كتب- سمير عثمان

شهدت الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي انطلقت شرارتها الأولى بعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، خسائر جمة على القطاع والدولة الفلسطينية بشكل كامل، وعلى الرغم من حجم الدمار والخسائر البشرية والاقتصادية التي خلفتها الحرب، إلا أن هناك خسائر كبيرة طالت دولة الاحتلال الإسرائيلية، خاصة مع انطلاق حملات المقاطعة التي بدأت بعد توسيع رقعة الحرب.

على الرغم من أن فكرة المقاطعة ظهرت بشكل غير منظم في بدايتها، عبر منصات التواصل الاجتماعي، والدعوات التي أطلقها أفراد ومنظمات وأحزاب، إلا أنها تحولت لعمل منظم، كان له تأثير كبير على الاقتصاد الإسرائيلي.

بداية المقاطعة

على وسائل التواصل الاجتماعي، انتشرت دعوات مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال والممولة لعملياته في حرب غزة، وتزايدت تلك الدعوات مع تزايد وتيرة الحرب، ومع تلك الدعوات الفردية، بدأت أحزاب ومنظمات في تبني فكرة المقاطعة وتوسيع الدائرة، وبجانب مقاطعة منتجات الشركات الغربية الداعة للاحتلال بدأ العرب قبل الغرب في مقاطعة الشركات التي تستثمر بأموال ضخمة في إسرائيل، منها الشركات التكنولوجية، مثل شركة إنتل وأمازون.

على الرغم من الكوارث والضحايا والدمار الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على غزة، إلا أن الجانب المشرق الذي نجحت فيه الحرب، هو إعادة إحياء القضية الفلسطينية مجددًا في عيون العالم الغربي، حيث اكتسبت القضية تضامنًا عالميًا، لم تشهده من قبل، وذلك بسبب الإبادة التي ارتكبتها قوات الاحتلال، وهو ما أدى إلى زيادة حملات المقاطعة، وبدلًا من اقتصارها على العالم العربي ومواطنيه، دخلت العديد من بلدان العالم على خط المقاطعة، وانتشرت حملات عالمية لمقاطعة إسرائيل وشركاتها والشركات المتعاونة معها.

BDS وتأثيرها على اقتصاد الاحتلال

بالتزامن مع حركة المقاطعة العالمية، كانت حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) الفلسطينية، تقوم بدورها الذي أعلنته منذ تدشينها في 2005، وهو مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، وهو ما ساهم في توسيع رقعة مفهوم المقاطعة وانتشاره، وبالتالي تزايد عدد المشاركين في مقاطعة دولة الاحتلال، ومع النجاح الذي حققته الحركة، في عزل النظام الإسرائيلي أكاديميًا وثقافيًا وسياسيًا، اعتبرت إسرائيل الحركة من أكبر “الأخطار الاستراتيجية” المحدقة بها، وهو ما دفعها إلى دفع ملايين الدولارات لمواجهتها من أجل إنهاء المقاطعة.

تقوم فكرة مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل على فكرة، أن هذه الشركات تحقق إيرادات والأرباح، بينما تقوم الدول الداعمة لدولة الاحتلال بتحصيل الضرائب من هذه الشركات، وفي الأخير تتجه نسبة كبيرة من ضرائبهم إلى إسرائيل لتمويلها في حربها على غزة، وهو ما تظاهر بسببه آلاف المواطنين في أمريكا كمثال؛ احتجاجًا على تمويل إسرائيل من ضرائب المواطنين والشركات الأمريكية.

استطاعت حركة مقاطعة إسرائيل خلال الحرب الإسرائيلية على غزة 2014، في تكبيد اقتصاد الاحتلال خسائر جمة، منها ما أشار إليه تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) من انخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الاقتصاد الإسرائيلي خلال عام 2014 بنسبة 46% مقارنة مع عام 2013، كما انعكس تنامي تأثير حركة المقاطعة على اقتصاد دولة الاحتلال بشكل مباشر، حيث تراجعت قيمة الصادرات الإسرائيلية إلى الأراضي المحتلة في عام 2014 إلى 2.9 ملياري دولار بالمقارنة مع 3.4 مليارات دولار في 2013، أي بنسبة 15%. كما تراجعت قيمة هذه الصادرات أكثر في الربع الأول من 2015 بنسبة 24% وفق دراسة البنك الدولي، ذلك فضلًا عن إنهاء العديد من الشركات العالمية تعاقداتها مع إسرائيل، فيما قرر الاتحاد الأوروبي وضع علامات على المنتجات، أو الضائع التي يتم توريدها من إسرائيل، وهو ما أثر بشكل كبير على الاقتصاد الإسرائيلي.

