كتبت- أميرة الطحاوي
أسامة العزايزي، شاب مصري من محافظة الشرقية، وصل لإيطاليا عبر ليبيا فالبحر المتوسط، وبعد أن عانى لفترة من “التشرد” و”كاد يفقد عقله، بل وفكر في الانتحار“، ساعده مواطنون، واستضافته بيوت رعاية اجتماعية تابعة لبلدية ميلانو، وهو الآن يخصص وقتا لمساعدة المشردين والتطوع في أعمال خيرية.
أسامة تحول لنموذج للنجاح المصري في إيطاليا واحتفت به صحف محلية ووطنية مؤخراً.
في المقابل، أودعت محكمة إيطالية مؤخرا حيثيات حكمها بالسجن على شابين مصريين، قتلا مواطنهما محمود عبد الله (19 عاما)، وألقيا بجثته مفصول الرأس في البحر، بعد تركه العمل معهما بمحل حلاقة. من البحر وصل صبيا وإليه نقل جثة هامدة مفصولة الرأس.

قتل محمود نموذج لحالات عنف عديدة، تزايدت في السنوات الأخيرة لمصريين في سن المراهقة وبداية الشباب، وصل غالبهم لسواحل المتوسط كأطفال وقصر غير مصحوبين بذويهم قادمين بالأخص من محافظات الدلتا وبعضهم من الصعيد، عبر ليبيا ثم قوارب الموت لأوروبا في ظاهرة زادت خلال العقد الأخير.
أسباب الجرائم
أحيانا يكون سبب هذه الجرائم قدوم أطفال وقصر غير مستقرين نفسيا، لم يبنوا شخصياتهم بعد وتعرضهم لصدمة ثقافية، قد ينتج عنها شعور اغتراب، وأحيانا رغبة في إيذاء الآخرين المغايرين، لما اعتادوا عليه في مجتمعاتهم.
ففي ليلة رأس السنة الماضية، هاجم الشاب المصري محمد أبو ستة المارة بسكين موقعا 4 مصابين، قبل أن يتمكن رجال الأمن من تحييده وقتله.
وصل أبو ستة قبل عام ونصف تقريبا، تقول والدته، إنه كان يريد العودة لمصر، وأنه اعتبر المجتمع الإيطالي حوله “كل عيشتهم حرام”.

دوافع هجرة القصر
يلعب ضغط الأقران دورا في تشجيع الأهالي والصغار على السفر لأوروبا، ويغري نجاح فرد من أسرة قريبة أو جارة بتحقيق المثل.
في حين تضغط بعض الأسر، والفقر في شعور الصغار (مبكرا) بمسئوليتهم عن العمل وتوفير لقمة العيش لذويهم.
قد لا يعلن بعض الأهالي عن شعورهم بتأنيب أو حرج من إرسال طفل للصحراء، ثم ليد مهربين وبيوت تعذيب، حتى لو وعدهم الوسطاء ألا يمسهم سوء.
يقول أب فقد ابنه في حادث بعد وصوله لإيطاليا قبل عام ونصف تقريبا، إنه لم يبدأ بإرسال نقود سوى قبل أشهر خمسة.
قوارب الموت عبر المتوسط
لا تردع قصص التعذيب والموت المحقق البعض عن أخذ هذا المسار
في شتاء 2022، وبينما أُغطي حادث غرق مركب للهجرة قرب طبرق شرق ليبيا، حيث نجا ستة فقط من أصل 26 كانوا عليه، كلهم مصريون وسوري واحد، تراسلني قريبة أحد المهاجرين المختطفين في مخزن قريب، وقد تملكها الخوف، لقد مكث وابن عمه وقريب آخر لشهور، يتعرضون للتعذيب والعمل بالسخرة، ويطلب الجلادون مزيدا من الأموال لوقف التعذيب، ويطلب المهرب المحلي القسط المستحق، تتردد المرأة في إبلاغ قوات الأمن (المحلية بشرق ليبيا) بهذه المنطقة بإحداثيات المزرعة القريبة والمخزن، حيث يخبئون المهاجرون كبارا وصغارا، لأنها تريد عودة قريبها بأمان، لكنها أيضا تخشى، أن يفسد ذلك الأمر على من معه فتتعرض والأسرة لمشاكل.
