عاد التصعيد في الأزمة الراهنة في السودان لمستويات خطيرة بعد منتصف فبراير الجاري، وعقب تحقيق القوات المسلحة السودانية انتصارات ميدانية مهمة وملفتة؛ كان أحدثها فك حصار مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، في 23 الجاري بعد عامين كاملين من تهديد ميليشيات الدعم السريع للمدينة التي يتجاوز عدد سكانها مليون نسمة. وتمثل التصعيد في رعاية الحكومة الكينية لاجتماع ضم ممثلين من ميليشيات الدعم السريع “وعدد من حلفائها” (23 فبراير)، أسفر عن توقيع اتفاق “يفسح الطريق أمام إقامة حكومة موازية”، وهو الاتفاق الذي جرى وسط تكتم بعد نحو أسبوع واحد من استضافة مبنى تابع للحكومة الكينية اجتماعًا أوليًا، حظي بتغطية إعلامية ملفتة وإدانة صريحة من وزارة الخارجية السودانية. وتمثل التصعيد الناجم عن هذه الخطوة في إعادة إطلاق أطراف إقليمية (أبرزها هنا كينيا والإمارات) لسياسات التدخل المباشر في السودان، ومساعي فرض واقع سياسي جديد على الأرض عبر تقديم دعم مادي ودبلوماسي لميليشيات الدعم السريع، ومن خلفها عدد من القوى المدنية؛ وإعادة السودان في بؤرة تفاعلات الأزمات الإقليمية التي تمتد من الشرق الأوسط إلى وسط إفريقيا، إضافة إلى فرض تهديدات مباشرة على القوى الداعمة (سياسيًا على الأقل) لجهود الجيش السوداني؛ لاستعادة الاستقرار في أرجاء السودان، وفي مقدمتها مصر، وفي سياق حالة عداء أمريكي- إسرائيلي (مسنود لأسباب مفهومة من الإمارات) لجهود الأخيرة في عدد من الملفات الإقليمية ومن بينها السودان.
كينيا ودوافع التحالف مع “ميليشيات الدعم السريع”
جاءت خطوات الحكومة الكينية دعمًا لميليشيات الدعم السريع، بداية عبر اجتماع للأخيرة والقوات الحليفة لها في نيروبي في 18 فبراير، ثم الاجتماع الأخير في 23 فبراير، بعد ساعات قليلة من إقرار مجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي في قمة الأخير في أديس أبابا، قرارًا يدين جميع أشكال “التدخل الخارجي الذي يغذي الصراع السوداني” ودعوته الأطراف المتصارعة إلى الالتزام “بحوار سياسي شامل”؛ لمعالجة الأزمة الجارية في البلاد. كما يلفت النظر، أن هذه الخطوات تمثل في جوهرها “قبلة حياة” للمستقبل السياسي لميليشيات الدعم السريع بعد خساراتها الهامة أمام قوات الحيش السوداني، بما فيها خسارة مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة.
وقد حظيت خطوة كينيا بإدانات شعبية كينية كبيرة، لعل أبرزها ما صدر عن مفوضية حقوق الإنسان الكينية، “لمواقف حكومة بلادهم التي وصفوها بالمنافية لالتزامات نيروبي تجاه المجتمع والقانون الدوليين”، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، والقانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي، وأن الخطو تهدد سيادة السودان، وتمثل عملًا عدائيًا “ضد دولة إفريقية ذات سيادة”. ودعا بيان ذائع وقعت عليه جهات ومنظمات حقوقية ومدنية كينية، تحظى بدعم شعبي كبير في البلاد، إلى إعلان حكومة نيروبي وضع غير المرغوب فيهم لجميع قيادات ميليشيات الدعم السريع، وتقديم مكتب رئيس الوزراء الكيني في بيان رسمي اعتذارًا للشعب السوداني على توفير الحكومة الكينية منصة سياسية لهذه الميليشيات، واحترام الالتزامات الدولية، وإعلان كينيا نأيها بنفسها عن الانخراط في محادثات سلام، أو وساطة بخصوص الصراع في السودان “لفشل نيروبي في الحفاظ على حيادها في هذه الأزمة”.