ومع حرب طوفان الأقصى، نشطت الحركة مجددًا، لتعلن العديد من المكاسب التي حققتها نتيجة المقاطعة، منها إلغاء العديد من الشركات تعاقداتها مع إسرائيل، وإلغاء العديد من الفعاليات لفنانين وأدباء، لفعاليات كان مقررًا إقامتها في إسرائيل، فضلًا عن سحب العديد من البنوك استثماراتها، وتجميد اتفاقيات عدة بلديات، مثل بلدية برشلونة اتفاقياتها للتوأمة مع إسرائيل.

الأبعاد السياسية والاجتماعية لحملات المقاطعة

يقول الدكتور محمد عز العرب، رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، في دراسة نشرها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن أبرز الأبعاد السياسية والاجتماعية لحملات المقاطعة، هو عودة تأثير سياسات الشارع في القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وممارسة الضغوط على الدول الداعمة لإسرائيل في الحرب على غزة، وتستند هذه الحملات لدوافع سياسية تارة وأبعاد دينية تارة أخرى، ولم تكن هذه الحملات جديدة، بل يتصاعد منسوبها وحدود جدواها ضد إسرائيل خلال مواجهاتها المسلحة مع عناصر المقاومة الفلسطينية، بل تركز المقاطعة في بعض الأحيان على بضع شركات، تعتبرها الأكثر دعمًا لإسرائيل لمضاعفة الأثر.

وأكد عزب العرب، أن الحملات الداعية للمقاطعة الاقتصادية المُغلَّفة بأبعاد سياسية، لها تفاعل كبير في كثير من الأحيان، كما لها تأثير في التحول إلى المنتجات المنافسة المحلية خلال مقاطعة السلع والمنتجات التي تخص سلاسل شركات غربية وعلامات تجارية داعمة لإسرائيل.

خسائر الشركات الداعمة

أمريكانا: في بيانها المالي السنوي لعام 2024، وذلك بعد 13 شهرًا من الحرب على غزة، أعلنت شركة أمريكانا المشغلة لسلاسل مطاعم كنتاكي وبيتزا هت وهارديز بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، عن انخفاض صافي الربح السنوي بنسبة 38.8 بالمئة ليصل إلى 158.8 مليون دولار في 2024، مقارنة بـ 259.5 مليون دولار في 2023.

وقالت الشركة في بيانها، إنها سجلت تراجعًا في الإيرادات بنسبة 9% بنهاية عام 2024، لتصل إلى 2.2 ملياري دولار، وكان التراجع؛ بسبب انخفاض المبيعات؛ نتيجة التوترات الجيوسياسية المستمرة في المنطقة.

فيما أعلنت شركة “يام براندز” الأمريكية التابعة لأمريكانا، والمالكة لسلسلتي كنتاكي وبيتزا هت في تركيا، إنهاء اتفاق الامتياز مع شركة “إيش غذا” المشغل المحلي للمطاعم في تركيا، مما أدى إلى إغلاق 537 فرعًا، وإعلان المشغل التركي إفلاسه بديون تجاوزت 7.7 مليارات ليرة تركية، ما يقدر بـ214 مليون دولار، وذلك بعدما تراجعت مبيعات كنتاكي في تركيا بنسبة 40% خلال الأشهر الأخيرة.

كارفور: حملة المقاطعة الأكبر، كانت من نصيب شركة كارفور، التي تديرها مجموعة ماجد الفطيم، وذلك على خلفية تعاقد كارفور مع شركة إلكترا الإسرائيلية، ومع حرب طوفان الأقصى، تعالت أصوات مقاطعة كارفور في الدول العربية، وهو ما أدى إلى إعلان مجموعة ماجد الفطيم، إنهاء تعاملها التجاري بالكامل مع “كارفور” فرع الأردن، وهو ما اضطرّت معه سلسلة كارفور في الأردن لإغلاق عدد من فروعها على مدار العام، وصولاً إلى قرار إنهاء أعمال “كارفور” بالكامل هناك.

