“كن شجاعا وقويا ولا تخف”.

كانت تلك نصيحة للرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” على لسان مسئولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “كايا كالاس”، إثر مشادة البيت الأبيض.

وافقت النصيحة، ما يتمناه الأوروبيون، دون أن يكون بوسعهم أن يسدوا فراغ القوة، الذي يترتب على خروج الولايات المتحدة بكل ثقلها الاستراتيجي والتسليحي والتمويلي من ميادين القتال في أوكرانيا.

إنها حرب أمريكا قبل وبعد أي دولة أوروبية مهما علا ضجيجها.

على مدى ثلاث سنوات كاملة، تمددت الحرب الأوكرانية دون ضوء في نهاية النفق.

حاولت الدعايات الغربية إضفاء صفة البطولة على “زيلينسكي” وشيطنة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في نفس الوقت.

بدا “زيلينسكي” بطلا على نحو ما في مواجهة البيت الأبيض وطرده منه، غير أن موازين القوة فرضت كلمتها بالنهاية بإعلانه أنه مستعد للتفاوض من أجل السلام تحت قيادة “ترامب”، وهو يعلم يقينا، أنه استسلام وفق ما تقتضيه صفقات ومصالح ساكن البيت الأبيض.

الأفدح إعلان استعداده للتوقيع فورا على اتفاق المعادن النادرة، الذي يخول للولايات المتحدة الحصول على جانب كبير من ثروات أوكرانيا بذريعة تسديد تكاليف الحرب، التي حرضت عليها واشنطن!

لمدة ثلاث سنوات تصدر حلف “الناتو” مشاهد الحرب، دون أن ينخرط رسميا في عملياتها.

لم تكن أوكرانيا العنوان الرئيسي للأزمة، التي تعددت وجوهها الأمنية والاستراتيجية، بقدر ما كانت ميدانا لصراعات مفتوحة على مستقبل النظام الدولي ومراكز القوة والنفوذ فيه، حتى بدا البلد نفسه رهينة لإرادات دولية متصادمة على أرضه.

بتبدل مركز القيادة في البيت الأبيض من “جو بايدن” إلى “دونالد ترامب” تغيرت المعادلات كلها، دون أن يكون لباقي الحلفاء أي دور، أو رأي.

هذه حقيقة لا يمكن نفيها في المشادة غير المسبوقة في التاريخ الدبلوماسي الحديث، حتى أن مسئولا روسيا قال حرفيا: “إنه يستغرب أن زيلينسكي لم يضرب في تلك المشادة التاريخية”!

بنظرة أخرى، أمريكية هذه المرة، جرى تشبيه “ترامب” بزعيم المافيا “دون كورليوني” في الشريط السينمائي “الأب الروحي”!

كان مشهد المشادة عرضا صاخبا أمام الكاميرات، شارك فيه رجلان، أحدهما ممثل هزلي سابق، وثانيهما له تجربة عريضة في عروض تلفزيون الواقع.

لم يكن ذلك كله خروجا عن السياق، بقدر ما كان انكشافا كاملا لحقائق القوة بصورة سوقية تعبر عن واقع الحال.

بمجرد الإعلان عن وقف المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا انهار كل اعتبار.

لم يثق الأوكرانيون أنفسهم في قدرة أوروبا على سد الفراغ، ولا الأوروبيون أبدوا استعدادا، يؤخذ على محمل الجدية لملء فراغ الدور الأمريكي.

بتعبير لافت لـ”ترامب” إثر طرد الضيف الأوكراني من البيت الأبيض، فإنه مرحب به عندما يكون جاهزا للسلام، بصياغة أخرى أن يتبع ما يُملى عليه!

إننا أمام تحول استراتيجي تصعد بمقتضاه روسيا إلى لعب أدوار أكبر في المعادلات الدولية بمجموعة من الصفقات مع “ترامب”، وربما التنازلات المقابلة في أزمات عديدة بينها طبيعة العلاقة بين بكين وموسكو، والأزمة الإيرانية بكل تعقيداتها وتداخلاتها في الصراع العربي الإسرائيلي.

لا شيء مجانيا في عرف “ترامب” رجل الصفقات.

سؤاله الرئيسي: ما الثمن؟

السؤال الأخطر: ما مصير حلف “الناتو”؟.. أنه الركيزة العسكرية للتحالف الغربي.

إذا ما تفكك تتغير طبيعة حسابات القوى، ويرحل النظام الدولي الذي طال احتضاره.

إثر سقوط جدار برلين (1989) تفكك الاتحاد السوفيتي السابق القطب الثاني، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتقوض حلف “وارسو”- الذي كان يقابل حلف “الناتو” على الجانب الآخر.

