لا يختلف أحد على أهمية ضمان الحق في الدفاع، بوصفه أهم الحقوق المرتبطة بالمحاكمات العادلة، وفي ذلك لا يختلف أيضاً أحد على ضمان ذلك الحق في المرحلة الإجرائية، أو الموضوعية لكافة الأمور الجنائية، بمعنى أنه يجب أن يُضمن للمتهم حقه في الدفاع منذ اللحظة الأولى التي يكون فيها عرضة لاتخاذ أي إجراء جنائي بحقه، وتبدأ تلك اللحظة منذ القبض على المتهمين، وعرضهم على النيابة العامة لبدء التحقيق معهم، فيما تنسبه سلطات القبض إليهم من اتهامات، وبعيداً عن كون المتهم المعروض هو بالفعل من ارتكب الجرم المنسوب من عدمه، إذ يجب ضمان حقه في الدفاع كاملاً.
وإذ أن من حق المتهم أن يكون له محام يدافع عنه منذ بداية التحقيقات معه، فلا بد أن يضمن لذلك الدفاع جديته وجدواه، وإلا كان مجرد ضمان شكلي، وحتى يكون لذلك الدفاع دور في الدعوى الجنائية، أو في الخصومة الجنائية، التي يكون فيها المتهم هو الطرف الضعيف أمام السلطة الاتهامية، والتي بمثابة الطرف الأقوى، بما تملكه من إمكانيات وصلاحيات، فلا بد من ضمان مجموعة من الحقوق للمتهمين، تكون بمثابة السياج الحاكم للعلاقة ما بين طرفي الخصومة “المتهم – السلطة”، ولا بد أن تتضمن القواعد الإجرائية رسماً واضحاً لهذه العلاقة وحداً فاصلاً، لما يجب أن تمثله الشرعية الجنائية بشقيها الإجرائي أو الموضوعي، إذ أن الحقيقة تكمن في أصل عمومي، وهو ضمان الشرعية الإجرائية، بما تمثله من قواعد ضامنة لحقوق المتهمين، راسمة لكيفية سير الدعاوى الجنائية منذ للحظة الأولى، حتى ختامها بمحاكمة جنائية عادلة، تسدل الستار على ما تم اتخاذه من إجراءات حيال المتهمين، بشكل لا يجور على حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم، بما يتضمنه حق الدفاع من ضمانات أو خطوات راسمة منذ اللحظة الأولى، لحالة تماس الأشخاص مع السلطة في حدود الدعوى الجنائية، وحيث أن البدايات تدلل على ما سوف تنبئ عنه تلك الخصومة الجنائية بين طرفيها، فكان لا بد وأن يكون القانون الراسم لتلك الخطوات معبراً بشكل كامل عن ضمان حقوق المتهمين، أو العسف فيما يتم حيالهم من إجراءات.
وقد استمر مجلس النواب في مناقشة قانون الإجراءات الجنائية الجديد برغم كم الملاحظات التي أبداها أهل الخبرة والعلم القانوني على النسخة المتداولة من هذا المشروع، فقد وصل مجلس النواب على الموافقة على المادة رقم 233 من ذلك المشروع، وهي المادة المتعلقة بحق الخصوم في الاطلاع على أوراق الدعوى بمجرد إعلانهم بالحضور، لكن قد تم رفض المقترح الأهم هنا، والمتعلق بحق الخصوم في الحصول على صورة أو نسخة من أوراق القضية، على الرغم من أهمية ذلك في ظل عصر التقنيات الحديثة، ومما هو جدير بالذكر، أن من طالب بذلك التعديل هو النائب/ عاطف المغاوري عن حزب التجمع، إلا أن أغلبية مجلس النواب، والمتمثلة في الحزب الموالي للسلطة صاحبة مشروع القانون قد رفض ذلك المقترح، تحت زعم أن ذلك يتم وفقاً للإجراءات العادية بمجرد تقديم طلب للنيابة المختصة، بحسب سلطتها، فلها أن تجيز أو أن ترفض، كما قيل أيضاً، أن ذلك لم يكن منصوصا عليه في القانون السابق، على الرغم من كون ذلك يتناقض مع العلة، أو الهدف الرئيسي من تحديث قانون الإجراءات، بحسب زعم نفس السلطة لمواكبة التحديثات والتطورات التقنية، بخلاف أن أصحاب مشروع القانون يزعمون، بأنه يذهب على تطوير الأدوات الإجرائية، وأنه يضمن حقوق المتهمين، فلست أدري كيف يكون ذلك مع منع المتهمين من الحصول على صور من أوراق القضايا، وتلك الأمور في مطلقها في يد السلطة، على الرغم من كونها الطرف الأقوى في الخصومة الجنائية.