ورغم مبادرة نيروبي بالإعلان، أنها لم تتخذ خطوات عدائية تجاه الخرطوم، وأنها سمحت لعقد قوات الدعم السريع محادثات (في أحد مقار الحكومة الكينية) كجزء من “دور أكبر في مفاوضات السلام الإقليمية”، فإن ملاحظة تزامن هذا التغير الكيني نحو دعم علني لميليشيات الدعم السريع وأجندتها مع تعهد الإمارات (منتصف يناير 2025) بتعزيز شراكة اقتصادية شاملة مع كينيا، ثم تنفيذ اتفاق بقرض إماراتي لكينيا بقيمة 1.5 بليون دولار بتنفيذ أول دفعاته مطلع مارس المقبل، ليقيل حكومة وليام روتو من أزمة مالية خانقة (وعلى نحو يذكر بدعم الإمارات لموازنة حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قبل سنوات)؛ وهو التزامن الذي دفع كثير من المراقبين لوضع سياسات روتو تجاه السودان في سياق تنفيذ أجندة إماراتية أكثر شمولًا في الإقليم، وعلى خطى تجربة أبوظبي مع جوبا، فيما يتعلق بالتأثير في موقف الأخيرة من الأزمة السودانية من دعم المؤسسات الشرعية إلى تفاهمات على الأرض مع ميليشيات الدعم السريع، وعلى نحو يتصل بسياسات الإمارات في السودان.
الجيش السودان “وسباقه مع الزمن”
ميدانيًا، حقق الجيش السوداني سلسلة من الانتصارات الملفتة في مواجهة ميليشيات الدعم السريع والقوة المساندة لها منذ مطلع العام الجاري، واستمرت هذه النجاحات بعد توقيع “إعلان نيروبي” (الذي يفسح الطريق أمام قيام حكومة موازية لحكومة الفريق عبد الفتاح البرهان)، كان من آخرها إحكام سيطرته على مدينة الأبيض قبل نهاية فبراير الجاري. غير أن بروز اسم عبد العزيز الحلو قائد حركة التحرير الشعبية- شمال ضمن قائمة الموقعين على الإعلان، يثير مخاوف كبيرة إزاء استمرار نجاح الجيش السوداني في عملياته؛ فالحلو ظل من إبريل 2023 وحتى منتصف فبراير 2025، يقاتل قوات حكومية وميليشياوية على حد سواء في شمالي البلاد، ويمثل توقيعه على الإعلان ضربة خطيرة لتحركات الجيش السوداني؛ لا سيما أن الإعلان نص صراحة على ضرورة قيام سودان “علماني، وديمقراطي، وغير مركزي” مع وجود جيش قومي واحد “مع حفظ حق الجماعات المسلحة (مثل فصيل الحلو) في استمرار وجودها (مستقلة عن الجيش القومي)، وهي بنود طالما طالب بمثلها الحلو -رغم ما يعتريها من تناقضات واضحة- منذ ثورة ديسمبر ضد نظام البشير. كما أن مناطق تمركز الحلو في ولاية جنوب كردفان، وقاعدته القوية في مرتفعات النوبة وبعض الجيوب في ولاية النيل الأزرق على الحدود مع إثيوبيا، تمثل تمديدًا مرهقًا لخطوط مواجهة الجيش السوداني لميلشيات الدعم السريع في الفترة المقبلة.
وبدت مؤشرات سباق الجيش السودان مع الزمن لتحقيق مزيد من الاختراقات على الأرض، تمكنه من إلحاق هزيمة جزئية بقوات الحلو في جنوب كردفان (24 فبراير) مع نجاح القوات في كسر حصار فصيل الحلو (المدعوم راهنًا بعناصر من ميليشيات الدعم السريع) على الدلنج، وفتح طريق أمام عاصمة الولاية كادوقلي، وكشف حجم التأييد الشعبي في الولاية لدخول الجيش السوداني مناطقها، وإعادة فتحه طريق كادوقلي- الدلنج (الذي أغلقته قوات الحلو منذ 15 إبريل 2023) طبيعة حالة الغضب في الولاية؛ جراء توقيع الحلو “إعلان نيروبي”.
وربما يسعى الجيش السوداني للحاق بمهام تدمير قواعد انتشار “الدعم السريع” وتكريس حالة الضعف التي باتت عليه في إقليم دارفور، تفاديًا لتجدد إسناد أطراف إقليمية لميليشيات الدعم في ضوء المتغيرات الراهنة، والتي تستهدف محاصرة الدعم المصري للسودان، والذي تجاوز في الشهور الأخيرة عددا من خطوط المشروطيات “الخليجية” بشكل واضح، وفي ظل ما يمكن وصفه بفك ارتباط مصري مع تلك المشروطيات التي هددت مجمل دوائر الأمن القومي المصري اللصيقة في السنوات الأخيرة.
