خطة الجيش منذ بداية الحرب تضمنت ثلاث مراحل؛ الأولى بدأت في 17 إبريل 2023، واستهدفت امتصاص الصدمة وتثبيت الموقف وتجنب انهياره، لأن قوات الدعم السريع- بحكم مهامها القديمة- كانت تؤمِّن الأهداف الاستراتيجية في الدولة، لذلك أحكمت السيطرة عليها بقرار التمرد، لا بالاشتباك العسكري.. المرحلة الثانية، بدأت في 26 سبتمبر 2024 مستهدفة الاسترجاع التدريجي للأرض؛ حيث عبرت القوات جسور «النيل الأبيض والفتيحاب والحلفايا» التي تربط أم درمان بالخرطوم والخرطوم بحري، ونجحت في السيطرة على وسط الخرطوم والخرطوم بحري، وفك حصار القيادة العامة والتحام قواتها بقوات بحري وأم درمان يوم 24 يناير 2025، وبذلك اكتملت المرحلة الثانية من العمليات بتحرير 80% من مدينتي بحري وأم درمان، و30% من مدينة الخرطوم.

خريطة تزضح جسور تحت سيطرة الجيش السوداني وجسور تحت سيطرة  قوات الدعم السريع
خريطة توضح جسور تحت سيطرة الجيش السوداني وجسور تحت سيطرة قوات الدعم السريع

المرحلة الثالثة، أطلق عليها الجيش «مرحلة تكسير العظام»، بدأت في 25 يناير، واستهدفت استكمال تحرير شمال الجزيرة وشرق النيل وجنوب الخرطوم، ونقل العمليات إلى غرب النيل في الفاشر والجنينة ونيالا والضعين وزالنجي في دارفور وحتى الحدود، وبابنوسة غربي كردفان، والأبيض والرهد وبارا في كردفان.. وبالفعل سيطر الجيش على مدينة «الكاملين» آخر معاقل الدعم السريع بولاية الجزيرة التي تبعد 65 كيلومترا عن الخرطوم، ثم تقدم شمالا، وسيطر على عدد من القرى والبلدات، وبات يسيطر على كامل ولاية الجزيرة باستثناء بعض الجيوب الصغيرة بمناطق متاخمة للخرطوم، مثل الباكير وأبو قوته القريبة من مدينة «جبل الأولياء» أقصى الجنوب الغربي لولاية الخرطوم، والتي تتمركز فيها قوات الدعم السريع بكثافة.

حرب العاصمة المثلثة

عقب تحرير ود مدني انسحبت فلول الدعم السريع شمالاً باتجاه الخرطوم، مما قد يعني تعزيزا لتشكيلاتهم داخلها، الأمر الذي شكل ضغطا على قوات الجيش للمسارعة في شن عملية تحرير العاصمة، لذلك أحكم الجيش سيطرته على طريق ود مدني/ الخرطوم ودفع بقواته؛ استعدادا لاستعادة المناطق الجنوبية من الخرطوم «سوبا وشرق النيل»، والعمل على تحرير منطقة خزان جبل أولياء التي تمثل نقطة حاكمة للدعم السريع في نقل إمداداته العسكرية لقواته بالخرطوم، وتحرير الجيش لها يعني محاصرة هذه القوات، وإمكانية استكمال الربط بين قوات سلاح المدرعات والقيادة العامة، لفكّ الحصار عن الأخيرة وعن سلاح الإشارة في بحري، واستعادة ما تبقى من مناطق العاصمة في الخرطوم بحري وأم درمان.

نشير إلى أن قوات الدعم السريع عندما امتلكت زمام المبادأة في بداية الحرب، سيطرت على معظم أنحاء العاصمة الخرطوم، لكنها عجزت عن اقتحام العديد من المواقع العسكرية الهامة «القيادة العامة، قيادة سلاح المدرعات، سلاح الإشارة، سلاح المهندسين، ومنطقة كرري العسكرية…»، وقد خاض الدعم العديد من المعارك للاستيلاء عليها دون جدوى، فاكتفى بحصارها، على أمل سقوطها؛ نتيجة توقف الإمداد والتموين، وأصبحت هذه المواقع بمثابة جزراً معزولة بعضها عن بعض طوال أشهر الحرب، دون أن يسقط أي منها، وظل هدف الجيش الربط بين هذه المواقع، لأن هذا الربط يحولها الى كماشة تطوق الميليشيات التي كانت تحاصرها، وكانت أولى عمليات الربط بين معسكرات الجيش في فبراير 2024، عندما وصلت قوات الجيش من منطقة كرري العسكرية إلى «سلاح المهندسين» جنوب شرقي أم درمان.