في إشارات لافتة ومتكررة، قال الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” أثناء الجائحة: “إن الناتو في حالة موت سريري”، داعيا إلى منظومة أمنية وعسكرية أوروبية بعيدا عن هيمنة الولايات المتحدة.

بعد خمس سنوات الطرح نفسه يتكرر الآن بنفس المعاني والألفاظ.

كان عام (2020) ثقيلا بوطأة الجائحة على كل ما يتحرك في العالم.

شُلت الحياة تقريبا في أنحاء العالم، انهارت نظم صحية، أو كادت، جرت أحوال انكشاف لموازين قوى وحسابات سياسة، ولاحت بوادر ولادة نظام دولي جديد من تحت أنقاض الجائحة، لكنه راوح نفس المكان، حتى داهمته الحرب على غزة، قبل أن نصل إلى مشادة البيت الأبيض بكل رسائلها للمستقبل المنظور.

في ذلك العام، لم يكن ممكنا لأحد أن يتوقع خسارة “ترامب” فرصه في تجديد ولايته لدورة ثانية أمام المرشح الديمقراطي “جو بايدن”، الذي تعوزه الكاريزما، ولم يكن يتمتع بفرص انتخابية حقيقية لحصد المنصب الأرفع في النظام السياسي الأمريكي.

كانت إدارة “ترامب” لأزمة الجائحة كارثية تماما، حتى وصلت معدلات الوفيات: “مواطن أمريكي كل ثلاثة وثلاثين ثانية”.

حُملت إدارة “ترامب” مسئولية المأساة بقدر ما أبدته من استخفاف بحياة مواطنيها.

لم تمد الولايات المتحدة يد العون إلى حلفائها الغربيين، الذين دوت صرخاتهم في فضاء الجائحة المميتة.

كانت الترجمة السياسية لشعار “أمريكا أولا”، الذي اتبعه “ترامب” في ولايته الأولى، أن تبحث كل دولة، على ما يحفظ أمنها بعيدا عن الولايات المتحدة وحلف “الناتو”.

بدت الأزمة متماثلة على ضفتي الأطلسي، الأمريكيون والأوروبيون على قدم المساواة.

ضربت الجائحة فلسفة الاتحاد الأوروبي، وتبدت شقوق وشكوك في مسوغ وجود مؤسساته، التي توصف عادة بـ”بيروقراطية بروكسل”.

لم يكن هناك وقت الجائحة أي حد أدنى من العمل المشترك.

أغلقت كل دولة أوروبية حدودها؛ خشية أن يمتد الوباء إليها بموجات إضافية.

تصرفت على نحو منفرد، كأن الاتحاد الأوروبي فكرة افتراضية، لا حقيقة يُرتكن إليها.

بدأت الدول الأكثر تضررا وانكشافا أمام الجائحة في الصراخ بالتساؤل: لماذا نحن هنا؟

كانت إيطاليا وإسبانيا، بثقليهما الحضاري التاريخي، الأكثر تألما وضجرا من كل ما هو منسوب للاتحاد الأوروبي.

كان ذلك داعيا للتساؤل عن احتمالات، تفشي الشعبوية ووصول أحزابها اليمينية المتطرفة إلى قصور الحكم، بما يعنى حكما بالإعدام السياسي على فكرة الاتحاد الأوروبي وأية رهانات شعبية عليها، غير أن فرص الشعبوية لم تصل بعد إلى آخر المطاف.

جرت محاولات حثيثة؛ لتدارك الأخطاء والخطايا التي ارتكبت أثناء الجائحة.

كان “ترامب” بتصرفاته المتفلتة، وسوء إدارته للجائحة أمثولة، لما يمكن أن تصنعه الشعبوية من مأسٍ أفظع في بنية المجتمعات الغربية.

كانت تلك حالة سيولة في نظام دولي يتشكل تحت ضربات الوباء المستشري، لكنه استعصى على الميلاد حتى الآن.

وصلت أزمة النظام الدولي المتهالك ذروتها في اختبار غزة.

تحللت مؤسساته وقيمه وتقوضت صلاحيته وقدرته على البقاء.

كان العجز شبه مطلق أمام أبشع الجرائم ضد الإنسانية في العصور الحديثة.

توالت الاختبارات الكاشفة لمدى تدهوره وعجزه عن الوفاء بمتطلباته، حتى وصلنا إلى دبلوماسية تقريع الحلفاء من ملوك ورؤساء أمام الكاميرات في البيت الأبيض.