انتهى المقال السابق بنجاح قوات الجيش السوداني في فك الحصار عن معسكر سلاح الإشارة ومقر القيادة العامة، وذلك عقب اشتباكات ضارية وسط مدينة بحري شمال الخرطوم، والتقاء قوات محور بحري مع قوات الجيش بالقيادة العامة، وكانت الخطوة التالية هي إحكام الحصار من كافة المحاور حول مصفاة الخرطوم بمدينة جيلي، والتصنيع الحربي ومكاتب جهاز الأمن، على بعد 70 كيلو مترا شمال الخرطوم، ذلك أن المصفاة تنتج 150 ألف برميل/ يوميا من مشتقات النفط المختلفة، ما يجعلها الأكبر على مستوى السودان.
سيطرة الدعم السريع على مصفاة جيلي، كان يمنحه مميزات لوجستية كبيرة، إذ سمحت له بتشغيل مركباته، وعوضته عن إغلاق الجيش لمنافذ الإمداد من الخارج، ونظرا لاتساع مساحتها «40 كيلومترا مربعا» فقد استخدم مرافقها المحصنة كمخازن مركزية وقواعد للإمداد والتموين، وأنشأ منظومة اتصال وسيطرة، ونصب رادارات لإدارة الحرب في الخرطوم، ما زاد من تعقيد العمليات العسكرية في اتجاهها، فضلا عن تشييد معسكر لقواته وقاعدة لإطلاق المسيرات، مطمئنين إلى استحالة استهداف الجيش لها، باعتبارها من الأصول الاستراتيجية للدولة.. أما التصنيع الحربي فهو يضم منشآت تصنيع الأسلحة والذخيرة، وبالقرب منها قاعدة هيئة العمليات التابعة للمخابرات السودانية، وهي من أهم المواقع العسكرية في البلاد، إضافة لمحطة قرى الغازية لتوليد الكهرباء، التي تلعب دورًا محوريًا في تأمين إمدادات الطاقة للمنطقة.. معركة قطاع جيلي إذن كانت مفصلية في تقويض وجود الميليشيات داخل العاصمة المثلثة الخرطوم.
إلا أنه وبمجرد إكمال قوات الجيش عملية تطويق محيط المصفاة، التي يتحصن داخلها عناصر الدعم السريع، قامت الميليشيات بإشعال النيران في بعض مستودعات الوقود، وانتهزت فرصة انشغال الجيش في محاولة تطويق الحريق للهرب، لكن التشكيلات التي كانت تحاصر المصفاة تمكنت من اعتقال معظمهم، ما دفع باقي عناصر الدعم إلى اتخاذ عائلات المهندسين والعاملين المقيمة داخل المجمع السكني بالمصفاة كدروع بشرية والمقايضة بهم لفتح ممر للهروب الآمن.
والحقيقة، أن إحراق الميليشيات لأجزاء من مصفاة جيلي، لم يكن من قبيل ما فرضته محاولات هروبهم فحسب، بل أتى في سياق استهدافهم المتعمد لمؤسسات البنية التحتية المدنية، باستخدام المسيَّرات خلال الشهور السابقة، فقد هاجمت بالمسيرات في 13 يناير 2025 محطة توليد الكهرباء بسد مروي في الولاية الشمالية، التي تُنتج حوالي 40% من كهرباء السودان، ثم كررت نفس الهجوم يوم 18 يناير باتجاه محطتي توليد الكهرباء وإنتاج مياه الشرب في الشوك بولاية القضارف، وفى اليوم التالي هاجمت وبالمسيرات أيضا محطة توليد الكهرباء في دنقلا بالولاية الشمالية، كما استهدفت بغارة أخرى محطات إنتاج الكهرباء في أم دبيكرات بولاية النيل الأبيض في 21 يناير 2025، ولكن الدفاعات الجوية تصدت لها.. ويؤكد ذلك، أنه مع تقدم الجيش وتراجع الدعم السريع، أراد الأخير، أن يؤكد إثبات وجوده وقدرته على الإضرار بالمواطنين، كنوع من الضغط على الجيش، ودعم موقفه التفاوضي حال استجابة الجيش للضغوط والعودة للتفاوض.
