جددت زيارة وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي لإريتريا (1 مارس)، والتي جاءت بعد نحو 24 ساعة فقط من زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للصومال (27 فبراير)، التساؤلات المعنية بأمن البحر الأحمر وموقف القاهرة إزائها، وما يرافقها من تحديات ماثلة. وتأكد هذا التوجه، الذي بات ملموسًا بخطوات واسعة على الأرض في واقع الأمر، بلقاء عبد العاطي بنظيره اليمني شايع الزنداني (القاهرة 2-3 مارس) بتأكيد القاهرة، التي فقدت عائدات بقيمة 7 بلايين دولار في العام الماضي 2024، من إجمالي عائدات قناة السويس، على أن استقرار اليمن مهم لمجمل الأمن في الإقليم والبحر الأحمر. وهكذا فإن التحول الأهم في ترتيبات الأمن في البحر الأحمر، من زاوية الرؤية المصرية، يتمثل في انتهاج القاهرة سياسات، تقوم على المبادرة بطرح حلول ووساطات عملية لتفكيك الأزمات الخطيرة في الإقليم، إضافة إلى تمتين العلاقات مع دول حوض البحر الأحمر (الإفريقية تحديدًا في المقام الحالي)، والحرص على كسبها سمة السلاسة، وتحقيق مستويات أولية ومقبولة من “التكامل الإقليمي”.
القاهرة وأسمرا: تعميق التحالف في البحر الأحمر
غطت أجندة عبد العاطي في القمة التي عقدها مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي عددًا من القضايا الإقليمية الرئيسة إلى جانب الأمن في البحر الأحمر؛ مثل الصراع في السودان، وجهود بناء الدولة في الصومال، وتحديات السلم والأمن في إقليم القرن الإفريقي. وبات ملفتًا في مستوى التنسيق الدبلوماسي بين مصر وإريتريا والمواقف المتخذة على الأرض وجود تقارب كبير، هو الأبرز منذ سنوات في علاقات البلدين. وتم التأكيد خلال القمة على معارضتهما لحصول إثيوبيا على منفذ بحري على ساحل البحر الأحمر على نحو ينتهك سيادة أيٍ من دوله (الصومال في الحالة الراهنة). ورغم تأكيد تقارير إثيوبية، على أن الدبلوماسية المصرية تستهدف بالأساس عزلة إثيوبيا والحيلولة دون وصولها للبحر الأحمر، فإنه ثمة إشارات إلى حصول إثيوبيا على الضوء الأخضر لنشر قواتها في أقاليم، مثل جيدو وهيران وباي وباكول في الصومال؛ ما يعني نجاح إثيوبيا في تجاوز واحدة من أهم الأزمات في علاقاتها مع الصومال، إضافة إلى اختراق أولي في ملف منح الصومال لإثيوبيا وصولًا للبحر الأحمر/ المحيط الهندي.
وبغض النظر عن ضرورة وضع هذا التطور في سياقات العلاقات الثنائية بين دولتين إفريقيتين، يربط بينهما اهتمامات مباشرة بالسودان والبحر الأحمر والقرن الإفريقي، فإن الاستجابة الإثيوبية إزاء هذا “التحالف” تعظم من احتمالات تحول التوتر الإثيوبي- الإريتري المتصاعد في الشهور الأخيرة إلى مواجهات مفتوحة، مع توقع خبراء إثيوبيين (أديس ستاندارد- 28 فبراير 2025)، أن يكون خلاف مصر مع إثيوبيا في ملف سد النهضة دافعًا للأولى “لأن تلقي بثقلها وراء الموقف الإريتري من أجل احتواء سعي إثيوبيا للوصول لميناء في الإقليم، مما يمكن أن يدفع التوتر إلى مستوى جديد؛ بسبب دخول سد النهضة في المعضلة”.
بالنظر إلى استدامة التنسيق المصري الإريتري وإلحاقه بخطوات على الأرض (من قبيل تفعيل مذكرات تفاهم للتعاون الاقتصادي والأمني والعسكري بين البلدين)، فإن “التحالف” يكتسب مصداقية حقيقية بمرور الوقت، ويبدو أنه غير مرهون بمسألة الموقف من إثيوبيا فحسب، بل إنه يشمل بشكل جاد الترتيبات الأمنية في البحر الأحمر، لا سيما عند الوضع في الحسبان التقارب الإريتري السوداني، وما يعنيه ذلك من سلاسة العلاقات بين الدول الإفريقية المطلة على البحر الأحمر دون اختراقات تذكر، يمكنها أن تعكر هذا الوضع.