كما قررت “كارفور” في سلطنة عمان وقف عملياتها في السلطنة مطلع يناير الماضي، وقالت الشركة في بيان لها: عملائنا الكرام، اعتباراً من تاريخ 7 يناير2025، ستتوقف عمليات كارفور في سلطنة عُمان بالنيابة عن إدارة وموظفي كارفور، وذلك بعد نجاح حملات المقاطعة داخل سلطنة عمان في التأثير على عمليات البيع والشراء من فروع كارفور.

التقرير نصف السنوي لشركة ماجد الفطيم لعام 2024، أظهر انخفاضًا في الأرباح بنسبة 47% لشركة الفطيم للتجزئة، كما تعرضت كارفور للضغط خلال الاجتماع العام الذي عقدته المجموعة الفرنسية في 2024، داخل اجتماع جمعيتها العامة وخارجه، حيث وجّه المساهمون بمن فيهم النشطاء من مختلف المنظمات المؤيدة للفلسطينيين، أسئلة إلى الإدارة حول تواطؤ الشركة في الجرائم الإسرائيلية، بينما تظاهر نشطاء خارج مقر انعقاد الاجتماع لإدانة تواطؤ كارفور وضلوعها في الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.

ستاربكس: قبل أيام وخلال زيارته الإمارات، دعا رئيس مجلس إدارة مجموعة ستاربكس الأمريكية، براين نيكول، زبائن ستاربكس بالتوقف عن المقاطعة لفروع ستاربكس، مشددًا على أن المقاطعة قد تهدد الشركة بالانهيار التام، ومؤكدًا: “نحن لا ندعم أي جيش”.

تصريحات رئيس مجلس إدارة ستاربكس، جاءت بعد خسائر فادحة، تعرضت لها ستاربكس منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث تراجع سهم الشركة بنسبة 1.6 % بنهاية العام الماضي، وذلك في أطول سلسلة خسائر منذ ظهور مجموعة ستاربكس لأول مرة في السوق المالي عام 1992، حسب ما نقلته وكالة “بلومبيرج”، وقد تسبب التراجع في خسارة القيمة السوقية للشركة 9.4 %، بما يعادل 12 مليار دولار.

نستلة: أكدت الشركة في بيان لها أواخر 2024، أكدت الشركة التي تمتلك العديد من العلامات التجارية، مثل نسكافية وكيت كات، أنها منذ اندلاع حرب غزة أصبحت هدفً مركزيًا لحركات المقاطعة، ووفقًا لمؤشر النمو الداخلي الفعلي، انخفض نمو مبيعات نستلة من 2.2% في الربع الثاني من 2024 إلى 1.3% في الربع الثالث، وتراجعت مبيعات الشركة بنسبة 2.5% في الأشهر التسعة الأولى من العام، مقارنة بالفترة المقابلة من عام 2023.

شركات توقف استثماراتها

ردود الأفعال الدولية على حرب غزة، دفعت العديد من الشركات الكبرى إلى سحب استثماراتها من دولة الاحتلال، بعد دعوات واسعة إلى مقاطعتها، حيث ألغت شركة إنتل عملاق الرقائق الإلكترونية، اتفاق باستثمارات بقيمة 25 مليار دولارا، كانت موجهة لتنفيذ مصانع داخل الأراضي المحتلة، وكان الاتفاق يشمل تشغيل 12 ألف إسرائيلي، ويعد اتفاق إنتل مع الحكومة الإسرائيلية، هو الأكبر في تاريخها، ولكن تم وقف تنفيذ الاتفاق إلى أجل غير مسمى.

الضغوط الدولية ودعوات المقاطعة، دفعت لجأت شركة التأمين الفرنسية “أكسا” إلى بيع استثماراتها في جميع البنوك الإسرائيلية الكبرى، وذلك بعد استهداف حملة المقاطعة للشركة، خاصة بعد استثمارات الشركة في البنوك الإسرائيلية وشركة “إلبيت” للتصنيع العسكريّ، لتواطؤها في المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراض فلسطينية.

