منذ أسبوع مضى، أقر مجلس النواب المصري كعادته النص المتعلق بالحبس الاحتياطي، وهو نص المادة 523 من قانون الإجراءات الجنائية الجديد، ولكن جاء ذلك النص بعيداً كل البعد، عما كان يتوقعه أكثرنا تشاؤماً، فلست أدري هل تمت صياغة هذا النص على النحو الذي تم إقراره به لمصادرة ما جاء بنص المادة 54 من الدستور المصري، من أن القانون ينظم أحوال التعويض عن الحبس الاحتياطي، وحالات استحقاقه، أم أن الشارع الدستوري نفسه بصياغته لنص هذه المادة قد ترك الباب مفتوحاً أمام السلطة التشريعية، حتى تفرغ ذلك الحق من مضمونه، بأن يصير مجرد إقرار شكلي يستحيل معه حالات التنفيذ الموضوعي عنه.
وتنص المادة 523 من المشروع على أن: “يستحق كل من حُبس احتياطيًا تعويضًا في الحالات الآتية:
1 – إذا كانت الواقعة محل الاتهام معاقبًا عليها بالغرامة، أو جنحة معاقبًا عليها بالحبس مدة تقل عن سنة، وكان للمتهم محل إقامة ثابت ومعلوم في جمهورية مصر العربية.
2 – إذا صدر أمر نهائي، بأنه لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم صحة الواقعة.
3 – إذا صدر حكم بات ببراءته من جميع الاتهامات المنسوبة إليه، مبنيًا على أن الواقعة غير معاقب عليها، أو غير صحيحة، أو لأي أسباب أخرى، بخلاف حالات البطلان أو التشكك في صحة الاتهام أو أسباب الإباحة أو الإعفاء من العقاب، أو العفو، أو امتناع المسئولية.
ويسري حكم البند (3) من الفقرة الأولى من هذه المادة على استحقاق تعويض لمن نفذ عقوبة سالبة للحرية، وصدر حكم بات بإلغاء الحكم المنفذ بموجبه.
وفي جميع الأحوال، تتحمل الخزانة العامة للدولة التعويضات المشار إليها في هذه المادة، بشرط ألا يكون طالب التعويض قد تم حبسه احتياطيًا، أو نفذ عقوبة مقيدة للحرية على ذمة قضية أو قضايا أخرى عن فترة مماثلة أو تزيد على مدة الحبس الاحتياطي أو تنفيذ العقوبة محل طلب التعويض”.
وإذا كان الحبس الاحتياطي في حد ذاته أمراً باتا ممقوتاً من معظم النظم الجنائية العالمية، كما أن الإسراف فيه يخالف الاتفاقيات الدولية الحقوقية، التي باتت جزءًا من النظام القانوني المصري، وإذا كانت تشريعات الإجراءات الجنائية تسعى في مقامها الأساسي، بما تتضمنه من قواعد تنظم أمور الحبس الاحتياطي، أن تحافظ على المشروعية وحماية حقوق المواطنين حال توجيه اتهامات جنائية لهم، فإنها من باب أولى ورئيسي، يجب أن تتوجه للحفاظ على حقوقهم وحرياتهم خلال مراحل تداول الدعوى الجنائية بداية من لحظة الاتهام حتى نهاية القضية، ومن باب رئيس فإن كل مراحل الدعاوى الجنائية يجب أن تدار من خلال احترام مبدأ أن الأصل في الإنسان البراءة، وبالتالي فإنه لا يجب أن تطغى إجراءات المحاكمة على تلك القاعدة ولا أن تتجاوزها، وهو الأمر الذي له علاقة وطيدة بموضوع الحبس الاحتياطي، وكيفية تنظيمه في التشريع المصري، بما يسمح بتقرير الحبس لمدد طويلة.