لكن هذا التحالف (المصري- الإريتري، والصومالي، رغم أن مقديشو تملك حسابات معقدة للغاية في واقع الأمر، مثل صعوبة الاستمرار في عداء مفتوح مع الجارة الكبيرة إثيوبيا) يثير في الوقت الحالي قلق أطراف إقليمية مهمة في الإقليم وفي مقدمتها الإمارات وتركيا. وفيما يظل موقف الإمارات محكوم إلى حد كبير بمخاوف السعودية ومصر (في البحر الأحمر) واحتمالات تبديل القاهرة أولوياتها والمبادرة بخطوات استباقية، كما حدث مؤخرًا في ملف الأزمة السودانية، فإن الموقف التركي، يظل متماسكًا إلى حد كبير ومستهدفًا، ربما مقاربة تركية أكثر جرأة لاحتواء التوتر الإريتري الإثيوبي قبل تحول لحرب كاملة بين البلدين.
الحل على الطريقة التركية: ميناء هوبيو
لفتت تصريحات لوزير الدولة للشؤون الخارجية الصومالي علي محمد عمر (28 فبراير) بأنه ثمة إطار “سيحدد أي نوع من المواني سيتم تقديمه لإثيوبيا، والمنطقة المحددة في (ساحل) المحيط الهندي وإجمالي التكلفة”، لفتت إلى احتمال لجوء البلدين إلى خيار “جديد” يقضي بتفاهم حول وصول إثيوبيا لمنفذ بحري على المحيط الهندي (وسط الصومال وجنوبه)، وتفادي التحفظات المصرية والإريترية بشكل عملي، إضافة إلى تلبية إثيوبيا لمطالب حكومة الصومال الفيدرالية بعدم المضي قدمًا في تنفيذ مذكرة التفاهم مع إقليم “جمهورية أرض الصومال” (يناير 2024) التي تمنح الأخيرة بمقتضاها لإثيوبيا استئجار شريط ساحلي بالإقليم.
وتؤكد هذه التصريحات احتمالات نجاح تركيا في إبرام صفقة مشتركة مع الصومال وإثيوبيا تقوم الأولى بمقتضاها، عبر شركة ميتاج هولدنج Metag Holding التركية، بتشييد ميناء حديث في هوبيو بولاية غلمدوج (في وسط الصومال)، تنفيذًا لاتفاق بين ميتاج هولدنج وشركة استثمار هوبيو Hobyo Investment Co، الموقع في أكتوبر 2024 تقوم بمقتضاه الشركة التركية بتشييد الميناء بتكلفة 70 مليون دولار في غضون ثلاثة أعوام (بحلول نهاية العام 2027 حسب تقديرات لبلومبرج)، وأن تكون لها حقوق إدارته لمدة 80 عامًا. ويمثل الاتفاق حال تطبيقه منصة مثالية لاستيعاب التطلعات الإثيوبية- مرحليًا على الأقل- في الوصول لمنفذ بحري، دون أن يعني ذلك تخلي أديس أبابا عن مشروع مذكرة التفاهم مع “أرض الصومال”، وتوقع استمراره.
ولا تتوفر- حتى اللحظة- مؤشرات على موقف مصر وإريتريا من هذا المسار، أو تأثيره على مصالحهما في البحر الأحمر. لكن يلاحظ أن الشركة التركية (التي تؤكد على موقعها حلولها في المرتبة 144 عالميًا في قائمة أكبر شركات المقاولات في العام 2024، حسب منصة Engineering News-Record ENR) تجمع في أنشطتها، والتي تنتشر في دول إفريقيا، مثل إثيوبيا والسودان وجنوب السودان وجيبوتي وكينيا، تشييد المطارات والمواني والقواعد والمعسكرات العسكرية والسدود ومصانع الطاقة، وهي قطاعات تتقاطع بشكل واضح مع أفكار التكامل الإقليمي في القرن الإفريقي الكبير. وتؤشر هذه الملاحظة إلى حشد تركيا استثمارات كبيرة ومنسقة لدعم سياساتها في الإقليم، مما يؤشر بدوره إلى طبيعة الاستراتيجية التركية الراهنة وقدراتها على مقاصة أزماته.