***

العاصمة السودانية تتكون من ثلاث مدن؛ الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، يفصلهم نهرا النيل الأبيض والأزرق، ويتم التنقل بينهم عبر عشرة جسور «سوبا، الملك نمر، توتي، الفتيحاب «الإنقاذ»، النيل الأبيض، شمبات، المنشية، النيل الأزرق، كوبر، والحلفايا».. الدعم السريع منذ بداية الحرب انتشر في المدن الثلاث محتلا للمواقع الاستراتيجية، وحصنها بالسيطرة على معظم الجسور الرئيسية وتقاسم الباقي مع الجيش.

هجوم الجيش في 26 سبتمبر 2024، كان نقطة تحول في مسار المواجهة مع الدعم السريع، لأنه أعاد سيطرة الجيش على جسور [النيل الأبيض، الفتيحاب «الإنقاذ»، والحلفايا]، وسمح بتدفق تشكيلاته من أم درمان إلى الخرطوم بحري والخرطوم، ما مكنه من استعادة مناطق عدة، كانت تحت سيطرة الدعم السريع، بما فيها منطقة الحلفايا، وتقدّم باتجاه مركز مدينة بحري، وصولاً إلى مقر قيادة «سلاح الإشارة» المحاصر، ثم عبرت نهر النيل لتفك الحصار عن قوات أخرى، كانت محاصرة أيضا في وسط الخرطوم.. والحقيقة أنه منذ سيطرة قوات الجيش على الجسور الثلاثة، ظلت قوات الدعم السريع في حالة استنزاف مستمر لمخزوناتها من الذخائر والمواد الغذائية، وعجزت عن الحصول على أية إمدادات بشرية أو عسكرية سوى القليل عبر جيوبها شرق النيل، التي أخذ طيران الجيش يصفيها تباعا.

تمكن الجيش من فك الحصار الذي كانت تفرضه قوات الدعم السريع على مقر القيادة العامة وسط الخرطوم، وكذا عن معسكر سلاح الإشارة في بحري 24 يناير 2025، ومقر المخابرات القريب منه، والتقت قوات محور الخرطوم بحري مع القوات المرابطة بالقيادة العامة، التحام قوات الجيش، مثل نجاحاً استراتيجياً عزز الربط العسكري بين مدن العاصمة الثلاث «الخرطوم، أم درمان، والخرطوم بحري»، وفك الحصار عن القيادة العامة كان يعني تلقائياً التقدم نحو محور وسط الخرطوم الذي يضم القصر الجمهوري والوزارات ودواوين ومرافق الدولة الحيوية، وفتح الباب أمام تحرير كل العاصمة، وعودة الحكومة المركزية إلى العاصمة الخرطوم، ويعني ذلك إحكام الجيش سيطرته على وسط الخرطوم وانهيار جميع قوات الدعم السريع المتبقية سواء في وسط أو أطراف الخرطوم.

الجيش سيطر في 5 فبراير على حي الرميلة ومقر الإمدادات الطبية، ودار صك العملة غربي المدينة، وأصبحت قوات سلاح المدرعات على مقربة من شارع الغابة المؤدي لوسط الخرطوم.. ثم طهر المنطقة الصناعية في قلب الخرطوم، وتقدم باتجاه وسط الخرطوم في 7 فبراير، على عدة محاور، واقترب من السوق العربي والقصر الجمهوري.. بعدها بدأ في حصار القصر الجمهوري من الشرق والجنوب والغرب، استعدادا للإطباق عليه من المحور الشمالي.

كما حاول الجيش استكمال حصار قوات الدعم السريع الكثيفة داخل الخرطوم وشرق النيل، وذلك بالعمل على استرداد جسر سوبا؛ بدوره المحوري للدعم السريع، لأنه معبر الإمداد ويسمح لقواته بالتحرك والمناورة في المنطقة، وسيطرة الجيش عليه يعني إحكام الحصار على الميليشيات داخل الخرطوم، ولم يعد أمامها إلا الموت أو الهرب غربا في اتجاه جبل أولياء نحو غربي السودان، وبالفعل صارت قوات الدعم بالمنطقة محاصرة من الجنوب من قبل قوات الجيش القادمة من ولاية الجزيرة ومنطقة العيلفون، ومن الشمال من التشكيلات التي وصلت إلى منطقة مرابيع الشريف، وشرقا بالنيل الأزرق.. أما قوات الدعم بمنطقة شرق النيل، فتستهدفها عمليات نشطة من الجيش، وصلت إلى عمقها، وأصبح مصير قوات الدعم في سوبا وشرق النيل مرتبطا بجسر سوبا الاستراتيجي، لأن الجيش اقترب من جسر المنشية الذي يربط الخرطوم مع شرق النيل، وصار على وشك الوصول إلى مدخله الشرقي، ويمكنه السيطرة عليه بالنيران في أي وقت.

