لم يكن المشروع الصهيوني تحدياً واحداً له المقدار ذاته من الخطر والضرر على كل العرب مجتمعين، وهذا يفسر لك، لماذا لم يتفاعل معه العرب بأي قدر من الاهتمام والجدية حتى ثورة فلسطين الكبرى 1936- 1939م، كما يفسر لك، لماذا سكت كل العرب ومعهم كل المسلمين قريباً من خمسمائة يوم، حتى تمكنت إسرائيل ومعها أمريكا من سحق آخر حصون المقاومة الفلسطينية، ومحق قطاع غزة المناضل من الوجود. عندما ظهر المشروع الصهيوني، كان العرب كلهم تحت سلطان الاستعمار الأوروبي القديم، فكان كل شعب عربي مشغول بهمه الوطني الذاتي، وهو السعي للفوز بالاستقلال عن الاستعمار، ولم يكن أي شعب عربي لديه فائض طاقة يستطيع التطوع بها لصالح فلسطين في مواجهة الصهيونية، استمر الوضع على هذا الحال حتى العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين، حيث نهضت العاطفة العربية بمعناها القومي الشامل، وحيث تبلور وعي فكري صاعد، يرى في المشروع الصهيوني خطراً على كل العرب، يلزم دعم نضال الشعب الفلسطيني في مواجهته، وقد انتهى النضالان الفلسطيني والعربي في ذلكما العقدين بقيام دولة إسرائيل 1948م، حيث انهزم العرب بجيوشهم مجتمعين أمام عصابات الصهيونية، ثم تكررت الهزيمة بعدها بعشرين عاماً، حيث انهزموا مجتمعين أمام الدولة الصهيونية الناشئة في 1967م، ثم بعد ذلك بعشر سنوات فقط في 1977م، ذهب العرب إلى إسرائيل يطلبون السلام، تقريباً هي حسبة ثلاثين عاماً من حرب 1948، حتى اتفاق كامب ديفيد 1978م. وبعدها تفرع تاريخ العرب القريب جداً عدة تفريعات: ذهب العراق، وكان في ذلك الوقت قوة عربية عظيمة لحرب إيران، وفي ظهره وقف عرب الخليج، يساندونه ويدعمونه، عشر سنوات كاملة من حرب العرب مع إيران، قامت في مطلعها إسرائيل بغزو لبنان 1982، وفي نصفها الثاني اندلعت أول انتفاضة فلسطينية 1987، ثم في ختامها استدار العراق مائة وثمانين درجة، فتوقف عن حرب عدوه الإيراني، وبدأ حربه ضد أشقائه العرب، وكانت البداية بغزة واحتلال الكويت 2 أغسطس 1990، ولولا احتشاد العالم ضد ذاك الغزو، لما توقفت غزوات صدام عند الكويت.

في هذه اللحظة من عام 1990، تأكد لدى عرب الخليج حقائق جديدة: الخطر عليهم ليس من إسرائيل، ما دامت هي بالجغرافيا بعيدة عنهم، الخطر عليهم من جوارهم المسلم وهو إيران، ثم الخطر عليهم من جوارهم العربي وهو العراق، ثم الخطر الأخطر عليهم هو الخطر الكامن من جوارهم الخليجي العملاق، وهو السعودية التي تستطيع ما تعجز عنه إيران والعراق معاً، وهو التهام ما تشاء من جاراتها الأصغر في لمح البصر أو هو أقرب. هنا توارى ويتوارى أي خطر إسرائيلي ضد عرب الخليج، ثم توارى الخطر أكثر بعد ذلك بثلاث سنوات مع اتفاق السلام الفلسطيني- الإسرائيلي، فيما عرف باتفاقات أوسلو 1993، ثم مع الأردن 1994، ارتاحت أعصاب عرب الخليج من صخب الحالة النضالية العربية- التي كان أكثرها صخب إعلامي- حول فلسطين، واتسق وعي الخليج مع ذاته، فهو وعي براجماتي عملي واقعي رحب بدخول الاستعمار البريطاني إليه عبر اتفاقات، ثم خروج الاستعمار منه برغبة الاستعمار ذاته، ثم حصول عرب الخليج على دول مستقلة بهندسة استعمارية محضة، فلم يجرب عرب الخليج مكافحة الاستعمار حين دخل، ولم يعرفوا مقاومته حين استقر، ولم يكن لهم يد في خروجه حين خرج، كانت علاقة ودودة حميدة، تربط بينهم وبينه قبل الاستعمار وبعد الاستقلال، هذا هو طبع السياسة الخليجية، ومن يفوته هذا الفهم، يغيب عنه تقدير طبيعتها، فأكبر الدول الخليجية لم يكن يشغلها الخطر الإسرائيلي، بقدر ما كان يقلقها أشد القلق الخطر المصري في عقدي الخمسينيات والستينيات، ولهذا عمل عرب الخليج، وما زالوا يعملون جهدهم بكل مثابرة، لكيلا تعود مصر دولة قوية أبداً، هذه أولوية خليجية مستقرة، وعليها توافق فيما بينهم: لا ينبغي أن تكون مصر في وضع اكتفاء ولا استغناء ولا استقواء، بما يسمح لها بوضع قوة، ثم سيطرة ثم هيمنة على القرار العربي.