مصر والصومال: خطوة للخلف؟
كشف لقاء الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد نهاية فبراير الفائت عن خطوات مزيدة لإنهاء التوتر الإثيوبي- الصومالي، أو بمعنى أدق تبريده، وإفساح الطريق أمام حلول دبلوماسية ومقبولة من الجانبين (لا سيما أن إثيوبيا ليس لديها ما تخسره في جميع الأحوال في مسار تفاوضها مع مقديشو على الحصول على منفذ بحري)، وهو تقارب يبدو مدعومًا من تركيا التي أجلت جولة رئيسها رجب طيب أردوغان للإقليم (كانت مقررة في فبراير 2025)، ربما ترقبًا لحدوث مزيد من التفاهم بين مقديشو وأديس أبابا؛ بحيث تكون الزيارة تتويجًا لجهود وساطة أنقرة التي تحقق نجاحًا بطيئًا حتى الآن.
في المقابل، غاب شيخ محمود عن حضور القمة العربية الطارئة التي استضافتها القاهرة (4 مارس)، ليكون من أبرز الرؤساء والقادة الذين فوتوا حضور القمة. ولم تتضح بعد ملابسات هذا الغياب، لذا فإنه من المبكر تقدير أنه يعود إلى تراجع ما في العلاقات الوثيقة بين مصر والصومال، والتي شهدت دفعة قوية منذ مطلع العام الماضي بتضامن مصر مع الصومال ضد الأطماع الإثيوبية في أرض الصومال، وصولًا إلى مساهمة مصر بقوات كبيرة في حفظ السلم، وبناء قدرات الجيش والشرطة في الصومال، ثم رفع العلاقات الثنائية بينهما لمستوى “الشراكة الاستراتيجية” في نهاية يناير 2025.
لكن يمكن النظر لغياب شيخ محمود، على أنه رسالة تهدئة قبيل انطلاق المحادثات الفنية بين إثيوبيا والصومال في أنقرة المقررة قبيل منتصف مارس الجاري. وتظل هذه الفرضية قائمة حتى انعقاد هذه المحادثات، وما سيخرج عنها من نتائج، وصلتها بالرؤية المصرية لأمن البحر الأحمر ودعم الصومال.
ختامًا، يجب أن تقوم الرؤية المصرية لأمن البحر الأحمر (في جانبه الإفريقي هنا)، على إدراك أن مساعي أديس أبابا لن تتوقف عند حدود “كسب” منفذ على البحر الأحمر في أرض الصومال أو في ميناء هوبيو في وسط الصومال بولاية غلمدوج، وذلك في ضوء تفسير سلوك التوسع الإقليمي الإثيوبي الذي يمكن وصفه، بأنه في حالة “استدامة عضوية”. ولعل تصريحات الفيلدمارشال بيرهانو جولا رئيس قوات الدفاع الوطني الإثيوبية ENDF (4 مارس) حول هذا السعي كاشفة تمامًا للفرضية المذكورة؛ فقد أكد أن عدم امتلاك بلاده منفذًا بحريًا، يعد “ظلمًا” وأن سعي أديس أبابا بات الآن “معترفًا به كقضية عادلة في المجتمع الدولي”، قبل أن يلفت إلى أن الأمر مسألة وقت فقط، قبل أن تصبح إثيوبيا عضوًا في جماعة البحر الأحمر.
كما أن الحفاظ على المكاسب المصرية التي تحققت في الشهور الأخيرة، بفضل سياسة المبادرة بالفعل واتخاذ المواقف، يستلزم الدفع بقوة في نفس المسار، وربما اتخاذ خطوات أكثر جرأة في دعم “التحالف” مع دول الإقليم التي تتبنى نفس الرؤى المصرية لأمن البحر الأحمر واحترام سيادة الدول المطلة عليه، وبدء مشروعات تعاون إقليمي متعددة الأوجه، ومتبادلة المنافع، بين دول الحوض بشكل مستدام وفعال.