مصري آخر يقيم في الشمال الأوروبي، يبحث عن شقيقه المراهق “المحتجز” أيضا في ليبيا، في انتظار السفر لإيطاليا، من حديثي معه أخمن أنه يعتقد أن ديانته واحتمال اقترانه بقريبة مهاجرة، قد يسهلان له الأمور، هذا طبعا إذا وصل حيا.
يقول إن صور الجثث المنتشلة من البحر حديثا أرعبته، وأن والديه في المنيا يبكيان بحرقة، ويريدان عودة الابن “المتبقي”، يومان لا أكثر حتى عدل عن رأيه، وتلاشى أثر الصور ونحيب الأهل، وقرر أن يشجع أخيه على البقاء في ليبيا ومواصلة حلمه لإيطاليا.
وجود شقيق مهاجر ويتبعه آخر حقق بعض الاستقرار يغري بالمثل، والتكرار.
إلا أن الظروف بالطبع تتباين وتختلف فهناك من ودع مصر وودع الحياة أيضا متجمدا في غابة على الحدود بين تركيا وبلغاريا قبل رأس السنة الحالية. على عكس من سبقوه، سافر هو بالطائرة لتركيا، ثم مسار بري محفوف بخطر، لا يقل عن أهوال المتوسط.
واتهم تقرير لمنظمتين حقوقيتين السلطات البلغارية بتجاهل نداءات الاستغاثة وعرقلة الجهود المبذولة؛ لإنقاذ ثلاثة مراهقين مصريين توفوا لاحقا في درجات حرارة دون الصفر بالقرب من الحدود البلغارية أواخر ديسمبر.
وعثر على جثامين الفتية المصريين في غابات على الحدود البلغارية، بعدما عبروا الحدود من تركيا في 27 ديسمبر.
وأصدرت مجموعتان ناشطتان، هما “طرق البلقان” و”مطبخ بلا اسم” تقريرًا، يحمل السلطات البلغارية مسئولية الوفيات لثلاثة من القاصرين المصريين (15 و17 عاما) الذين عبروا الحدود خلسة من تركيا إلى بلغاريا.
مع وصول الخبر والنعي، علمت أن أخوالا وأعماما سبقوا الطفلين للهجرة والاستقرار في مدن مختلفة بأوروبا.
ويلعب هذا دورا في زيادة الرغبة لدى الوالدين لدفع طفلهما أو أطفالهما لمسار الهجرة غير النظامية، رغم خطورته قافزين للمستقبل؛ متطلعين لما يمكن أن يقدمه لهم الأقارب بأوروبا من دعم، رغم صعوبة ذلك عمليا؛ فالحياة والمشاغل والمسافات، لا تجعل القارة العجوز قرية صغيرة واختلاف القوانين، لا يسهل تقديم خدمات، ولم شمل لابن الأخ أو ابن الخال مثلا.
أبحث عن أحد الصبية المتوفين، فأجد شهادة نجاحه في سنة من المرحلة الإعدادية، ما يعني أن والده استخرج شهادة وفاة له، قبل أن يكمل الخامسة عشر.
أين دور الجهات الرسمية؟
يقول الدكتور “على سيد صديق” الشهير بـ”علي حرحش”، المصري الإيطالي المقيم منذ نحو 45 عاما، في حوارنا معه، إن هناك نحو 40 حالة وفاة وانتحار لمصريين في سجون ومراكز احتجاز مختلفة بإيطاليا خلال العام 2024، وأنه خاطب الخارجية المصرية لإرسال بعثة تقصي حقائق ومتابعة دون جدوى.

في 17 فبراير الجاري، انتحر مصري في سجن في بيسكارا شمال البلاد. واحتج نزلاء بإشعال المراتب أعلى السجن، ونقل تسعة منهم وأيضا رجال أمن للمستشفى بسبب إصابتهم. تضغط ظروف مراكز التأهيل المكتظة والاختلاط بفئات أكثر عنفا وعصابات على السجناء الأصغر سنا. تقول تقارير، إن المصري نقل للسجن (شمالي البلاد) من منطقة أخرى، وأنه كان يعاني من حالة نفسية سيئة.

