كتبت- إيمان رشدي
لم تردع التهديدات العديدة، كريم خان– مدعي عام للمحكمة الجنائية الدولية– عن القيام بواجبه، حتى لو كان الثمن أن تفرض عليه الولايات المتحدةــ ورئيسها القادم من عالم الصفقات العقاريةـ عقوبات تصل إلى حد حظر دخوله وعائلته ــ ضمن طاقم عمل المحكمة الدولية ــ إلى الولايات المتحدة، وتجميد أصولهم الموجودة بها.
بعد مرور أكثر من خمسة وعشرين عاماً على اعتماد نظام روما الأساسي، تجد المحكمة الجنائية الدولية نفسها اليوم في خضم صراع بين الأهداف الطموحة التي يقوم عليها صكها التأسيسي، وتنوع الدول الأطراف فيها، في مواجهة اختلاف المصالح والتصورات المتباينة لدورها.
يأني الالتباس في ظل تزايد الحاجة إلى المحكمة أكثر من أي وقت مضى في ظل مجموعة كاملة، وموثقة من الجرائم المرتكبة أثناء الحروب التي تشتعل بها منطقة الشرق الأوسط، والتي تتمتع المحكمة بالولاية القضائية عليها.
ومع تعرض سيادة القانون في العالم لتهديد متعدد، تزداد الحاجة إلى مؤسسات، مثل المحكمة لتعزيز أشكال حماية حقوق الإنسان، ومنع ارتكاب الفظائع في المستقبل، وضمان العدالة للضحايا.
نقطة عمياء للعدالة.. تشريع المعايير المزدوجة والإفلات من العقاب
بمشروع قانون وأمر تنفيذي وضع الرئيس الأمريكي المحكمة الجنائية عند مفترق طرق.
المشروع الذي يحمل عنوان- قانون مكافحة المحكمة غير الشرعية– المطروح للمناقشة الآن داخل الكونجرس الأمريكي، والذي سيدخل حيز التنفيذ بعد 60 يوما من إقراره.
ويستهدف مشروع القانون فرض عقوبات على موظفي المحكمة الجنائية الدولية، وأفراد أسرهم الذين قاموا بعملهم سواء في التحقيق أو الاحتجاز أو مقاضاة أفراد بعينهم، باعتبار هؤلاء المتهمين “أفرادًا محميين”.
من هم الأفراد المحميون
ووفقا لمشروع القانون، فإن المحميين هم “أفراد القوات المسلحة الأمريكية وموظفي الحكومة الأمريكية والمقاولون الذين يساعدون القوات الأمريكية، وبعض أفراد تلك القوات، ممن هم حلفاء للولايات المتحدة أو شركائها”.
وفي حال حققت المحكمة الجنائية الدولية، أو تابعت اتهامات ضد هؤلاء– المحميين، فيوجب القانون علي الرئيس الأمريكي فرض عقوبات، تتمثل في منع التأشيرات ضد موظفي المحكمة، وأفراد أسرهم، أو من يعمل كوكيل للمحكمة الجنائية الدولية، بل وحظر قدرتهم على شراء العقارات داخل الولايات المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، وبمجرد إقرار القانون سوف تلغي جميع الأموال المخصصة للمحكمة مع حظر الاستخدام اللاحق للأموال المخصصة لها.
محاولات متلاحقة…
لم تمنع محاولات الديمقراطيين بمجلس الشيوخ الأمريكي عرقلة جهود الجمهوريين؛ لإقرار التشريع السابق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من توقيعه أمراً تنفيذياً يقضي بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية ومسؤوليها.
وينص الأمر الذي نشره البيت الأبيض في السادس من الشهر الجاري، على حظر دخول مسؤولين وموظفين وعناصر في المحكمة الجنائية الدولية إلى الولايات المتحدة، وكذلك أقربائهم، إضافة الي تجميد أصولهم في الولايات المتحدة.
واتهم الأمر التنفيذي المحكمة القيام بأعمال غير مشروعة ضد الولايات المتحدة وحليفهم المقرب إسرائيل.