هجوم الفاشر
قوات الدعم السريع حاولت تعويض خسائرها بولايات الوسط وفي العاصمة المثلثة، بمحاولة تحقيق مكسب يرفع من معنويات قواتها في مسقط رأس حميدتي وساحته الرئيسية بولايات دارفور، لذلك شنت هجوما من خمسة محاور على مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور في الغرب السوداني، وكان اختيارًا غير موفق، لأنها كانت قد عجزت عن اقتحامها لعدة شهور رغم إحكامها للحصار حولها، ولم تقدم الجديد لتغير النتيجة، ولم يكتفِ الجيش بذلك، بل نجح في استعادة السيطرة على مدينة «أم روابة» التي تسيطر عليها الدعم السريع منذ سبتمبر 2023، وتبعد عن مدينة الأُبيِّض عاصمة ولاية شمال كردفان نحو 145 كيلومترا، وهي من المدن الاستراتيجية وسط السودان، وملتقى طرق حديدية وبرية، تربط ولايات غرب السودان وجنوب كردفان، بالعاصمة الخرطوم وميناء بورتسودان شرقي البلاد، كما تعد سوقا ضخما للمحاصيل التي تصدّر إلى الخارج.
والحقيقة، أن خطة الجيش استهدفت تقويض تواجد قوات الدعم السريع في كافة محافظات السودان الوسطى والشرقية، ودفعها في اتجاه تحويل كل ساحات الاشتباكات إلى إقليم دارفور، الذي تسيطر الميليشيات على معظم مناطقه، مما يسمح للجيش بالتعامل المكثف معها، مطمئنا إلى تأمين الخرطوم وولايات الوسط، وواضح أن الدعم السريع قد ابتلع الطعم، لأنه عند هجومه على الفاشر وجد الدفاعات المتقدمة للجيش والقوة المشتركة المتعاونة معه في انتظاره، وتمكنوا بالفعل من التصدي للهجوم، وإلحاق خسائر فادحة في صفوف المهاجمين وآلياتهم العسكرية.. لذلك، كانت الحرب على وشك الحسم في العديد من الولايات السودانية، لكن ولايات الغرب كان ما زال أمامها شوطا ليس بالقصير، مما فرض استعراض الأوضاع العسكرية للقوات في المواجهة بين الجيش والدعم السريع.
***
الجيش السوداني يسيطر على ولايات جنوب وشرق السودان بصورة شبه كاملة؛ وهي البحر الأحمر وكسلا والقضارف والشمالية وسنار، ويقوم بتطهير الجيوب المتناثرة في بعض بلدات ولاية الجزيرة، وكذا في ولاية نهر النيل.. أما قوات الدعم السريع فهي تسيطر على 6 ولايات، تقع معظمها في إقليم دارفور (باستثناء ولاية شمال دارفور) ولا زال الدعم السريع يتواجد في بعض الولايات التي تخضع أغلبها للجيش، وهي العاصمة الخرطوم وولايات النيل الأبيض، وكردفان، وشمال دارفور، ونهر النيل، والنيل الأزرق.. هناك مقولة تؤكد أن تاريخ الحروب في السودان أثبت أن النزاعات المسلحة تنتهي عبر اتفاقيات سياسية، لكن حسم الحرب بين الجيش والميليشيات- رغم استنزاف الجانبين طوال عامين- قد لا تنتهي، ما دام الطرفان قادرين على استمرار الحرب، بعدها إما يخرج أحد الأطراف مهزوما، وإما يتم إقرار الأمر الواقع على الحدود التي توقفت عندها المواجهات المسلحة.
أما داخل العاصمة المثلثة الخرطوم فقد اضطرت قوات الدعم السريع؛ نتيجة لخسائرها إلى الانسحاب من عدة مواقع استراتيجية؛ من وسط بحري الى شرق النيل، باتجاه منطقة جبل أولياء جنوبًا عبر كوبري سوبا، كما انسحبت من منطقتي الحاج يوسف والسوق العربي، فيما يبدو أنه انسحاب تدريجي من العاصمة باتجاه جبل أولياء، والمتوقع انسحاب ما تبقى من قواتها في غرب أم درمان أيضا.. عودة النازحين والمهجرين بدت قريبة، ولكن كان لا بد أن تسبقها عمليات تمشيط وتعقيم تجنبا للخسائر في الأرواح، نتيجة احتمالات وجود عبوات، لم تنفجر أو شراك خداعية في الطرقات وداخل المنشآت.