ويعد التصويت بالموافقة على هذه المادة تماشياً مع فلسلفة السلطة في التضييق على حقوق المتهمين، والتي ابتدأها ذلك القانون منذ إقراره للمادة 72 منه، والتي تمنع أو تحظر على المحامين الحاضرين للتحقيقات الجنائية من الحديث إلا بموافقة المحقق، وهو الأمر الذي يتناقض من العلة الرئيسية التي من أجلها، يحضر المحامي رفقة المتهمين أثناء التحقيق معهم.
هاتان المادتان بمثابة نموذج، لما يتم إقراره من مواد في أهم قوانين ترسم خطوط للعدالة، ولست أدري أي عدالة تلك التي تقوض الحق في الدفاع، أو تضيق من مساره وفق ما تراه السلطة، تلك التي وسعت من اختصاصاتها في ذلك المشروع، بحيث سمحت لسلطة الضبط في بدء تحقيق مع المتهمين، والتي تحاول أن تقضي على مشروعية الإجراءات الجنائية بشكلها الحالي، والتي كان من المأمول أن يتم اتخاذ إجراءات لضمانات حقوقية أكثر فاعلية، وأكثر حماية لحقوق الأفراد في مواجهة تعسف السلطات.
وإذ لا يمكن إغفال إلى أي مدى يرتبط استقلال السلطة القضائية بمفهوم ودلالة الحق في الدفاع وحرية الدفاع، فقد وردت في ” الميثاق الدولي لحقوق الدفاع مجموعة من القواعد تشكل في مجموعها دعامات حرية الدفاع. تتعلق القاعدة الأولى، باعتبار التمتع بحقوق الدفاع من الدعامات الأساسية التي لا غنى عنها لحسن سير العدالة، وهو مبدأ يرتبط ارتباطا وثيقا بمبدأ استقلال القضاء. أما القاعدة الثانية، فتعتبر الدفاع الفعال عن المتقاضين الوسيلة الضرورية والقاعدة الأساسية؛ للحفاظ على الحقوق الأساسية. وتكفل القاعدة الثالثة حق كل شخص في الاستعانة بمن يدافع عنه وبشكل حر، وتستوجب القاعدة الرابعة أن تكون مشاركة المحامي مشاركة فعالة. في حين تشدد القاعدة الخامسة على عدم جواز إخلال القوانين المتعلقة بالإجراءات بحقوق الدفاع الأساسية طبقا لمبدأ لا عقوبة بغير نص قانوني. أما القاعدة السادسة فتنص على ضرورة، أن تتوفر لكل محام في قضية جنائية الفرصة الكاملة والحرية التامة لإعداد دفاع، يتفق مع مقتضيات العدالة. في حين تضع القاعدة السابعة مجموعة من الواجبات التي ينبغي أن يلتزم بها المحامي نحو موكله، ومنها إسداء المشورة إلى الموكل، فيما يرتبط بحقوقه وواجباته القانونية واتخاذ التدابير القانونية التي يراها ملائمة لحماية مصالحه عند الاقتضاء، ومساعدته أمام الهيئات القضائية والسلطات الإدارية والشرطة خلال مرحلة التحقيق الأولى إلخ.. أما القاعدة الثامنة والأخيرة فتكفل للمحامين جميع الحقوق الضرورية للممارسة الفعالة لمسئولياتهم المهنية.
كما أن الحق في الدفاع بحسب كونه مكونا أساسيا من مفردات العدالة، فهو يقتضي أمور عدة، لا بد من توافر تحقيقها، حتى يكون النص عليه ذا جدوى ودلالة، فيجب أن يقوم المحامي بتحقيق هدفه وهدف المدافع عنه في الذود عن ورد الاتهام بشكل كامل، وأن يتم منحه الوقت الكافي في الترافع وتقديم ما يعن له من أوراق، ولا يجوز التحجج بضيق الوقت أو زيادة عدد القضايا أمام القضاة، بما يجور على تحقيق دلالة الحق ومجاوزة نطاقة، إذ أن مشكلة تراكم القضايا أو قلة عدد المحاكم أو القضاة لا تخص الحق في الدفاع، وإنما الأوجب على الدولة، أن تسعى هي إلى تلافي هذه المشكلة، وذلك لا يكون إلا بزيادة عدد المحاكم والقاعات، وزيادة أعداد القضاة، وذلك ما يضمن حسن سير العمل بمرفق العدالة.
كلمة أخيرة: لم يتبق من خطوات سوى ما هو متعلق بالسلطة التنفيذية ممثلة في شخص رئيس الجمهورية، والذي له الحق في الاعتراض على هذا القانون، بما يمثله من خروقات للمحاكمات العادلة، فهل لنا أن نأمل في تلك الخطوة.