آلاف خلف السجون، بعضهم محبوس احتياطيا، والبعض الآخر مسجون في قضايا سياسية وقضايا رأي. لا أحد يعرف عدد هؤلاء، بحت الأصوات لمعرفة كم عددهم دون جدوى. الكثيرون من المحبوسين احتياطيا، مر على حبسهم المدد الدستورية والقانونية دون أن يفرج عنهم، حتى أصبح السجن كما لو كان وطنا بديلا لهؤلاء مع طول مدة الحبس، وكذلك النسيان والملل من طول الانتظار والآمال المهلكة.  

محكمة الآخرة تفصل بين السجان والمسجون

انتظر أهالي المحبوسين ذويهم في مناسبات عديدة، عسى أن تطالهم يد الرحمة دون جدوى الانتظار. هنا يصبح السؤال: من يستطيع أن يقف أمام المولى عز وجل، ويتحمل وزر حبس هؤلاء ووزر عذاب ذويهم!! من يستطيع أن يحمل هذا العبء الثقيل الذي تنوء الجبال بحمله يوم الدين!! وماذا يقول السجان للمولى، وقد فصل الأخير عز وجل في أمر الأول، قبل أن ينطق ببنت شفاه يدافع عن فعلته!!. ألا يعلم السجان، أنه يومئذ لن يُقبل منه أي عدل، ولن تُقبل منه أية شفاعة. فقد أضاع الحقوق، وعذب بفعلته وشرد وأمرض وأعيا من هم داخل السجن وخارجه من ذوي هؤلاء: –

– فكم من أسرة فقدت عائلها دون أن يموت.

– وكم من صحيح أصبح عليلا وعاجزا؛ بسبب الإهمال الصحي داخل المحبس.

– وكم من سويٍ أصبح مشردا وتائها.

– وكم من مكلوم على ولده، بعد أن فقده في غيابات الحبس الاحتياطي الطويل.

– وكم من طفل أصبح يتيما ووالده على قيد الحياة.

– وكم من سيدة انفصلت عن زوجها دون أن يطلقها.

– وكم من شاب فقد قوته وريعان شبابه بسبب المحبس.

– وكم من فتاة لم تنل حظها من الزواج؛ بسبب تشويه صوره العائل ظلما وعدوانا.

– وكم من شخص حكم عليه السجان بكونه عاطلا عن العمل، لمجرد أن صاحب العمل خبُر أن له مسجونا.

– وكم من ثكلى على ولدها رغم أنه لم يمت.

– وكم من قلوب انفطرت ونزفت حزنا وقهرا.

– وكم من عيون أعياها السهر، وزرفت الدموع على الأعزاء والأحبة في الحبس الاحتياطي.

عندما يتحاج الخصمان يوم المشهد العظيم، لن ينفع السجان أية حجة أو ذريعة تتعلق بـ “تعليمات كبرائنا”؛ لأنهم سينطبق عليهم قول المولي “وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ” ويرد المولى “لكُل ضِعف ولكن لا تعلموُن”.

إفراجات لا تسمن ولا تغني

ولعل من غرابة المشهد، أن الكثيرين ممن تم إنصافهم بسبب قرارات رئاسية أو من النيابة العامة، كانوا ممن يتصفون بصفات محددة، ما جعل من عملية الإفراج مع كل التقدير لها دون أية جدوى، لأن: –

– كم الإفراجات التي شهدتها الساحة المصرية منذ أحداث 30 يونيو 2013، والناتجة عن العفو الرئاسي عن المسجونين في قضايا الرأي، كان مقابلها القبض على الكثيرين، حتى أصبحنا أمام “قسمة ضيزى”، أو على أقل تقدير متعادلة، وكأن العفو لم يأت بفائدة تذكر، بسبب العديد من التوقيفات التي لا زالت سارية.

– كم المفرج عنهم من المجرمين المتهمين بالقضايا غير السياسية والقضايا المخلة بالشرف والأمانة، كانت أكبر من المفرج عنهم المتهمين بقضايا رأي، ومن هم أصحاب فكر من المثقفين ورواد الكلمة، وهؤلاء لا علاقة لهم بممارسة عنف أو الدعوة لفتنة طائفية أو خلافة. 

– كم من الخارجين بقرارات من النيابة العامة من قوائم الإرهاب والكيانات الإرهابية، وهي قوائم إدارية تتضمن في معظمها أناس، لم تصدر بحقهم أحكام قضائية، قد عادوا مرة أخرى إلى تلك القوائم!!

– كم مهم من المفرج عنهم بالعفو الرئاسي أو بالخروج من القوائم والكيانات الإرهابية، قد مضت أغلب مدد عقوبتهم، ما جعل فرحة هؤلاء وذويهم بالخروج محدودة، مقارنة بما لو كانت قرارات العفو قد صدرت عقب صدور الأحكام.