كما أن الحبس الاحتياطي يعد من أهم مظاهر المساس بالحرية الشخصية للمواطنين؛ كونه سلب لحرية الشخص المتهم خلال مراحل التحقيق في الدعوى الجنائية، ولما يترتب عليه من مساس مباشر بحق الإنسان في التنقل الذي كفله الدستور، وذلك خلال مرحلتين من مراحل الدعوى الجنائية التي تلازمه فيه قرينة البراءة، وإذا كان المساس بالحرية يجد سنده في ضرورة وحتمية كشف الحقيقة ومعرفة المجرم، فإن هذا المساس يجب أن يكون في أضيق النطق، كما يجب أن يكون مقتصراً على القدر الضروري اللازم للكشف عن هذه الحقيقة، حيث أن التوازن بين السلطة والحرية يقتضي أن يكون المساس بالحرية في أضيق الحدود، وبقدر ما يحقق الغرض من المساس بها، إذ أن ترجيح كفة السلطة على حساب الحرية يؤدي إلى فقد وظيفة الردع العام المتطلب في العقوبة، لكون الجور على حريات الأفراد مؤداه شيوع الإحساس بالظلم، كما يؤدي الإخلال بالتوازن إلى النيل من وظيفة وهيبة القضاء الجنائي الذي يجب إلا يسعى سوى للوصول إلى الحقيقة من خلال إجراءات المحاكمة، ولن يتحقق ذلك إلا بالمحافظة على الحرية وكفالة حقوق المواطنين.
إذن، فإن إقرار التعويض عنه يجب أن يكون متناسباً مع قيمة الأضرار التي أصابت المتهمين من وراء حبسهم، ولا بد أن يكون ذلك الإقرار بصيغة قانونية أكثر تفاعلاً مع حرية الأفراد، وأكثر كبحا للسلطة حال اتخاذها لقرارات الحبس الاحتياطي، الأمر الذي يعود على المواطنين بالنفع المتمثل في عدم اتخاذ قرارات الحبس الاحتياطي إلا في أضيق الحدود، وفي الحالات التي تتأكد فيها السلطة متخذة قرار الحبس بأن هناك جريمة حقيقية، وأنها تنسب للمتهم المحبوس احتياطياً بالفعل. لكن للأسف عكس ذلك تماماً، هو ما تم إقراره في القانون الجديد، إذ أن المشرع قد أحاط التعويض عن حالات الحبس الاحتياطي باشتراطات، تكاد تكون تعجيزية، حتى في حالات الحكم ببراءة المتهم، حيث اشترط المشروع الجديد، أن يكون حكم البراءة مبنيا على أن الواقعة غير معاقب عليها، أو غير صحيحة، أو أي أسباب أخرى بخلاف البطلان أو التشكك في صحة الاتهام أو أسباب الإباحة أو الإعفاء من العقاب أو العفو أو امتناع المسئولية، وهو ما يعد نوعا من التضييق في شروط الحصول على تعويض عن الحبس الاحتياطي، حيث كان الأجدر أن يستحق التعويض عن الحبس في كافة أحكام البراءة.
لست أدري سبباً، يجعل مجلس النواب على الرغم من وجود عدد من القانونيين ضمن نوابه، كما أن رئيسه ينتمي إلى السلطة القضائية، أن يصل الحال بنا إلى هذا المستوى من التشريعات، وبشكل أخص فيما هو متعلق بحقوق المواطنين تجاه السلطة، وهو ما نلحظه حال مقارنتنا لهذا النص مع النص الوارد بذات القانون الجديد، والمتعلق بمنع المواطنين من التصرف في أموالهم إلى صدور أحكام غيابية ضدهم.
فهل كان المقصود من استصدار قانون جديد للإجراءات الجنائية، هو التضييق على حقوق المواطنين الإجرائية، وزيادة المساحة الممنوحة للسلطة في مواجهة الأفراد أم عكس ذلك؟
أظن أن أمر صدور هذا التشريع على هذه الشاكلة ليس بسيطاً وهيناً، حتى يتم إخراج مثل هذا التشريع بهذه الصورة المهترئة، والتي لا تضر بأحوال المحامين فقط، ولا أحوال المتهمين وحدهم، بل إنها تضر بحال العدالة المصرية بشكل كامل، وتضع امر مشروعية المحاكمات في مهب الريح، كما أنها تضع وضع المحاكمات المصرية والعدالة الجنائية في حالة من التناقض التام مع باب الحقوق والحريات في الدستور المصري لسنة 2014 ، بخلاف تعارضها مع الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
وبعد أن انتهى مجلس النواب من مهمته الموكلة إليه، فإنه ليس أمامنا خيار سوى مطالبة رئيس الجمهورية باستخدام صلاحيته الدستورية بعدم الموافقة على ذلك القانون برمته، وتأجيل إصداره لحين اجتماع مجلس النواب في صورته الجديدة، فيما بعد الانتخابات التشريعية.