تطور دور دولة الإمارات
السيناتور «كريس فان هولين» والنائبة «سارة جاكوبس» العضوان الديمقراطيان في الكونجرس الأمريكي، اتهما دولة الإمارات في 24 يناير 2025، بمواصلة تسليح قوات الدعم السريع السودانية، رغم تعهداتها السابقة للإدارة الأمريكية بالتوقف عن ذلك.. وكان المشرّعان قد وافقا في ديسمبر 2024 على صفقة أسلحة للإمارات بقيمة 1.2 مليار دولار، بعد أن تلقت واشنطن من جديد تأكيدات إماراتية بعدم تسليح الميليشيات المتهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة، من بينها ارتكاب إبادة جماعية في دارفور، لكن إدارة الرئيس جو بايدن أكدت في منتصف يناير، أن الإمارات استمرت في دعم الميليشيات بالسلاح، في خرق واضح لتعهداتها، وأكد عضوا الكونجرس عزمهما العمل على منع أي مبيعات أسلحة هجومية جديدة لدولة الإمارات مستقبلا، مما شكل ضغطا حقيقيا على أبوظبي.
وفى نفس الوقت، أكد نشطاء سودانيون- على صلة بمصادر موثوقة على الأرض- أنه طيلة الأيام التي سبقت سيطرة الجيش على ود مدني، تم رصد جسر جوي إماراتي عبر مطار نيالا بولاية جنوب دارفور لدعم ميليشيات حميدتي بالأسلحة والذخائر، وذلك كبديل لمطار «أم جرس» التشادي الذي نجح الجيش في قطع الطريق البري منه عبر الحدود السودانية، مما يعني أن أبوظبي حاولت منع انهيار قوات الدعم في ود مدني، وتجنب تكرار خسارته للمدن الاستراتيجية، لكنها لم تنجح.
زيارة وزير خارجية الإمارات عبد بن زايد آل نهيان إلى تركيا في 25 يناير، كانت ملفتة للنظر، خاصة أنه بعد لقائه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، كشفت صحيفة «يني شفق» التركية، أن أنقرة قدمت مقترحًا لأبوظبي استهدف تهدئة الأوضاع في السودان، بوقف الإمارات دعمها للميليشيات، مقابل سحب السودان شكواه ضدها في مجلس الأمن.. والحقيقة، أن هذه كانت المحاولة الثانية لتسوية الأزمة بين الامارات والدولة السودانية، بعد وساطة آبي أحمد رئيس الحكومة الإثيوبية في يوليو 2024، التي أجهضتها مكالمة عاصفة بين محمد بن زايد والبرهان، وكان واضحا من مبادرة محمد بن زايد بالاتصال، ومبادرة عبد الله بن زايد بزيارة أنقرة أن أبو ظبي، تبحث عن مخرج مشرف لتورطها مع الدعم السريع.. وفى تقديرنا أن ابداء الجيش استعداده لضمان مصالح الإمارات في السودان، يمكن أن يؤدي لإنهاء هذا التورط، وتلك هي الحالة الوحيدة التي يمكن أن يحسم الجيش فيها الحرب عسكريا داخل الميدان، وبصورة كاملة، بعد قطع كل مصادر الدعم عن الميليشيات، وهو ما نأمل حدوثه.
***
عودة اللاجئين
وقبل أن ننهي هذه الثلاثية، نشير إلى أن برنامج العودة الطوعية للنازحين من ولاية البحر الأحمر (شرق) إلى ولاية الجزيرة (وسط) انطلق في 4 فبراير 2025، بعد استعادة الجيش السوداني ود مدني وعدد من مدن وقرى الجزيرة، وتضمن البرنامج 100 حافلة بمعدل 20 حافلة أسبوعيا، تنطلق من مراكز الإيواء المختلفة ومن المنازل بالأحياء السكنية في بورتسودان، بالإضافة إلى مناطق الولاية المختلفة، هذا البرنامج يعتبر بشرى طيبة لإخواننا السودانيين المقيمين بمصر، والأمر أصبح منوطا بالسلطات المصرية التنسيق مع نظيرتها السودانية لبدء عودة سكان المناطق التي تم تأمينها سواء في ولايات الشرق والوسط أو في العاصمة المثلثة، وكل التمنيات الطيبة لهم بانتهاء قريب للحرب، وعود حميد للوطن.
اقرأ أيضا
جمال طه يكتب: الجيش السوداني وحرب تحرير العاصمة المثلثة «2/3»
جمال طه يكتب: انتكاسات الدعم السريع تفتح طريق الجيش من ود مدني إلى الخرطوم «1/3»