مصر والأزمة في السودان: السيناريو الوحيد
تكشف حالة الزخم الراهنة في سياسات مصر الخارجية، وقدرة القاهرة على وضع ترتيبات ذكية وواقعية في مواجهة ضغوط متزايدة عليها، تستهدف تحجيم مكانة مصر وشل حركتها بالكامل، عن سيناريو وحيد مرتقب للقاهرة تجاه الأزمة الراهنة في جارة مصر الجنوبية وتداعياتها المحتملة: مزيد من دعم مؤسسات الدولة السودانية وفي مقدمتها الجيش السوداني ومجلس السيادة الانتقالي، وتنشيط المواقف الإقليمية (لا سيما الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية) للتأكيد المستمر على ضرورة احترام سيادة السودان ووحدة أراضيه، وإدانة جميع أشكال التدخل في شؤونه الداخلية.
كما يبدو أن مصر ستتحرك بقوة ضد مسار إقامة “حكومة موازية” في السودان، مهما كانت التكلفة؛ فقد بادرت القاهرة بإدانة “اجتماع نيروبي”. وتأكيدا لذلك جاء الإعلان المصري- السوداني المشترك حول المشاورات السياسية بين البلدين (23 فبراير)، كاشفًا لتطابق وجهات نظر الخرطوم والقاهرة في ملفات متنوعة (أبرزها أمن السودان وسيادته، ومسألة سد النهضة). كما تعهد البيان بالمضي قدمًا في تنفيذ مخرجات منتدى الأعمال المصري السوداني (نوفمبر 2024)، والتأكيد على عدة مبادئ، أهمها الحفاظ على سيادة السودان، واستقلاله، وسلامة أراضيه، وحماية مؤسسات الدولة بما فيها القوات المسلحة ورفض التدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية (في إشارة مباشرة لإعلان نيروبي والقوى الواقفة خلفه) وضرورة تسوية الأزمة في “عملية سودانية بحتة”. ويدل إعلان جهات مصرية متعددة استعدادها الفوري لبدء عملية إعمار السودان على رغبة القاهرة في استباق خطوات إعادة إطلاق الفوضى في السودان بفرض أمر واقع أكثر استقرارًا. كما لا يفوت أن بدء مصر المساهمة في عمليات إعادة إعمار السودان، (وما يرتبط بذلك بتقارير عن عزم القاهرة ربط البنية الأساسية في مصر بشمالي السودان مرحليًا)، يؤشر إلى تبني القاهرة حلًا شاملًا لتسوية الأزمة في السودان، يرتكز على خطوات اقتصادية وسياسية وأمنية محددة ومرتبة.
ويواجه السيناريو المصري تهديدات أهمها، نجاح الإمارات (الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة) في تطويق السودان من جهة إثيوبيا وجنوب السودان وتشاد، وامتلاك أبوظبي كلمة فصل في مواقف تلك الدول تجاه الأزمة في السودان (عوضًا عن خدمة السياسات الإماراتية الداعمة لميليشيات الدعم السريع لأطماع دول جوار في زعزعة استقرار السودان)، إضافة إلى مؤشرات انضواء كينيا تحت مظلة الحراك الإماراتي بشأن السودان. كما يهدد هذا السيناريو عدم قدرة قادة الجيش السوداني- حتى الآن- على وضع خريطة طريق سياسية، تكون مقبولة وسط قطاعات الشعب السوداني، ولا تجنح- نظريًا بطبيعة الحال- نحو الإقصاء والانفراد بتقرير مستقبل البلاد، وهو تجاهل يهدد مجمل مكاسب القوات المسلحة السودانية الأخيرة على الأرض. وبغض النظر عن مدى قناعة القاهرة بتحول ديمقراطي في السودان، فإن توجه الأخير نحو مرحلة انتقالية حقيقية وغير إقصائية، سيكون الخيار الأمثل للسودان ولمصالح القاهرة على المدى البعيد في ضوء دينامية المجتمع السوداني، وقدرته على صيانة تعددية سياسية (في إطار مصالحة وطنية ضرورية في المرحلة الراهنة).