النسيان أو التدوير بتهم مكررة

مئات المحبوسين احتياطيا أصبحوا في عداد المنسيين في محابسهم، والتجديد لهؤلاء مستمر ويتم بشكل آلي، ومن يتم التذكير بحالته، ويلفت الإعلام النظر له بأنه قد استنفد مدة حبسه مرات عديدة، يصدُر بشأنه قرار بتدويره في قضايا أخرى.

التدوير في قضايا أخرى، يتم بغرض بقاء المحبوس احتياطيا في محبسه، وهذا الأمر يعبر عن سياسة الفشل الذريع من وجود أدلة حقيقية لدى المحققين، لأنه لو كان النجاح حليفهم لقاموا بتجميع تلك الأدلة، والدفع بهؤلاء المحبوسين احتياطيا للمحاكمة العادلة.

أما التهم الرسمية التي توجه إلى معظم المتهمين في محبسهم الاحتياطي، فهي كطابع البوسطة، وهي الانتماء لجماعة إرهابية دينية (يقصد الإخوان المسلمين غالبا)، غرضها قلب نظام الحكم. ولعل من المضحك المبكي أن تلك التهم كما توجه إلى الإسلاميين، فهي توجه أيضا إلى مسيحيين وإلى علمانيين، وربما ماركسيين لا يعرفون قراءة فاتحة كتاب الله أصلا، ناهيك عن أنها تهم توجه لعشرات المثقفين وقادة الرأي المتفاعلين في تطبيقات التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وخلافه.

جدير بالذكر- ولعل من غرابة المشهد- أن ذات التهمة السابقة قد وجهت، قبل أن يهل شهر رمضان بأيام قليلة إلى 199 شخصا بينهم 30 امرأة؛ بسبب تقديم شنط رمضان لأسر المحبوسين والمسجونين السياسيين، وكأن هؤلاء المتلقين للدعم قد كتب عليهم الفاقة والعوز الدائم، وكأن القائم بالاتهام لم ير الشنط المشابهة، وهي توزع إبان الانتخابات لدفع الناس دفعا لصناديق الانتخابات، وتوجيه تصويتهم بالرشى الانتخابية المعيبة.

هل يوم الفطر بارقة الأمل؟

وإذا كان مطلع رمضان لم يمنح سجناء الرأي الرحمة، فعسى أن يكون عيد الفطر مناسبة للرحمة والتواد، ومد يد العون، للإفراج عن المحبوسين والمسجونين السياسيين.

هناك بالتأكيد المئات والمئات ممن هم في أمس الحاجة للإفراج في تلك المناسبة، ما يجعلنا في أمس الحاجة لعودة لجنة العفو وكذلك مخاطبة النيابة مرات ومرات للنظر بحق المحبوسين احتياطيا. فالمتظاهرون من أجل فلسطين، المنسيون منذ عدة أشهر، ألا يكون وقت العيد مناسبة طيبة للإفراج عنهم، لا سيما ونحن نشاهد الغطرسة الأمريكية والصهيونية على أشدها، ما يجعل بقاء حبسهم أمرا مضحكا وهزليا.

كبار السن من المحبوسين احتياطيا والمسجونين، ممن لم تلوث أيديهم بعنف، والذين لا يتوقع منهم إلا الخروج على المستشفيات. هؤلاء ممن انحنت ظهورهم، وأعياهم المرض في السجن، وبعض هؤلاء من الإسلاميين، ألا يستحق هؤلاء الخروج والعفو، ألا يستحق هؤلاء، أن ننبذ بخروجهم دعاوى التنكيل والانتقام ونتسامح قليلا، أم نبقى نستمع للإعلام الذي يفضل بعض مقدميه -بل من مصلحتهم ليبقوا في مواقعهم- أن تجلس تلك البلد دوما على برميل من البارود يتقد لينشر الكراهية بين أبناء المجتمع.

الشباب ممن هم يتدورون في القضايا، ولم يعودوا يقووا على عد الأيام التي قضوها في الحبس الاحتياطي، لتجاوزها المدد الدستورية، ألا يستحق هؤلاء النظر بعين الرحمة والعطف- فوق إنصاف الدستور والقانون لهم- حتى يخرج هؤلاء إلى النور.

الموضوع برمته لا يتعلق بدستور وقانون إجراءات جنائية، فهما مهما بلغا من رحمة بالناس، سينجحان فقط لو سلمت النوايا. النوايا وحدها هي الفيصل. نوايا الإصلاح السياسي إلى جانب إدراك الشراكة في الإنسانية.