الأزمة مع جنوب السودان

جنوب السودان دولة مؤثرة بقوة على مسار الحرب السودانية، وذلك من خلال حدودها المشتركة مع السودان، وهناك انقسام داخل الدولة تجاه الحرب السودانية؛ الرئيس «سلفاكير» ومستشاره الأمني السابق «توت قلواك» وقادة آخرون يدعمون الجيش السوداني، أما مسئول التعبئة في حزب الحركة الشعبية الحاكم والمبعوث الرئاسي «بول ميل»، فهم مساندون للدعم السريع، ونظرا لوجود صراع على السلطة، وما تردد عن تخطيط قلواك و«أكول كور» مدير المخابرات للاستيلاء على السلطة، فقد قام سلفاكير بإبعادهما، وهو ما رد عليه مؤيدو الدعم السريع بشن حملة ضد الجيش السوداني، وذلك بمجرد وقوع حادث «ود مدني» الذي تعرض فيه بعض رعايا جنوب السودان لانتهاكات بالمدينة عقب استرداد الجيش لها، بزعم تعاونهم مع الدعم السريع.

خارجية جنوب السودان استدعت «عصام كرار» سفير السودان لدى جوبا للاحتجاج في 15 يناير، عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة قرر تشكيل لجنة للتقصي والتحقيق، لكن وزير خارجية الجنوب اتهم القوات السودانية بممارسة الإرهاب والقتل ضد مواطنيه، داعيا الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي للمساعدة في التحقيق، الخارجية السودانية ردت بالكشف العلني عن مشاركة مرتزقة جنوبيين في صفوف الدعم السريع، وإنها أبلغت سلطاتها بالأدلة والوثائق طالبة تدخلها، لمنع تجنيد المرتزقة وسفرهم للحاق بالدعم، دون جدوى، واتهمت جنوب السودان بتقديم تسهيلات للدعم السريع، بما فيها نقل وعلاج مقاتليها بمستشفياتها.

جنوب السودان نددت بتصريحات «ياسر العطا» مساعد القائد العام للجيش في 20 يناير، التي اتهم فيها «مواطنو جنوب السودان، بأنهم يشكلون 65% من عناصر الدعم السريع»، واتهمت بورتسودان «بتجنيد عناصر من جنوب السودان وإلحاقهم بالجيش»، ونفت تجهيز المشافي لعلاج عناصر الدعم السريع.. منحنى العلاقات كما ارتفعت سخونته فجأة، ودون مبررات موضوعية، هبط بلقاء وزير الداخلية السوداني «خليل سايرين» ونظيرته من جنوب السودان «أنجيلينا تيني»، اللذان اتفقا، على أن ما حدث من اعتداءات تمثل حالات فردية، تم احتوائها؛ حفاظا على العلاقات بين الدولتين!!

***

بعد المكاسب التي حققها الجيش في ولاية الجزيرة والعاصمة المثلثة الخرطوم، أصبح الطريق مفتوحًا أمامه على امتداد أكثر من 70 كيلومترا من مقر القيادة العامة، وحتى مدينة «الجيلي»، حيث تتحصن قوات الدعم السريع في آخر معاقلها داخل مصفاة الجيلي للبترول، كما بات بمقدوره التحرك نحو مناطق شرق النيل التي كانت لا تزال تعد معقلا للميليشيات.

قوات الدعم السريع التي انسحبت من محيط القيادة العامة، وقواتها التي كانت تتمركز شرق المطار بمنطقة بري، وامتداد ناصر ودار ومستشفى الشرطة وجامعة الرباط الوطني، اتجهوا جميعا نحو أطراف شرق النيل.. وخرجت المسيرات والمظاهرات في شوارع أم درمان وبورتسودان احتفالا بنصر استراتيجي، الا أن معركة مدينة «الجيلي» لم تلبث أن انفجرت، وكانت واحدة من أشد معارك الحرب شراسة.. وهو ما سنتناوله في المقال التالي.