المقاومة فكرة.. والفكرة لا تموت.
كانت تلك رسالة لا تخفى في تشييع “حسن نصر الله” أمين عام حزب الله بعد خمسة أشهر من اغتياله.
تعالت الهتافات في أنحاء المدينة الرياضية ببيروت، التي شهدت مراسم التشييع: “إنا على العهد” و”هيهات منا الذلة” و”لبيك يا نصر الله”.
خاطبته الحشود، كما لو كان ما يزال بينها.
التقطت الكاميرات والهواتف المحمولة تلقائية المشاعر وعمق الحزن على الوجوه، كأنه مات الآن.
استبقت مراسم التشييع، وتلتها مساجلات ومشاحنات، أغلبها أضفت عليه صفات العظمة والبطولة وبعضها الآخر، كادت أن تتبنى السردية الإسرائيلية بكل ما فيها من شماتة وتقليل من الشأن.
الأطراف المتداخلة في الشأن اللبناني، طلبت قراءة مشاهد الجنازة الاستثنائية، على ما يتوافق مع أهدافها ومصالحها، لكن الحقائق تغلب في النهاية.
الذين بكوا عليه، أرادوا تأكيد أن المقاومة لم تمت معه، والذين شمتوا مجددا، أرادوا أن يقولوا، إن ذلك التشييع لم يكن لـ”نصر الله” وحده، بل لحزب الله معه!
طلب حزب الله- بالمقابل- أن يؤكد حضوره على المسرح اللبناني كقوة مقاومة، لا يمكن حذفها من معادلاته وموازين القوى فيه.
بالمفارقة، يطلق على المدينة الرياضية اسم “كميل شمعون”، ثاني رئيس جمهورية في لبنان، وهو رمز لبدايات الدور الأمريكي في معادلات الشرق الأوسط.
تولى السلطة بعد الرئيس الأول “بشارة الخوري” عام (1952) بنفس عام اندلاع ثورة (23) يوليو في مصر.
تحفظ ذاكرة التاريخ اللبناني، ما جرى في (15) يوليو (1958)، حين احتلت القوات الأمريكية مواقع حيوية في بيروت إثر شحن سياسي وطائفي، تصدره الرئيس “شمعون”.
أُطلق على هذه العملية “الخفاش الأزرق”، التي قضت باحتلال وتأمين مطار بيروت الدولي وميناء بيروت وداخل المدينة.
إنه تقريبا نفس مكان التشييع والمرقد الذي دفن فيه “نصر الله” رمزا عكسيا للمكان نفسه.
أرادت قوة “الخفاش الأزرق”، التي شارك فيها (14) ألف جندي من المارينز الأمريكي السيطرة والتحكم في بيروت.
لأسباب أخرى، أراد حزب الله اختيار ذلك الموقع بالذات، حتى يكون مرقده مطلا برمزيته على العاصمة.
سواء كان ذلك مقصودا أو غير مقصود، فإن التاريخ ماثل في المكان.
إذا ما استدعينا ذاكرة التاريخ مرة أخرى، فإن العملية العسكرية الأمريكية كانت تحديا مباشرا للوحدة المصرية السورية، التي أعلنت قبلها في فبراير من ذلك العام.
كانت تلك معركة مفتوحة على مصير ومستقبل الشرق الأوسط، قادتها مصر سياسيا وإعلاميا، حتى اضطرت قوة الغزو إلى الانسحاب بعد نحو ثلاثة أشهر.
في تلك المعركة، تأكدت مكانة “جمال عبد الناصر” وتصاعدت شعبيته داخل لبنان، بما يفوق أي تصور.
كما برز دور الزعيم الوطني الدرزي “كمال جنبلاط”، الذي عاد مرة أخرى في إبان الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي (1975- 1990)؛ ليقود الحركة الوطنية؛ دفاعا عن منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهة محاولات اجتثاثها بدعم إسرائيلي عسكري ومالي.
