدت على رؤى الدخلاء المستعمرين المدعومين من الولايات المتحدة، فكان يتحتم أن تفشل، كونها تريد لذاتها كل شيء، وترفض أن تعطي أي شيء.
سبب خامس، لرفض المخططات الأمريكية والصهيونية، هو أن ترامب يعتقد، أن بإمكانه لو أغرى مصر بأمور من قبيل إسقاط بعض الديون أو كبح جماح إثيوبيا بشأن سد النهضة، وأظهر لها بالمقابل عصى صندوق النقد الدولي والمعونات العسكرية والاقتصادية الأمريكية السنوية لأدى الأمر إلى تنازل مصر عن مواقفها المبدئية إزاء مسألة التهجير.
ما لا يدركه ترامب بشأن هذا الأمر الأخير، هو أنها رغم كونها عانت الأمرين من حرب غزة، وأنها خسرت بسبب قناة السويس وحدها نحو 7 مليارات دولار على حد تقدير الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس هيئة قناة السويس، فإنها لن يضيرها كثيرا أي تهديد مذكور آنفا، كونه أقل شأنا. وبالنسبة للمياه، فإنها طورت، ولا تزال طرقا عديدة لتوفير المياه. ما لا يدركه ترامب أيضا، أن هناك بدائل أمام صانع القرار المصري للحصول على منح ومساعدات خارجية سواء خليجية أو من بلدان تنتمي للبريكس.
تبقى قضية المساعدات العسكرية وقطع الغيار الأمريكية التي قد تبدو للبعض مشكلة في الأجل القريب. إذ من المعروف أن الولايات المتحدة تقدم لمصر سنويا منحا تقدر بـ 2,150 مليار دولار منها 815 مليون جنيه منح اقتصادية والباقي مساعدات عسكرية، وتلك المساعدات لها مقابل مرتبط بتسهيل المرور العسكري الأمريكي بقناة السويس، وتحليق الطائرات الأمريكية في سماء مصر أحيانا، والتزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل. هنا من المهم الإشارة إلى أن تنويع مصادر السلاح وجلب عتاد عسكري من بلدان كالصين وروسيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، هو من قبيل البديل الجيد على المديين المتوسط والبعيد، وقد قامت مصر بذلك في أكثر من صفقة استيراد سلاح من الخارج في الآونة الأخيرة، بعدما وجدت أن السلاح الأمريكي هو مجرد كم، وليس كيف، مقارنة بما تمنحه الولايات المتحدة لإسرائيل. هنا يجب الإشارة إلى أن مصر قامت في السنوات الأخيرة، بعقد صفقات مع روسيا لجلب مقاتلات MiG 29M2 مسلحة بأسلحة جو- جو، بعدما رفضت الولايات المتحدة تطويرF16، وقامت بالحصول من فرنسا على مقاتلات الرافال وحاملة طائرات هليكوبتر، ومن ألمانيا على الغواصات، ومن كوريا الجنوبية على المدفع الثنادر الذي يحل محل المدفع الامريكي أم ١٠٩، وربما تحل قريبا جدا المقاتلة الصينية J-10 محل المقاتلة F-16 وأسلحة الدفاع الجوي الأمريكي هوك وشابرال، وذلك بالحصول على صواريخ أس ٣٠٠ وبوك وتورا الروسية.
هكذا تبدو فرص مصر في رفض تلك القسمة الضيزى أكبر بكثير من فرص قبولها.