مع تضييق الخناق على قوات الدعم السريع واشتداد الحصار المفروض عليها من قبل الجيش السوداني في بحري وشرق النيل، بدأت مجموعات كبيرة من مقاتليها في الفرار جنوبًا، غير أن هذا الانسحاب لم يكن هادئًا، بل صاحبه نهب وقتل وتهجير قسري للمدنيين، خاصة في أحياء سوبا شرق.

كانت منطقة شرق النيل هي الممر الرئيسي للفرار من بحري، إلا أن تطويق الجيش للمنطقة الشرقية على حدود ولايتي الخرطوم والجزيرة، جعل طريق الهروب الوحيد المتاح هو عبور كبري سوبا، نحو جنوب وشرق الخرطوم. ومن هناك، اتجهت القوات الفارة إلى أقصى جنوب العاصمة، نحو محلية جبل أولياء، التي تضم جسرًا استراتيجيًا، يربط الخرطوم بمدينة القطينة، وهي النقطة الحدودية بين ولايتي الخرطوم والنيل الأبيض.

مع استمرار التراجع، واصلت المجموعات المتفرقة تحركها غربًا نحو محلية أم رمتة، التي تعد نقطة تجميع رئيسية للقوات المنسحبة من مختلف مناطق الخرطوم. ومن هناك، بدأ تدفق القوات نحو الطريق البري الترابي المؤدي إلى إقليم دار فور، حيث تسعى هذه المجموعات إلى إعادة التموضع وإعادة تنظيم صفوفها.

في ظل هذا الانسحاب الفوضوي، تحولت المناطق التي مرت بها هذه القوات إلى بؤر للعنف والنهب والقتل، حيث تعرضت سوبا شرق وأحياؤها لهجمات شرسة، أسفرت عن مقتل أكثر من 20 مدنيًا وتهجير المئات، فقد نُهبت المنازل والمحال التجارية، ودُمّرت البنية التحتية، وشهدت الشوارع عمليات إعدام ميدانية وحرق للممتلكات.

تأتي هذه التطورات في سياق التغيرات الميدانية المتسارعة، حيث يواصل الجيش تضييق الخناق على القوات المنسحبة، وسط مخاوف متزايدة من استمرار الانتهاكات ضد المدنيين.

طريق الانسحاب:

مع تقدم الجيش السوداني واستعادته السيطرة على مدينة بحري، نجح في الوصول إلى المقرات العسكرية الاستراتيجية، مثل سلاح الإشارة، وفك الحصار عن القيادة العامة لأول مرة منذ اندلاع الحرب في إبريل 2023. هذا التقدم الميداني أجبر قوات الدعم السريع على التراجع نحو شرق النيل، حيث لا تزال تسيطر على أجزاء من محلية شرق النيل، لكن مع إحكام الجيش الطوق عليها، بات طريق الفرار الوحيد هو العبور عبر كبري سوبا باتجاه جنوب وشرق الخرطوم، ومنها إلى إقليم دارفور، حيث تسعى إلى إعادة التموضع والاحتفاظ بمناطق سيطرة أقل.

بدأ الانسحاب من بحري عبر شرق النيل، مرورًا بأحياء كافوري وكوبر، وصولًا إلى دردوق ونبتة وحطاب في الشمال الشرقي لبحري، حيث تدور معارك عنيفة في آخر معاقل الدعم السريع في المنطقة. تزامن ذلك مع تقدم الجيش في شرق الجزيرة، حيث استعاد السيطرة على محلية الكاملين والقرى الحدودية بين ولايتي الخرطوم والجزيرة، ما زاد من تضييق الخناق على القوات المنسحبة، وحصر خياراتها في المرور عبر سوبا شرق كآخر منفذ للخروج من الخرطوم.

بسبب الطبيعة الجغرافية للولاية واعتمادها على الجسور كنقاط عبور رئيسية، سلكت القوات الفارة طريقًا محددًا، بدأ بعبور كبري سوبا، نحو سوبا غرب جنوب الخرطوم، ثم واصلت الانسحاب عبر شرق ووسط الخرطوم والكلاكلات، وصولًا إلى محلية جبل أولياء. هناك، عبرت القوات الجسر الضيق فوق خزان جبل أولياء، الذي يعد المعبر الوحيد نحو ولاية النيل الأبيض، (فيديو لتكدس الجسر)، وتحديدًا مدينة القطينة، التي تخضع حاليًا لسيطرة الدعم السريع.