في (21) أكتوبر (1990) والحرب الأهلية تلفظ أنفاسها، جرى اغتيال “داني شمعون” النجل الأصغر لـ”كميل شمعون” مع زوجته وعدد من أطفاله، فيما يشبه تعمد الاجتثاث لحسم الصراع على قيادة المارونية السياسية.
أدين “سمير جعجع” قائد القوات اللبنانية بارتكاب المجزرة المروعة، وأدين أمام القضاء، غير أنه عاد للواجهة السياسية طامحا، أن يتولى رئاسة الجمهورية فوق أشلاء ضحايا المجازر التي ارتكبها وأخطرها في مخيم “صبرا وشاتيلا” الفلسطيني- سبتمبر (1982).
كان “نصر الله” في الثانية والعشرين من عمره، غير أن مقاديره استدعته إلى خيارات نقيضة، لما يمثله “جعجع”.
بعض الذين شمتوا في رحيل “نصر الله” يجدون أنفسهم، كما لو كانوا يحاربون معركة “جعجع”.
باليقين، هناك أخطاء وتجاوزات ارتكبها حزب الله في أزمات عدة، غير أنه يكاد أن يكون مستحيلا التشكيك في التزامه بالقضية الفلسطينية كقضية وجودية، لا تقبل التساهل أو التنازل والتضحية من أجلها.
هذا صلب ظاهرة “نصر الله” ومصدر شرعيته.
في مطلع الحرب الأهلية، اضطرت أسرته إلى مغادرة بيروت، التي ولد بها عام (1960) إلى قريتها الأصلية في الجنوب، قبل أن يأخذ طريقه إلى التعليم الديني في العراق وإيران.
ربطته صداقة عميقة بـ”عباس الموسوي”، الذي أسندت إليه قيادة حزب الله، قبل أن تصل إليه إسرائيل بالاغتيال، خلفه على مقعده، واستمر أمينا عاما لمدة (32) عاما.
تاريخ حزب الله هو نفسه تاريخ “نصر الله”.
بقوة الإرث العائلي في الحياة السياسية اللبنانية، لم يكن متاحا لابن أسرة فقيرة للغاية، يعمل والده بالبقالة وبيع الخضر، أن يصل إلى ما وصل إليه من مكانة ونفوذ لدى قطاعات واسعة من الرأي العام العربي، أوسع من قاعدته الطائفية ومدى نفوذ إيران، التي تربطه بها صلات وثيقة.
اكتسب مكانته الخاصة من إخلاصه لقضية المقاومة، كما من صدقيته العالية.
كان التزامه بالقضية الفلسطينية نهائيا.
لولا الضغوط والاعتبارات الإيرانية في إدارة الردع؛ لكان ممكنا، أن يمضي خطوات أكثر حسما وتأثيرا في إسناد المقاومة الفلسطينية في غزة.
بتعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”: “إنه ليس قائدا لحزب الله فحسب، بل هو محور المحور.. لم تقم إيران بتنشيطه فحسب، بل قام هو بتنشيطها”.
بجملة واحدة كاشفة على لسان “نتنياهو” نفسه: “إنه المحرك الرئيسي لمحور الشر الإيراني”.
“كان هو من يستخدم إيران، وليس العكس”.
ذلك الاعتراف يشهد لـ”نصر الله”، رغم تحالفه الوثيق مع إيران، بقدرته على حرية التصرف والفعل المستقل، إذا اقتضت الظروف ذلك.
هذا ما يستشعره الرأي العام العربي في أغلبيته الساحقة، دون اطلاع كاف على كواليس وحسابات اللاعبين الدوليين والإقليميين في الصراع على مستقبل المنطقة.
مكنته قدراته الخطابية، والكاريزما التي يتمتع بها من توسيع التأييد الشعبي بالعالم العربي لقضية المقاومة متجاوزا، ما يفرق من حساسيات طائفية، إلى ما يجمع من مصالح عليا تقتضيها فكرة المقاومة، حتى لا تقع المنطقة بأسرها في الحقبة الإسرائيلية.
الإخلاص للمقاومة هو صلب إرث “حسن نصر الله”، الذي لا يصح على أي نحو التفريط فيه.