إعاقة المساءلة
“من المذهل، أن نرى دولة تعتبر نفسها بطلة لسيادة القانون، تحاول إحباط تصرفات محكمة مستقلة ومحايدة أنشأها المجتمع الدولي، لإعاقة المساءلة”
هكذا عبر مجموعة من الخبراء الأمميين، عن موقفهم في بيان لهم، صدر عقب تمرير مشروع القانون في الكونجرس الأمريكي.
فالمحكمة الجنائية الدولية، والتي تعد إرثاً لمحاكمات نورمبيرج بحق كبار النازيين، تلتزم بعدم السماح أبدا للجرائم الشنيعة كالتي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية بالمرور، دون عقاب.
وقد تأسست عام 2002، لمحاكمة المتهمين بأخطر الجرائم؛ لتضمن وصول الضحايا إلى العدالة عبر محاكمات عادلة.
والمحكمة الجنائية ليست جزءا من منظومة الأمم المتحدة، بل هي معنية بالقضايا المرفوعة ضد الأفراد بتهمة ارتكاب جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية بعد استنفاذ كافة طرق الطعن الوطنية.
مع العلم، أن المحكمة لا تتدخل، إلا إذا كانت الدولة التي ارتُكبت فيها جرائم خطيرة، تندرج ضمن اختصاص المحكمة غير راغبة أو غير قادرة حقا على القيام بتحقيق العدالة، ويمكن معرفة المزيد عن المحكمة الجنائية الدولية من خلال تقرير على الموقع الرسمي للأمم المتحدة بعنوان “خمس حقائق عن المحكمة الجنائية الدولية”.
العداء ليس حديثا
منذ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، اختار رؤساء أمريكاــ الديمقراطيون والجمهوريون ــ عدم الانضمام إليها؛ لأنهم يخشون المحاكمات التي يمكن أن تهدد مواطنيها وجنودها.
ومنذ وقعت أمريكا على اتفاقية روما، ثم سحبت توقيعها، حاولت الولايات المتحدة، أن تفرض على الدول إبرام اتفاقيات ثنائية، تستثني مواطنيها وجنودها من ولاية المحكمة وأحكامها.
الأخطر على الإطلاق كان استصدار قرار من مجلس الأمن، بعدم جواز محاكمة الجنود الأمريكيين أمام المحكمة الجنائية الدولية؛ خوفا من تعرض رعاياها وجنودها للمساءلة عن الجرائم التي اقترفوه.
كل من يقترب.. يعاقب
في عام 2020، ومن خلال أمر تنفيذي منفصل فرض ترامب- أثناء ولايته الأولى- حظراً على السفر وتجميد الأصول ضد المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية- فاتو بنسودا- ردا على القرارات التي اتخذتها في تحقيقاتها بشأن جرائم الحرب في أفغانستان والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وتشكل الإجراءات التي اتخذتها المحكمة، ومدعيها العام كريم خان، في الآونة الاخيرة تهديدًا للمسؤولين الاسرائيليين السابقين والحاليين، فقد يواجهون مذكرات اعتقال سرية أو أوامر استدعاء صادرة عن المحكمة، والتي تلتزم الدول الأعضاء في المحكمة بتنفيذها.
وقد أبدت المحكمة بالفعل استعدادها لاتخاذ مثل هذه الإجراءات من خلال مذكرات الاعتقال الأخيرة التي أصدرتها ضد نتنياهو وجالانت.
الأمر الذي دفع الكونجرس لتبرير مشروع القانون، باعتباره “رد فعل معقول على الهجوم على حليفتنا إسرائيل”.
وقال الكونجرس، إن القانون تم تصميمه بشكل ضيق؛ لاستهداف المسؤولين عن الملاحقة القضائية غير الشرعية للقادة الإسرائيليين اليوم، والمحاكمات المستقبلية المحتملة للأمريكيين والحلفاء الآخرين.
كما أنه يبعث برسالة قوية إلى المحكمة مفادها، أن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي، بينما يتعرض الأمريكيون أو حلفاؤها لهجوم غير عادل.
مدانون.. وطلقاء
عبر تاريخها، أصدرت المحكمة الجنائية عشرة أحكام بالإدانة وأربعة بالبراءة، وظل ستة عشر مشتبهاً به طلقاء.
