بدت الزيارة التي قام بها العاهل الأردني “عبد الله الثاني” إلى البيت الأبيض كاشفة ومنذرة معا، بما قد يحدث في الإقليم من سيناريوهات فوضى ونذر حرب، لا يمكن تجنبها.

لا أحد يريد الحرب، لكنها قد تفرض على مصر.

لا يصح استبعاد أي سيناريو.

بنص كلام الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” أمام العاهل الأردني، فإن: “جزءا من الأردن وجزء من مصر” سوف يهجر إليهما أهل غزة.

لم يتردد في دعم فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية خلال مدة لا تتجاوز الشهر.

إذا ما جرى تهجير قسري من الضفة الغربية إلى الأردن، فإن مصير ذلك البلد العربي يصبح في مهب الرياح.

وإذا فُرض السيناريو نفسه على سيناء، فإنها الحرب لا محالة.

ليس بوسع أحد أن يتجاهل عواقبه الوخيمة على الأمن القومي المصري.

الأمن القومي يتقوض تماما، وتخسر مصر كل رهاناتها على المستقبل مرة واحدة.

التفريط خطيئة تاريخية لا تغتفر.

هكذا بكل وضوح.

“لقد عرضنا قضية فلسطين خطأ على الشعب المصري، حين صورناها له، وكأنها تضامن مع شعب شقيق، فتلك ليست القضية الحقيقية، وإنما كانت القضية الحقيقية وصميم الموضوع، هو الأمن المصري”- على ما قال ذات مرة الأستاذ “محمد حسنين هيكل”.

في المؤتمر الصحفي المشترك، الذي لم يكن مقررا، لم يوافق “عبد الله الثاني” على خطة “ترامب” ولا عارضها بقوة ووضوح.

تملكته مخاوفه من إغضاب “الثور الهائج”.. وبدت تعبيرات وجهه محزنة في لحظة تقرير مصير.

لتدارك آثار تلك الصورة السلبية، التي ظهر بها، أكد تاليا عبر وزير خارجيته الرفض القاطع لخطة “ترامب”.

كان ذلك أقصى ما استطاعه قائلا إن هناك خطة مصرية سوف تعرض على البيت الأبيض باسم الدول العربية.

لا يوجد تاريخ محدد ونهائي حتى اللحظة لزيارة مصرية مماثلة إلى واشنطن.

المعلومات متضاربة، واحتمال تأجيلها وارد.

الأفضل ألا تتم قبل استيفاء عوامل القوة في الموقف المصري، وإلا فإن المشهد قد يكون مهينا للبلد كله.

استباقا لقمة واشنطن، أعربت مصر في بيان رسمي اعتزامها “طرح تصور متكامل لإعادة إعمار قطاع غزة، بصورة تضمن بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه، وبما يتسق مع حقوقه الشرعية والتاريخية”.

هذه الصيغة لا تلبي مطالب “ترامب” وهدفه المباشر من خطة “تطهير غزة”، وهو إنهاء القضية الفلسطينية إلى الأبد.

قيمة البيان المصري في الجملة التالية: “إن أية رؤية لحل القضية الفلسطينية ينبغي أن تأخذ في الاعتبار تعريض مكتسبات السلام في المنطقة للخطر”.

إنه تلويح واضح بتعليق اتفاقيات السلام، التي وقعت مع إسرائيل، “كامب ديفيد” و”وادي عربة” و”أوسلو” وأخيرا الاتفاقيات الإبراهيمية.

التلويح بذاته خطوة متقدمة، لكنه يصعب الالتزام بكامل مقتضياته في الأوضاع العربية الراهنة.

إنها معضلة حقيقية، قد يساعد في حلحلتها أن مصر والأردن والسعودية ودول عربية أخرى تتهددها مخاطر حقيقية.

إذا بُني موقف عربي مشترك على شيء من الصلابة، فإنه يمكن صد تغول “ترامب” على كل حق عربي وفلسطيني.

إن لم يحدث ذلك، فإن مصر لا بد أن تتحمل المسئولية أيا كانت النتائج والعواقب.

الاستضعاف يغري بالعدوان.