عندما كانت مصر الناصرية تهيمن على القرار العربي وصوتها له مقبولية عالية عند الشعوب العربية وإعلامها، هو الصوت الأعلى والأكثر تأثيراً في عموم العالم العربي، لم يكن أمام عرب الخليج من اختيار غير المجاراة وإظهار الاتساق مع الموجة الصاعدة، حتى انكسرت 1967؛ فتنفس الخليج الصعداء بارتياح شديد، ولم يكن لعرب الخليج أن تكون لهم الكلمة العليا في القرار العربي لولا: أن السادات قرر التخلي عن قيادة مصر للنضال العربي، ثم قرر مبارك تسليم الدور المصري للسعودية منذ 2002، حيث مبادرة الأمير عبد الله- بعد ذلك الملك عبد الله- للسلام العربي الشامل مع إسرائيل، في ذلك العام 2002، نزلت مصر عن آخر درجات السلم القيادي الذي كانت قبل ذلك تقف على أعلاه، كما في ذلك العام، تخلى مبارك عن نصف مقعد الرئاسة لنجله الأصغر تمهيداً للتوريث، كما في ذلك العام أوسع الأمريكان الطريق لدور تركي جديد في المشرق العربي جيء له خصيصاً بزعيم ذي قدرات خاصة في وزن رجب طيب أردوغان، كما في ذلك العام 2002 بدأت أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ثم غزو أفغانستان ثم غزو العراق 2003، بدأت مشروعاً لشرق أوسط ديمقراطي، لا مكان فيه للقادة القدماء بمن فيهم مبارك ذاته، شرق أوسط تلعب فيه تركيا الدور القائد، كما يلعب فيه الإعلام الخليجي الدور المهيمن على كل من سواه من منابر تشكيل الوعي العربي.

وقد حدث كل ذلك بسهولة شديدة جداً، وذلك لسبب بسيط جداً: مصر ناصر انكسرت، ثم مصر السادات تخلت عن قيادة العرب، ثم مصر مبارك سلمت ما بقي من دورها القيادي للسعودية، من ذلك العام 2002 حتى يومنا هذا، وكل المشاريع الأمريكية والصهيونية، تمرح في الإقليم دون مقاومة جادة، إلا ما كان من غضب الشعوب. ساعد على ذلك تشوش المشهد العربي، حيث انسحبت الدول العربية الكبرى من مراكز القيادة، وحيث تزايد دور إيران، وحيث تزايد دور تركيا، وحيث تم اختلاق أدوار شبه أسطورية لدول الخليج الصغيرة جداً في كل مقومات الدولة، إلا قوة المال غير المحدود، دويلات بالمعنى شديد الانضباط لكلمة دويلات، لكنها بما أوتيت من قوة المال تلعب أدوار امبراطوريات.

