يشهد السودان مرحلة غير مسبوقة من الاضطراب السياسي والعسكري، حيث تتسارع المتغيرات على الأرض وسط تصاعد حدة النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. فقد أدت المواجهات المستمرة إلى انحسار نفوذ الدعم السريع في أجزاء واسعة من ولايتي الخرطوم والجزيرة، مع تركز سيطرته في مناطق محدودة داخل النيل الأبيض وسنار ودارفور. بالتوازي تتشكل تحالفات سياسية وعسكرية جديدة؛ تهدف إلى إعادة ترتيب موازين القوى، بما في ذلك تحركات لإنشاء حكومة موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع، وسط دعم إقليمي متزايد، بما قد ينذر بتكرار سيناريو انفصال جنوب السودان عام 2011.
في ظل هذه التحولات، يدفع المدنيون الثمن الأكبر، إذ تتفاقم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من عمليات القتل الجماعي والاعتقالات التعسفية إلى النزوح القسري وانهيار الخدمات الأساسية. وبينما تتراجع الدولة المركزية أمام هذا التصعيد، تتزايد المؤشرات التي تنذر بإمكانية تفكك السودان إلى كيانات متناحرة، في تكرار محتمل لسيناريو انفصال جنوب السودان عام 2011.
يركز هذا التقرير على تحليل المشهد السوداني الحالي، من خلال استعراض التغيرات العسكرية والسياسية، وتقييم تداعيات الأزمة الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان.
التغيرات العسكرية والتحولات السياسية
فقدت قوات الدعم السريع سيطرتها على أجزاء واسعة من ولاية الخرطوم وولاية الجزيرة، وانكمش نفوذها في دارفور إلى أربع ولايات من أصل خمس، إضافة إلى أجزاء من ولاية النيل الأبيض، حيث تسيطر على منطقة أم رمتة التي تربط قواتها غربًا، ومنطقة الجبلين الحدودية مع جنوب السودان، إلى جانب تمركزها في المزموم والدندر بمحلية سنار.
يمكن قراءة هذا التكتيك العسكري ضمن بعدين رئيسيين: الأول يتعلق بامتداد النفوذ الإماراتي في جنوب السودان، والذي أحدث تغييرات هائلة على المستوى السياسي، تمثلت في إعادة ترتيب السلطة في جوبا، وعلى المستوى الاقتصادي عبر توقيع اتفاقيات لشراء النفط مع أبوظبي، مما مكّن الحكومة الجنوبية من استئناف دفع أجور موظفيها بعد توقف دام أكثر من عام؛ بسبب الحرب وتعطل خطوط أنابيب النفط السودانية. هذه التطورات، عززت قدرة جوبا على دعم تحركات قوات الدعم السريع عبر حدودها.
البعد الثاني، يتصل بإعلان تحالف سياسي يسعى إلى تأسيس حكومة موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع، وهو تحالف ضم عبد العزيز الحلو، قائد الحركة الشعبية– قطاع الشمال، والتي تسيطر منذ أكثر من عشر سنوات على منطقة جبال النوبة بجنوب كردفان، وعاصمتها كاودا، المتاخمة لجنوب السودان. تاريخيًا، تعد الحركة الشعبية تنظيمًا واحدًا يرتبط أيديولوجيًا بمشروع “السودان الجديد”، الذي يمثل امتدادًا سياسيًا لمواقف حكومة جنوب السودان، رغم انقسامها تنظيميًا بعد انفصال الجنوب عام 2011.
قراءة هذه المتغيرات في سياق مشروع الحكومة الموازية، تعكس استراتيجيات تهدف إلى بسط السيطرة على الحدود الجنوبية بشكل شبه كامل، مع تصعيد الجبهات العسكرية في ولايات السودان الحدودية مع جنوب السودان، مثل سنار والنيل الأبيض، وتوسيع رقعة النفوذ العسكري مع تأمين خطوط الإمداد عبر جنوب السودان، فضلًا عن الارتباط الحدودي مع إفريقيا الوسطى وكينيا. هذه التحولات تجعل السودان أكثر عرضة لانقسام جديد قد يعيد سيناريو 2011.
تصاعد الانتهاكات وتفاقم الأزمة الإنسانية
وسط هذه التحولات العسكرية والسياسية، يعيش المدنيون في السودان واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، حيث تتزايد انتهاكات حقوق الإنسان بشكل خطير، وسط غياب أي آلية فعالة للمحاسبة. ومع استمرار النزاع، تتفاقم أنماط الانتهاكات، بما في ذلك القتل الجماعي والإعدامات الميدانية والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري، إلى جانب التهجير القسري لمئات الآلاف من السكان.
تشير التقارير، إلى أن أطراف النزاع تستخدم تكتيكات الحرب الشاملة ضد المدنيين، بما في ذلك القصف العشوائي للمناطق السكنية والاستهداف المباشر للبنية التحتية، ما أدى إلى انهيار الخدمات الأساسية. ويواجه السكان أوضاعًا إنسانية قاسية، مع انعدام الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة والخدمات الصحية، بينما تتزايد حالات العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في مناطق النزاع، ما يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني.
فشل المجتمع الدولي حتى الآن في اتخاذ إجراءات رادعة لوقف هذه الانتهاكات، حيث لا تزال القرارات الدبلوماسية مترددة، دون فرض عقوبات جدية أو تفعيل آليات المحاسبة الجنائية الدولية. في ظل هذا الجمود، يستمر الإفلات من العقاب، الأمر الذي يشجع على ارتكاب المزيد من الفظائع بحق المدنيين.
في ظل استمرار الحرب والانتهاكات، يزداد خطر تقسيم السودان إلى كيانات متناحرة، خاصة مع تزعزع الدولة المركزية وتراجع سيادة القانون، وتفكك المؤسسات الحكومية، وتزايد النفوذ الإقليمي، وتحركات الدعم السريع باتجاه إقامة حكومة موازية، جميعها مؤشرات على اقتراب السودان من سيناريو شبيه بانفصال جنوب السودان عام 2011.
إذا استمر هذا المسار دون تدخل حاسم، فإن السودان قد يشهد ولادة حكومتين متنافستين، ما يعني استمرار الصراع المسلح لسنوات طويلة، مع ما يترتب على ذلك من تصاعد الأزمة الإنسانية وتفكك الدولة.