في 2018، سحبت “أكسا” استثماراتها بشكل جزئي من شركة “إلبيت” للتصنيع العسكري، كما نجحت الحملة في ضغطها على “أكسا” لسحب استثماراتها من بنكين إسرائيليين، وهما بنك “مزراحي تفاحوت” وبنك “إسرائيل الدولي الأول” بحلول نهاية عام 2022.

وفي منتصف يونيو من العام الماضي، وبالتزامن مع تصاعد الحملة العالمية لمقاطعة أكسا، سحبت شركة التأمين الفرنسية استثماراتها من جميع البنوك الإسرائيلية، مع بقاء أسهم أخيرة في بنك “لئومي”.

الأمر لم يتوقف على مستوى الشركات فقط، ولكن الدول لجأت نفس الطريق، حيث أعلنت أيرلندا منتصف 2024 سحب استثمارات بملايين الدولارات من إسرائيل، وأكدت الوكالة الوطنية الأيرلندية لإدارة الخزانة، أنها اتخذت قرارًا بسحب ما يقرب من 3 ملايين يورو من محفظة الأسهم العالمية الخاصة بها في صندوق الاستثمار الاستراتيجي الأيرلندي، ويتعلق قرار التصفية بمساهمات بقيمة إجمالية قدرها 3.2 ملايين دولار في 6 بنوك إسرائيلية.

في نفس السياق، أعلن مجلس مدينة ريتشموند بولاية كاليفورنيا الأمريكية، سحب الاستثمارات من الشركات التي تعمل في إسرائيل، لتصبح ثاني مدينة أمريكية تسحب استثماراتها بعد هايوارد، وريتشموند لديها مجموعة تبلغ حوالي 600 مليون دولار للاستثمار في إسرائيل، ومن المرجح أن يتم استثمار نسبة صغيرة فقط تبلغ حوالي 7%.

وفي خطوة هامة لدعم القضية الفلسطينية، أعلن أكبر صندوق سيادي في العالم سحب استثماراته من إسرائيل، وقال صندوق الثروة السيادي النرويجي، إنه سحب استثماراته من شركة “بيزك” في إسرائيل، وباع كل أسهمه فيها، وذلك لتقديمها خدمات الاتصالات للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة.

ويأتي القرار الذي اتخذه أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم، بعد أن تبنت هيئة مراقبة الأخلاقيات التابعة له تفسيرًا أكثر صرامة لمعايير الأخلاقيات للشركات التي تساعد عمليات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويحقق المجلس الأخلاقيات بالصندوق، منذ بدء الحرب على غزة بشأن وجود أي شركات أخرى مخالفة للقواعد الإرشادية التي يسمح بها للاستثمار.

وفقًا لصحيفة “فايننشيال تايمز” البريطانية، فقد تخلى بنك “باركليز” البريطاني، بعد حملة ضغوط كبيرة، عن رعاية عدد من الفعاليات، كما يدرس البنك احتمال وقف بيع السندات الحكومية الإسرائيلية، حيث خرج من قائمة أكبر 5 متعاملين في السندات الإسرائيلية خلال الربعين الثاني والثالث من عام 2024.

عجز مالي في إسرائيل

أدى استمرار الحرب على غزة إلى زيادة العجز المالي للموازنة الإسرائيلية، حيث ارتفع من 4.5% في يناير 2024 إلى 8.5% في سبتمبر من العام نفسه، واستقر على 7.7 % في نهاية العام، بحوالي 40.5 مليار دولار من الناج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى له منذ سنوات.

وحذرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من أن المخاطر على الاقتصاد الإسرائيلي لا تزال مرتفعة، فتصاعد حدة الحروب المتجددة يؤدي إلى تدهور الحسابات العامة بشكل كبير مع الحد بشكل مباشر من النشاط، وهو ما قد يؤدي إلى فقدان ثقة المستثمرين الأجانب إلى زيادات أخرى في عائدات السندات الحكومية واختبار قيمة العملة.

على صعيد متصل، توقع تقرير لوكالة التصنيف الائتمانى العالمية ستاندرد آند بورز، أن الاقتصاد الإسرائيلي لن يبدأ في التعافي إلا في عام 2025 بنمو متواضع بنسبة 2.2%، كما خفضت المؤسسة تصنيف إسرائيل على المدى الطويل، وأرجعت هذا إلى المخاطر الأمنية المتزايدة في ضوء التصعيد العسكري في جنوب لبنان.