في بداية الحرب على غزة، تبنى وزير الخارجية الأمريكي السابق “أنتوني بلينكن” مشروع التهجير إلى سيناء مقابل تخفيف وطأة الديون الأجنبية على مصر.

بالغرف المغلقة، جرى التلويح بتعليق، وليس إلغاء، اتفاقية “كامب ديفيد”.

بدا التماسك النسبي في الموقف العربي رادعا آخر.

إذا ما توافرت الجدية اللازمة في ذلك التلويح، فإنه يصعب على “ترامب” مواجهة عواقبه، التي تمثل إضرارا فادحا بالمصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأمريكية في واحدة من أكثر مناطق العالم أهمية وخطورة.

هذا رادع له قيمته وتأثيره على مراكز القرار في العالم الغربي كله، لا على إدارة “ترامب” وحدها.

عقب توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” (1978)، قالت صحيفة “الجيروزاليم بوست” الإسرائيلية، إنه أهم حدث في تاريخ الدولة العبرية بعد تأسيسها مباشرة.

أفضت “كامب ديفيد” إلى تهميش الدور المصري في محيطه العربي وقارته الإفريقية، وداخل معادلات القوة والنفوذ بالعالم الثالث كله.

قيل وقتها على لسان الرئيس الأسبق “أنور السادات”، إن (99%) من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة.

كانت النتائج كارثية، حتى وصلنا إلى الخطر الداهم، أن تضيع سيناء، وأن يدخل البلد كله في انكشاف استراتيجي ووجودي.

لا بد أن تواجه مصر الحقائق بلا أوهام.

من الحقائق الأساسية التي تتبدى في هذه اللحظة المصرية، أننا نحارب أمريكا مباشرة، فهي التي تمول وتدعم وتخطط وتتفاوض بالنيابة عن إسرائيل، كما يحدث الآن، غير أن هناك حدودا لعجرفة القوة.

لا هم أقوياء لهذا الحد، ولا نحن ضعفاء لهذا الحد.

عندما سُئل “ترامب” في نفس المؤتمر الصحفي بالبيت الأبيض: “ما السلطة التي تخولك السيطرة على قطاع غزة؟”.. أجاب بلغة مستقاة من القواميس الاستعمارية القديمة: “بموجب السلطة الأمريكية”!

إذا نجحت خطته، فإن التغول الإسرائيلي سوف يتمدد بالضم فوق الأراضي العربية من مصر والأردن إلى لبنان وسوريا، وجزء من السعودية، حسبما يعلن اليمين الإسرائيلي المتطرف دوما.

مأزق “ترامب” بعنجهية القوة، التي يبديها، اعتقاده أن كلمته لا راد لها، وأن مصر والأردن سوف يوافقان بالنهاية على خطته.

ثم هو يغالط الحقائق بادعاء ثان، أن الفلسطينيين أنفسهم موافقون عليها، وأن ما يبدونه من رفض يعود، إلى أنهم ليس أمامهم بديل آخر!

الأسوأ اعتقاده أن خطته سوف تجلب السلام والازدهار إلى الشرق الأوسط فوق جماجم الفلسطينيين!

ما يدعو إليه “ترامب” يفوق في مستويات خطورته، ما يتمناه “نتنياهو”.

كلاهما مستعد لوقف استحقاقات الهدنة في غزة والحرب مرة أخرى.

الأول، يعطي الضوء الأخضر.. والثاني، يواصل حرب الإبادة، بذريعة أن “حماس” ترفض الإفراج عن ثلاثة من الأسرى الإسرائيليين يوم السبت المقبل، إذا لم تلتزم إسرائيل ببنود البروتوكول الإنساني الموقع.

باليقين لن تسلم “حماس” بالأمر الذي أصدره “ترامب”، الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين قبل ظهر السبت المقبل، وإلا فإنه الجحيم.

عن أي جحيم يتحدث بعد كل جرائم الحرب والتجويع التي جرت، دون أن ترفع راية بيضاء فلسطينية واحدة؟!

الكلمة الآن لمصر، أن ترتفع إلى مستوى الخطر الوجودي الداهم، أو أن تجد نفسها خارج كل حساب وأي مستقبل.