وكان أول من تمت محاكمته ومعاقبته بالسجن لمدة 14 عاما، هو الرئيس السابق لجمهورية الكونغو الديمقراطية- توماس لباجنا– والذي أدين بارتكاب جرائم حرب، تتمثل في تجنيد الأطفال دون سن 15 عامًا، واستخدامهم للمشاركة بنشاط في الأعمال العدائية.
ويجري مكتب المدعي العام حاليا تحقيقات حول 12 قضية، بينها تحقيق رسمي في الجرائم المرتكبة في أفغانستان من قبل الولايات المتحدة في الخامس من مارس 2020.
وأصدرت غرفة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية إذناً بالتحقيق في اتهامات موجهة إلى أفراد من الجيش الأمريكي، ووحدات أخرى خاضعة لسيطرة الولايات المتحدة بارتكاب جرائم حرب في أفغانستان على الرغم من حقيقة، أن الولايات المتحدة لم تقبل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
انتهاك لحقوق الإنسان.. وإضعاف لقدرة المحكمة
فرض عقوبات على موظفي العدالة|؛ بسبب الوفاء بمسؤولياتهم المهنية، يشكل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، ويضرب صميم استقلال القضاء وسيادة القانون.
حيث تشكل فرض العقوبات تدخلاً في شؤون المحكمة، وانتهاكا للحق في محاكمة عادلة، وهو ما يقيد قدرة كل من قضاة المحكمة والمدعين العامين والمسؤولين فيها على أداء واجباتهم بطريقة محايدة.
ويأتي ذلك بالمخالفة لما نص علية العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، من أن استقلال القضاة أمر أساسي لضمان حقوق الإنسان، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمساءلة عن الجرائم الجنائية الدولية.
بينما تستهدف الولايات المتحدة حرمان كافة مسؤولي المحكمة من امتيازاتهم وحصاناتهم كمسؤولين دوليين.
يشكل أيضا فرض العقوبات على كافة العاملين في المحكمة انتهاكًا للحق في حرية التنقل، وفي حماية القانون من التدخل غير القانوني في حياتهم الخاصة والعائلية، وهو ما يخالف كلا من المادتين- 12/ 14- من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
تلك الانتهاكات تعد تعزيزاً لقوة مجرمي الحرب من خلال السعي إلى معاقبة المحكمة وحرمان الآلاف من الضحايا في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك النساء والأطفال من العدالة والتعويض|.
كما أن تلك العقوبات من شأنها، أن تقييد جميع المواقف التي تخضع للتحقيق حاليا، لأن المحكمة قد تضطر إلى إغلاق مكاتبها الميدانية.
إضافة إلى إضعاف قدرة المحكمة على أداء ولايتها الحيوية في مختلف القضايا التي تنظر فيها، إذ قد تتردد المؤسسات المالية وغيرها من الجهات إبرام المعاملات المتعلقة بالمحكمة، مما يؤدي إلى شلل فعلي في قدرتها على أداء مهامها.
كما أن لتلك العقوبات تأثير مخيف على البنوك غير الأمريكية والشركات الأخرى خارج نطاق الولاية القضائية الأمريكية، التي قد تفقد هي نفسها القدرة على استخدام النظام المصرفي الأمريكي، ما لم تدعم العقوبات.
من جهة أخرى، أعلنت 79 دولة دعمها للمحكمة الجنائية الدولية ، وهم يشكلون ثلثي الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي ،البالغ عددهم 125 دولة مؤكدين في بيان مشترك “باعتبارنا من المؤيدين الأقوياء للمحكمة الجنائية الدولية، فإننا ناسف لأي محاولة لتقييد استقلال المحكمة“
وفى ردود الفعل الدولية، قال رئيس المجلس الأوروبي- أنطونيو كوستا- إن هذا القرار يهدد استقلال المحكمة، ويقيد نظام العدالة الجنائية الدولية.
وفى بريطانيا، قالت رئاسة الوزراء على لسان المتحدث باسمها، إن بريطانيا تدعم استقلالية المحكمة الجنائية الدولية، ولا تعتزم فرض عقوبات على مسؤوليها.
فهل الدعم من قبل المجتمع الدولي، يكفي وحده، أم أن نتائج العقوبات تستدعي إصدار تشريع موازٍ؛ لتخفيف آثار العقوبات الأمريكية.