كتبت- أميرة الطحاوي

جلسنا نحتسي الجَبَنة، القهوة السودانية المطعمة بـ”الدوا” البهارات ــ في ممر متفرع من شارع عبد الخالق ثروث بوسط القاهرة، حيث تنتشر مطاعم ومحال، وصولا لشارع الجمهورية والعتبة ومنطقة أرض شريف، يجد فيها المسافرون من وإلى السودان ملاذا لبعض “الونسة”، وتبادل الأخبار، وربما “الشمارات، وهي بعض النميمة والسخرية، مما قد لا يضر” ورفع الوصايا وتوصيل الأمانات.

دار الحوار مع عائلة وصلت في نهاية مايو 2023 أي بعد أكثر من شهر تقريبا على بداية الأحداث.

تنقلت الأسرة ــ دون الأب ــ من منطقة لأخرى بالقاهرة، حسب عدد الأفراد الذين زادوا بعد وصول عمة وجدة، وتنقل آخر؛ بسبب ترشيد في نفقات إيجار لحين وصول مدد من قريب مسافر بالخارج، أو إعانة من مؤسسة، ورغم عمل الأب المجزي فقد تعطل دفع راتبه لشهور، قبل أن ينتقل لشرق البلاد لينتظر لأشهر مع تغير إجراءات منح سمات الدخول لمصر. قررت الأسرة العودة بغية الاطمئنان على منزلهم بالخرطوم مع بقاء المسنين والأطفال الأصغر بمصر برعاية قريب.

القرار جاء مع إعلان السودان رسميا هذا الأسبوع عن “تسهيلات وإعفاءات” لعودة مواطنيه من مصر، ومبادرات أهلية منذ بداية العام لعودة مجانية لغير القادرين؛ ومع ذلك فإن أعداد من يبادرون بالعودة الآن قليلة، لاعتبارات عدة، منها الأوضاع غير الآمنة على الأرض بالوطن، وصعوبة التنقل بين ولايات السودان.

ومع تقدم القوات المسلحة السودانية في مواقع على أطراف العاصمة الخرطوم الممتدة أفقيا، تخرج المزيد من الحافلات من أحياء عابدين والعتبة بوسط القاهرة، أو من محافظة أسوان تكتفي بنقل الركاب أحيانا إلى مدن في الولاية الشمالية، أو مواقف خارج العاصمة أو على أطرافها، بعيدا عن مناطق وأحياء، لا زالت تشهد قتالا أو احتمالات تجدده. وهو ما يعني، أن العائدين سيكونون نازحين داخليا؛ كونهم لم يعودوا لمناطق سكناهم الأصلية.

على مواقع التواصل الاجتماعي بالأخص الفيسبوك (الأكثر استخداما بين السودانيين) ومجموعات الرسائل على تطبيقي الواتساب والتيلجرام، ظهرت مؤخرا دعوات، لما سميت بمبادرة “الانصرافي”، للعودة وهو شخصية إعلامية- ميديا بيرسوناـ ظهر في 2019، واجتذب مزيدا من المتابعين على قناته على يوتيوب، بينما تم تداول مقاطع له على تويتر وتيك توك التطبيقان الأسرع انتشارا بين الفئات العمرية الأصغر، ولا يخلو الأمر من انتقاد، لما يطرحه سياسيا.

 كذلك شكك متابعون ومؤثرون على مواقع الإنترنت، فيما يطرحه عن عودة اللاجئين “مجانا”.

آخرون شكوا، من أنه ليس هناك رحلات مجانية بالكامل، إذا يضطر الركاب لجمع نقود من بعضهم البعض عند الانتقال من حافلة لأخرى.

اتصلت برقم معلن عن الرحلات المجانية، حولني لرقم ثان وثالث، يقول أخيرا أحدهم، إن هناك عددا محددا على رحلة الأسبوع القادم، ويجب التسجيل مسبقا بهويات وعدد المغادرين. تقول سودانية، إن ابني عمها سافروا مجانا، ووصلوا لدنقلة، دون أن يدفعوا شيئا، وهو ما شجعها على التسجيل.

يتحدث البعض عن أموال ضخمة، تعلن وأخرى أقل، تنفق عمليا على هذه المبادرات “الخيرية” ربما.

تقول سيدة، إن بعض المبادرات هي حملة علاقات عامة لصالح رجال أعمال، وأن هذا يسيئهم، ويجرح كرامتهم، “أنهم يهتمون أكثر بتصويرنا نتلقى زجاجة مياه معدنية وعلبة عصير”.

بينما يقول رجل، إنه يفضل الحجز مع شركة أخرى مع استئناف خدمات الشحن بين مصر والسودان إذ يحمل أغراضا و”عفشا”، أثث به شقته في مصر قبل عام تقريبا.

ونقلت وسائل إعلام تأكيدات سابقة لمسئولين بالسفارة السودانية في القاهرة، أن “أعداد العائدين إلى البلاد تفوق أعداد النازحين”، لكن لا يقدم الجانبان المصري أو السوداني تحديثات رقمية، أو نطاق زمني واضح.

وارتفع النزوح لمصر مع اشتداد المعارك بالخرطوم ومع صعوبة العيش في الولايات المختلفة بالسودان، وتكلفتها العالية، وافتقاد الكثير من سبل الحياة بجودة واستمرارية مقبولين، وتدهور الموجود من خدمات مع تدفق مئات الآلاف من النازحين الجدد.

وفي أكتوبر الماضي، ظهرت مبادرة أخرى بعنوان “راجعين لبلد الطيبين” مع تقدم الجيش السوداني.

 وفي يناير من هذا العام، وبعد السيطرة على مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة في وسط السودان، تكرر رصد زيادة في عدد المغادرين السودانيين من مصر.