يوم السابع من أكتوبر 2023، حيث طوفان الأقصى هو يوم كاشف للتطور الذي آل إليه العرب في مواجهة إسرائيل، كشف هذا اليوم ما كان مخبوءا من قبل، بل كشف ما كان مخبوءًا من قبل قيام دولة إسرائيل، هذا المخبوء هو الواقعية العربية التي كانت تضطر لمسايرة ثم مداراة ثم مجاراة المثالية الثورية المصرية في الأربعينيات ثم الخمسينيات ثم الستينيات، هذه الواقعية- الخليجية منها بالذات- ترى الخطر في الجوار العربي والمسلم الأقرب إليها سواء خطر إيران أو العراق أو السعودية أو مصر، ولقد كافحت السعودية ضد مصر في عقدي الخمسينيات والستينيات، ما لم تكافح مثله ضد إسرائيل في أي مرحلة من مراحل الصراع، ورغم الأخطاء المصرية التي بدأت بتحميل مصر فوق طاقتها، وفوق ما تسمح به مواردها، فإن مصر تختلف عن غيرها من كل المحيط العربي من زاوية أن مصر كانت وما زالت ترى التحدي الأكبر والأخطر عليها، ليس عربياً ولا إسلامياً، مصر حتى بعد السلام مع إسرائيل، كانت وما زالت ترى التحدي الأكبر والأخطر عليها هو إسرائيل ومعها أمريكا والغرب، لهذا تظل الجبهة الشمالية الشرقية هي نقطة ارتكاز الجهاز العصبي لمصر دولةً وشعباً، الذاكرة الحية لمصر المعاصرة تحفظ حقيقة، أن إسرائيل احتلت شبه جزيرة سيناء بأكملها مرتين في حدود عشر سنوات 1956 ثم 1967، هذا استشعار بيولوجي طبيعي غريزي وجودي، مثلما هو استشعار سياسي وثقافي وفكري، الإجماع الوحيد لدى عموم المصريين- حتى في ظل أشد حالات الانقسام السياسي والتشرذم الفكري- هو الإجماع على أن إسرائيل هي التحدي الأكبر والخطر الأول، ولهذا فإن الاحتشاد المصري على الجبهة الشمالية الشرقية هو احتشاد تلقائي عفوي، يقظ دائم ومستمر ومستقر، فالمصريون لا ينسون، ولن ينسوا أنه حتى في نصر أكتوبر المجيد 1973، حدثت الثغرة، وعبرت قوات العدو غرب القناة، ودارت المعارك في السويس وتوقفت الاشتباكات المسلحة عند الكيلو 101، حيث الطريق مفتوحة إلى عاصمتهم القاهرة. الفارق الذي حدث بين ما قبل كامب ديفيد، وما بعده هو أن مصر لن تحارب إلا لحماية الأمن القومي المصري على وجه التحديد، فكرة الحرب قائمة كعقيدة مطمئنة، لم يحدث لها اختفاء، ولم تتوار قيد أنملة بعد السلام، لكنها حرب من أجل الأمن القومي المصري فقط، ما دام أنه لا يوجد إجماع عربي، على أن إسرائيل تمثل تحدياً لجميع العرب وخطراً على جميع العرب، فكرة الحرب عند مصر قائمة، وسوف تظل قائمة لا ينهيها السلام المصري مع إسرائيل بصورة حاسمة، الذي ينهي احتمال الحرب بصورة قاطعة هو قيام الدولة الفلسطينية، هذا ليس مجرد موقف أخلاقي ولا أخوي ولا إنساني، لكنه موقف وجودي حتمي، يرتبط ارتباطاً وثيقا بأمن مصر ووجودها وسلامتها، هذه ثوابت مصرية لا تختلف باختلاف العهود ولا الحكام ولا السياسات، ثوابت تمليها حقائق الجغرافيا والتاريخ منذ رمسيس الثاني وتحتمس الثالث، حتى صلاح الدين ومحمد علي باشا، وجمال عبد الناصر وإلى ما شاء الله من أزمان متطاولة وأحقاب في المستقبل البعيد.

مشكلة مصر ليست في إدراكها للخطر، فهي تدركه بالغريزة دون جهد ولا مشقة، وليس عندها ترف الخطأ ولا رفاهية التشوش، فالخطر الإسرائيلي قبل السلام هو الخطر الإسرائيلي بعد السلام، ولن يرتفع هذا الخطر، إلا حين تقوم دولة فلسطينية حقيقية، وليست دولة مصطنعة أو دولة لعبة أطفال. مشكلة مصر ليست في إدراك الخطر، لكن مشكلتها في الإمكانات والموارد، وهذه تنبع من سببين: أولهما الفشل الداخلي في إنجاز تنمية حقيقية، تنقل مصر من فقرها إلى بحبوحة الثراء، وثانيهما: ضغط الخارج الذي يريد مصر مارداً في قمقم، يستوي في ذلك الأشقاء مع الأعداء، فلا أحد يريد مصر صلاح الدين، ولا مصر محمد علي باشا ولا مصر الناصرية قبل انكسارها في 1967. سوف يظل الدور المصري مرهوناً بالإمكانات، وسوف تظل الإمكانات مرهونة بالموارد، وسوف تظل الموارد مرهونة بتنمية اقتصادية ناجحة، فيتحرر القرار من الضغوط، مهما كان مصدرها، وتنتفي حالة العجز، وتنطلق مصر إلى حيث تختار وتقرر وتشاء بحرية كاملة، فالفقر وما يتبعه من ديون، ومن معونات ومساعدات هو أكبر قيد على حرية القرار الوطني، كما هو أكبر قيد على استقلال السيادة الوطنية. 