حرحش الذي يعرفه الإعلام أيضا، بأنه أنقذ سكان مبنى بمدينة ميلانو من حريق في 2021، يقول إن وجود محامين مع مصريين صغار يتهمون في قضايا جنائية ضروري، ولكنه مكلِف ويستلزم متابعة الإجراءات والتحقيقات كاملة، حتى لا يُلقى بالمراهقين في دوامة السجون وتكرار ارتكاب جرائم.
يعتقد رامي العشري، الجامعي المصري المستقر بإيطاليا منذ سنوات، أن جنوح الأحداث ارتفع بشكل يصعب السيطرة عليه، لغياب دور الأسرة، ولا يستطيع الأشخاص الأكبر سنا القيام بدور ملموس في هذا، لأن الجالية المصرية متفرقة، رغم تركز الكثير منهم في ميلانو وروما.
ولأن الأطفال القادمين يعيشون في مراكز استقبال لسنوات حتى السن القانوني، وهو ما يقلل تواصلهم مع قادة مجتمعات المهاجرين وأبناء الجالية الأقدم، فينشأون متحررين من أي تقدير أو التزام تجاه أحد منهم.
كما أن الجاليةــ يضيف ــ تلتقي فعلا دون رابطة أو مقر دائم أو ناد اجتماعي، لكن عرَضا في المقاهي وصلوات الجمعة وعند تقديم واجب العزاء، لكن لا يتم ذلك دوريا.
ويقول إن فرص العمل سواء الموسمي أو الدائم متوافرة، وأن الكثير من المصريين يعملون في المزارع ومحطات خدمات السيارات والمعمار.
كما أن فرص تعليم اللغة وإجادة الحاسب الآلي متوفرة وأحيانا، تقدم مجانا، لكن الصغار يقبلون على الدخول لسوق العمل مباشرة، أيا كان نوعه.
وزاد عدد من يرفضون تأجير مساكن لمصريين وعرب مؤخرا، يقول العشري إنهم يخشون الجرائم والعنف، حتى لو أن مرتكبيه عدد قليل من الجالية ككل.
من المفارقات التي رصدتها في الصحف، أن بعضهم يتصرف كما لو كان في مصر، شاب في منتصف الثلاثينات عين نفسه “سايسا” اركن السيارات أمام مطعم، وطلب 5 يورو من كل سيارة، وإلا “نالها غضبه” فقبض عليه، آخر رفض إعادة كاميرا لسائحة آسيوية طلبت منه تصويرها وطلب 200 يورو.
هناك الكثير من الشباب المصريين ينجحون بالفعل، لكن آخرين يقعون ضحايا لاستغلال العمل بصورة غير رسمية.
في فترة الإغلاق العام التي فرضت وقت جائحة كورونا، اضطر ع. وهو شاب مصري للعمل بمزارع لأكثر من 14 ساعة يوميا، ، هاجر من قريته بالدلتا صبيا، ويقبل في أحيان كثير ظروف عمل قاسية؛ لأنه ورغم سنوات مضت، كون فيها مدخرات لا زال لم يسو أوراق إقامته الرسمية، بشكل يسمح له بمميزات العمل الرسمي من تأمينات اجتماعية وساعات راحة وعلاج.. إلخ.
ونظرا لما عليهم وأسرهم بمصر من ديون للمهربين. يظل كثير من المصريين المهاجرين يدورون في نفس المهن، ودون قدرات تنافسية أو شهادة تعليمية وإجادة اللغة، وبالتالي لا يمكنهم الترقي وظيفيا كثيرا.
يتراوح ما يدفعه المهاجر للمهربين بين 5 إلى 10 آلاف يورو، حسب بلده ومسار الهجرة الذي يسلكه، وإذا كان به تنقل بالطيران.
يدخل الصغار في حلقة من البحث عن ربح سريع، يقبل بعضهم على توزيع المخدرات، والسلع المقلدة، وأحيانا ينضم لعصابات السرقة بالإكراه من المارة.
ويتعرض البعض، خاصة في سن صغير لاعتداءات جنسية، ويقوم البعض بتقديم الجنس مقابل المال، وكلها نوعية من المشاكل لم تكن منتشرة ومعروفة من قبل.