صورة توضح مناطق الانسحاب من بحري وشرق النيل نحو جنوب الخرطوم عبر جسر سوبا
صورة توضح مناطق الانسحاب من بحري وشرق النيل نحو جنوب الخرطوم عبر جسر سوبا
صورة توضح مواصلة الانسحاب من الخرطوم عبر جسرجبل اولياء نحو ولاية النيل الابيض
صورة توضح مواصلة الانسحاب من الخرطوم عبر جسر جبل أولياء نحو ولاية النيل الأبيض

ومع وصول هذه القوات إلى القطينة، اندلعت معارك عنيفة في المناطق الغربية منها، مثل شكيري، المراخات، وعدد من القرى التابعة لمنطقة أم رمتة، الواقعة على الحدود الشمالية الغربية للنيل الأبيض مع شمال كردفان. تعد هذه المنطقة بوابة العبور نحو شمال وغرب كردفان، حيث تسيطر قوات الدعم السريع على مسارات برية غير مرصوفة تمتد عبر الصحراء المفتوحة، مما يسمح لها بالتحرك نحو إقليم دار فور، الذي يُعد المركز الرئيسي لإدارة عملياتها، والمقر المتوقع لإعلان حكومتها الموازية خلال الأيام القادمة.

سوبا شرق.. نموذج الانسحاب الدامي

شهدت منطقة سوبا شرق منذ يناير الماضي انتهاكات جسيمة، نفذتها قوات الدعم السريع أثناء انسحابها من المنطقة، حيث أسفرت هذه العمليات عن مقتل أكثر من 20 مدنيًا، ونزوح مئات السكان قسرًا تحت تهديد السلاح، وسط موجة من العنف والنهب والتدمير الممنهج للبنية التحتية.

وفقًا لشهادات محلية، نفذت قوات الدعم السريع إعدامات ميدانية بحق مدنيين داخل منازلهم وفي الشوارع العامة، بينما تعرض آخرون للتعذيب والجلد العلني في إطار عمليات تهجير قسري، شملت أحياء الشقيلة، التويراب، وسوبا الحلة. كما شهدت المنطقة حملة نهب واسعة النطاق استهدفت المنازل والمحال التجارية والممتلكات العامة والخاصة، حيث استولت القوات على السيارات، الأموال، الذهب، والأجهزة الإلكترونية، قبل أن تقدم على إحراق المنازل بعد تفريغها بالكامل.

وتزامنت هذه العمليات مع تدمير واسع للبنية التحتية، حيث قامت قوات الدعم السريع بنهب وتفكيك ألواح الطاقة الشمسية التي تغذي صهاريج المياه، والتي تكفل بها أبناء المنطقة المغتربين، بتكلفة تجاوزت 100 مليار جنيه سوداني، مما أدى إلى أزمة مياه خانقة. كما تعرض المركز الصحي الوحيد في المنطقة للنهب والتخريب الكامل، بعد سرقة جميع الأدوية والمعدات الطبية، ما جعل الحصول على أي نوع من الرعاية الصحية أمرًا مستحيلًا.

وفي جريمة مروعة، قامت قوات الدعم السريع بقتل الشقيقين النعمة وعبد القادر علي النعمة في حي السلمة، ثم ألقت جثتيهما داخل بئر سايفون. ورغم نجاة اثنين آخرين من العائلة بإصابات خطيرة، إلا أنهما تُركا ينزفان دون أي إسعاف، كما مُنع الأهالي من انتشال الجثث أو دفنها، في انتهاك صارخ للحقوق الإنسانية والقوانين الدولية.

أمام هذه الأوضاع، اضطر المئات من سكان سوبا شرق إلى الفرار سيرًا على الأقدام نحو المناطق المجاورة، مثل الشيخ مصطفى الفادني، وعد شروم، وسوبا غرب عبر النيل. ومع غياب أي دعم إنساني، يعاني النازحون نقصًا حادًا في الغذاء والمياه والرعاية الصحية، بينما يواجه كبار السن والمرضى وضعًا مأساويًا في ظل الاستهداف المستمر لكل من لم يتمكن من الفرار.

تشكل هذه الأحداث نموذجًا واضحًا للانسحاب الدامي لقوات الدعم السريع، حيث تلجأ إلى ممارسة أقصى درجات العنف ضد المدنيين قبل انسحابها من المناطق التي تفقد السيطرة عليها.