طوفان الأقصى في مرحلته الأولى، حيث حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، كشف حقيقة مهمة جداً، هذه الحقيقة هي أن مقولة فلسطين هي القضية المركزية للعرب، هي وهم كبير وكذب صريح يتناقض مع الواقع، فغير صحيح ألف مرة أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لكل العرب، الصحيح هو أن كل نظام حكم عربي لديه قضاياه المركزية التي تخصه، وكلها تدور حول بقاء الحكام وتأمين وجودهم وحماية أنظمتهم الحاكمة، وتمكين أدوات قمعهم من ضبط أنفاس شعوبهم والسيطرة عليها ووضعها تحت التحكم الشديد، فلا تهمس ولا تنبس ولا تحتج ولا ترفع صوتها؛ لكيلا تزعج حكامها، لهذا كانت الشعوب العربية هي الأدنى تعبيراً عن غضبها من حرب الإبادة، إذا قورنت بباقي الشعوب في شرق العالم وغربه.

كما كشفت حرب الإبادة 2023 – 2025 حقيقة، أن العروبة كوحدة في التفكير والشعور، أو كوحدة في الوجود والمصير، قد انتهت تماماً بعد عدة عقود تعرضت فيها للتشكيك والتمزيق منذ اللحظة التي قام فيها جيش عربي بغزو بلد عربي في اليوم المشهود 2 من أغسطس 1990، المشكلة ليست فقط في اضمحلال الشعور العربي الواحد، لكن في اصطفاف بعض العرب- علناً- مع الشعور الصهيوني، لأول مرة منذ قامت الصهيونية، تحدث مثل هذه المؤاخاة العميقة بين دول عربية وإسرائيل، هذا تطور مهم، يلقي أخطر التبعات سواء على منظمة الجامعة العربية كرابط بين الحكومات العربية التي بات ولاءها موزعاً بين العروبة والصهيونية، ولكن سوف يلقي تبعات أخطر، مما نتصور على مستقبل الأمن القومي المصري، فسوف يكون على مصر مقاومة الخطر الصهيوني ليس فقط في إسرائيل، لكن كذلك في مساحات تنتسب للعروبة بالتاريخ واللغة والفكر والثقافة. وهذا بعض ما كشفته حرب الإبادة في نصفها الأخير المتعلق بتهجير شعب غزة إلى مصر والأردن مع ترحيب وراء الستار للفكرة من جانب بعض العرب، حيث وجدت مصر نفسها- مع الأردن- وحيدة في مواجهة الصلف والغرور الصهيوني مدعوماً ومحمياً بالنفوذ الأمريكي. كل ذلك يدعم تصور أن مصر قبل السلام 1977 – 1979، هي مصر بعد السلام، تعتقد عن جزم ويقين، أن الجبهة الشمالية الشرقية يلزمها أن تكون على أهبة الاستعداد الكامل والجهوزية التامة على مدار 24 ساعة، ما تعاقب الليل والنهار حتى تقوم الدولة الفلسطينية التي ترضي طموح الشعب الفلسطيني وتلبي مطالبه القومية المشروعة.

يبقى أن أخطر ما كشفه طوفان الأقصى هو الدرجة التي وصل إليها الانقسام الفلسطيني، الانقسام في حد ذاته ليس جديداً، فهو قائم منذ قامت الثورة الفلسطينية الأولى قبل مائة عام، حيث كان آل الحسيني ومناصريهم يمثلون أشد المقاومة، بينما كان آل النشاشيبي يمثلون خط الاعتدال، لكن الانقسام الراهن كشف عن مقاومة أشد ما تكون المقاومة في القطاع، ثم اعتدال ليس عنده مانع من الوقوف متفرجاً على إبادة عشرات الألوف من أبناء الشعب الفلسطيني، هذه درجة خطيرة في المستوى الذي وصل إليها الانقسام، بما يكشف عن خلل يصل إلى حد العطب ضرب الهوية الفلسطينية الواحدة، ويباعد ثم يباعد ثم يباعد بين الشعب الفلسطيني، ومطلبه المشروع في دولة مستقلة، تماماً مثلما هو حادث في الساحة العربية، فإن الساحة الفلسطينية تنقسم بين من يرون التحدي الأكبر في الصهيونية، ومن على العكس يرى التحدي الأخطر في المقاومة، ومن ثم يستطيع التفاهم، بل والتنسيق مع الاحتلال، بينما يعجز عن شيء من ذلك مع شقيقه الفلسطيني.