يتجه هؤلاء لنوع من التكيف السلبي، وهو لجوء هذه الفئات الأكثر استضعافا للتسرب من التعليم أو الأعمال المخالفة للقانون أو الخطرة بغية توفير لقمة العيش.
أحيانا يمارس هؤلاء القصر نوعا من التمرد أو انتقاما عشوائيا، حتى لو تم ضد أغراب أو من لم يسيئوا قط لهم.
لديهم مخزون من الإحساس بالغبن، والصدمة النفسية “تروما” لما شاهدوه وعاشوه سواء في حياتهم بمصر أو عبر رحلتهم للغرب. فيوجهون غضبا مكبوتا نحو الآخرين.
يرى رامي العشري أن ارتفاع الجرائم مؤخرا يتطلب تدخلا من السفارة المصرية بشكل أكثر فاعلية من مجرد المساعدة في إجراءات إعادة جثامين المتوفين.
ويعلق على الجرائم الأخيرة وصعوبة الاندماج للصغار والتزامهم بثقافة احترام القانون والانضباط: بعض القصر يكونون صداقات مع مغتربين في أعمارهم، ويخرجون في مجموعات أحيانا أثناء المهرجانات واحتفالات رأس السنة، ويقومون باعتداءات بشكل جماعي” تكررت مثل هذه الحوادث في الأعوام الأخيرة.
يستغل اليمين السياسي هذه الحوادث، وتضخم نسبتها الميديا أحيانا، لرفض قدوم مهاجرين ولاجئين من دول بعينها.
حسب تقديرات رسمية، وصل عدد المصريين المقيمين بصفة رسمية في إيطاليا إلى نحو 170 ألفا للعام الماضي 2024.
وتحتل مصر المركز السابع في عدد الأجانب بإيطاليا، بحسب المديرية العامة لسياسات الهجرة والتكامل في وزارة العمل والسياسات الاجتماعية بإيطاليا، والتقارير السنوية عن الجاليات الأجنبية الرئيسية هناك؛ إذ يأتي أكبر عدد من المهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبي من دول، المغرب، وألبانيا، وأوكرانيا، (خاصة بعد الحرب الأخيرة)، والصين، والهند، وبنجلاديش، ثم مصر.
في 1 يناير 2023، كان هناك 155،892 مصريًا يقيمون بشكل قانوني في إيطاليا، بزيادة 3 % عن العام السابق.
ويتركز وجود المصريين في شمال البلاد (حوالي 82 % منهم)، وخاصة في لومبارديا، وهي أكبر الأقاليم الإيطالية، من حيث عدد السكان (نحو 9.5 ملايين نسمة).
حتى العام 2024، يعيش نحو 270 ألف مواطن أجنبي في مدينة ميلانو، 42 ألفا منهم مصريون.

إحصائيا 32.7% من المصريين بإيطاليا من النساء. وهناك حصة عالية من القاصرين(31.9 %) هي الأعلى من بين المقيمين من خارج الاتحاد الأوروبي.
وتتكون الأسر المصرية من 5 إلى 7 أفراد، كما أن نسبة الأسر التي بها أكثر من 8 كبيرة أيضا. يلحظ أن السبب الأكبر في منح سمات دخول رسمية جديدة للمصريين هو “لم شمل الأسرة”.
فيما يتعلق بموضوع القاصرين، فإن الإحصائيات ليست حاسمة والأرقام قيد المراجعة: في 31 ديسمبر 2023، كان هناك 4677 قاصرا (وهو أقل بنسبة 4.5% من العام السابق)، ويساوي 20.1 % إجمالا (يحتل المرتبة الأولى) من القاصرين الأجانب غير المصحوبين بإيطاليا.
اقتصاديا، يبلغ معدل التوظيف بينهم (52.4 %) فقط، كما أن معدل عدم النشاط ( نسبة الأشخاص خارج قوة العمل، غير النشطين اقتصاديًا) يبلغ 40.8%.
ولا يعمل 83.9 % من النساء، لذا تحتل الجالية المصرية المرتبة الأولى، من حيث أدنى معدل توظيف للإناث بين الجاليات غير الأوربية بإيطاليا.