ومنذ بدأت الحرب فقد اضطر 11 مليون سوداني، للمغادرة سواء داخلياً أو إلى دول الجوار، وفق تقديرات الأمم المتحدة.

تسهيلات العودة ليست جديدة، وقد أعلنت غير مرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وذلك كلما تحول السودان لبعض الاستقرار بعد دائرة من العنف أو الحروب، أو بعد اتفاقات السلام أو استقلال الجنوب. ليس في تسهيلات العودة حوافز وضمانات واضحة بإعادة تعمير مناطق سكن أصلي أو إعفاء من رسوم خدمات صحية وتعليمية أو إعانات مؤقتة لحين عودة عجلة العمل وتوليد الدخل. 

وتواجه الأسرة محدودة الفرص في العمل مشاكل بعد فترة من مكوثهم في مصر، رغم بعض المنح من الأمم المتحدة وبرنامج الغذاء العالمي والمنظمات الشريكة، وبعض الجمعيات الأهلية والروابط،

كما قد يدفع ارتفاع تكاليف المعيشة وإغلاق بعض المدارس السودانية التي لم تتبع القواعد المراعية عددا من هذه الفئة تحديدا للتفكير جديا في العودة.

 ويستلزم إلحاق التلاميذ بالمدارس في مصر، إجراءات ومواعيد زمنية، قد لا تلبي شروطها كل الأسر.

ما سيضطر البعض للمكوث لنهاية الفصل الدراسي، وكذا الراغبين في مواصلة تعليم أبنائهم، إذا استوفوا الشروط الإدارية والمالية والجدول الزمني.

وحتى نهاية يناير 2025، وصل عدد اللاجئين السودانيين المسجلين في مصر إلى 630 ألفا، وهو ما يشمل أولئك الذين وصلوا قبل بداية الأزمة الأخيرة في منتصف إبريل 2023.

وتعتمد مفوضية اللاجئين ومنظمة الهجرة الدولية السلطات المصرية كمصدر لعدد الوافدين من السودان بعد هذه الأزمة، وهو رقم يصل إلى مليون وربع المليون. 

ويشير التحديث الأخير لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين إلى أن أكثر من نصف هؤلاء (54%)، هم من النساء، ويقع %21 من الرجال و30% من النساء في الفئة العمرية بين الـ 18 والـ59 سنة. وتبلغ نسبة الأطفال 41% من إجمالي القادمين لمصر.

ويتركز غالب اللاجئين السودانيين المسجلين في القاهرة الكبرى (القاهرة والجيزة والقليوبية) والإسكندرية، وأعداد ملحوظة في محافظات أسوان والشرقية والسويس.

وقالت المفوضية في تحديثها الأخير، إنه في 20 يناير الجاري، وخلال اجتماع في المقر الجديد لوزارة الخارجية المصرية بالعاصمة الإدارية، إنها أي المفوضية قدمت العناصر الرئيسية للخطة الانتقالية لنظام اللجوء بقيادة الحكومة، وذلك وفقا لقانون اللجوء الوطني المعتمد مؤخرا.

 وكان الاجتماع برئاسة نائب مساعد وزير الخارجية للاجئين والهجرة، السفير وائل بدوي، وحضره مسئولون من سبع وزارات رئيسية أخرى، بينها الدفاع والداخلية والعدالة والتضامن الاجتماعي.

 وحثت ممثلة المفوضية لدى مصر، حنان حمدان، الحكومة المصرية على العمل على اللوائح التنفيذية، والتعريف بالخطة الانتقالية لتعزيز آفاق وفرص مصر في تدبير الموارد الدولية المطلوبة في هذا الصدد.

رقم المقبلين على التسجيل “كلاجئين وملتمسي حماية دولية” من السودان ارتفع مؤخرا، حيث أعطت المفوضية مواعيد تسجيل ومقابلات لنحو 876،800 منذ بدء الأزمة في إبريل 2023، سجل 65% منهم (567 ألفا) للحصول على الحماية والمساعدة. وغالب القادمين المسجلين والراغبين في التسجيل، هم سودانيون (96%) ومعظم هؤلاء (84%) قادمون من العاصمة الخرطوم، ومن بين النازحين أيضا، مواطنون من إريتريا وجنوب السودان، أجبرتهم الحرب على الفرار لمصر.

استمرار حركة النزوح الداخلي والخارجي بسبب المعارك

وبحسب منظمة الهجرة الدولية في تحديثها في الخامس من فبراير الجاري، فإنه ومنذ اندلاع الصراع في 15 إبريل 2023، عبر 3506383 فردًا الحدود إلى البلدان المجاورة، ويقدر أن نحو 70 في المائة منهم، هم من المواطنين السودانيين.

كما يقدر أن نحو 99 % من الأفراد الذين عبروا إلى مصر، هم من المواطنين السودانيين. بينما يقدر أن نحو 77 % من الأفراد الذين عبروا إلى جنوب السودان، هم من غير السودانيين، أغلبهم هم من الجنوب السودانيين الذين كانوا يعملون، أو يعيشون بالشمال أو نازحين ولاجئين به.

وأبلغت الفرق الميدانية مؤخرا، عن ارتفاع في الفرار عبر الحدود، خاصة صوب تشاد وليبيا؛ بسبب استمرار الاشتباكات في ولاية شمال دار فور، بما في ذلك الفاشر.

بينما أفادت تقارير بزيادة التنقل بين مناطق ولايات النيل الأزرق والنيل الأبيض نحو جنوب السودان بعد تصاعد الاشتباكات في هذه المنطقة.

ويضطر النازحون أحيانا لمغادرة السودان بعد فترة من النزوح الداخلي، واستمرار عدم وضوح المستقبل.