كتبت – إيمان رشدي
“يتعمد صاحب العمل أن يؤخرني لما بعد انصراف كافة الموظفين بالشركة، ويقوم بتعطيل كاميرات المراقبة في المكتب، ثم يبدأ في التحرش اللفظي بها، طالبا إقامة علاقة جنسية معها، وإلا سيطردها من عملها”.
كانت هذه فحوى شكوى تقدمت بها سيدة عاملة لإحدى المنظمات القانونية العاملة في مجال الدفاع عن المرأة، ورغم تكرار سلوك صاحب العمل نفسه مع عدد من زميلاتها، إلا أنهن رفضن الشهادة؛ خوفاً على وظائفهن.
ويعد التحرش أحد أبرز أشكال العنف ضد المرأة، وجزءا ليس بالقليل منه يمارس في أماكن العمل المختلفة.
ومنذ أن اجتاحت حركة “أنا أيضاً”، عام 2017، امريكا ارتفع صوت النساء، ليس في الولايات المتحدة وحدها ولكن في بلدان العالم المختلفة ومن بينها الدول العربية أيضاً ليكشف جانبا مروعا مما
الحركة “me to” وغيرها، جذبت الاهتمام لقضية التحرش في أماكن العمل، وهي قضية شديدة الحساسية، لأنها تتضمن مساحة سلطة، قد تزيد من فرص التحرش وتعيق تقديم شكاوى ضد الجريمة.
بسبب الخوف من التعرض للوصم والاتهام، وغياب آليات الحماية ثانيا، تتراجع العديد من الضحايا عن الإفصاح عند تعرضهن للتحرش، حيثأاشارت معدلات الإبلاغ في المنطقة العربية أنها الأدنى 15%.
وعند سؤال الضحايا عن السبب وراء عدم الإبلاغ عن التعرض للتحرش الجنسي، تجيب الأغلبية من الإجابات إلى الخوف من الآثار السلبية في حالة الإبلاغ.
تقول إحداهن “بمجرد الاعتراض أو حتى الشكوى من الممكن، أن أفقد الوظيفة أو أتعرض لأشكال متعددة من العنف، خاصة في حالة أن مرتكب العنف نفسه هو صاحب سلطة توقيع العقاب، كذا قد تجد الضحية نفسها ملتزمة الصمت، حتى لا تتحول إلى قصة، تتداول على ألسنة الزملاء والزميلات، فمنهم من يوجه لها اللوم ويحملها المسئولية، والبعض يجعلها مادة للسخرية، فتضطر أن تدافع عن نفسها في صمت، وهي تتحمل آلام وضغط نفسي، أو تقرر ترك العمل.
التحرش… نسب مرعبة
وفقًا لاتفاقية منظمة العمل رقم 190 بشأن العنف والتحرش في العمل، والتي لم توقع عليها مصر حتى الآن، يشير مصطلح العنف والتحرش إلى “مجموعة من السلوكيات والممارسات غير المقبولة أو التهديدات المرتبطة بها، سواء حدثت مرة واحدة أو تكررت، تؤدي أو يحتمل أن تؤدي إلى إلحاق ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي”.
يأتي من بين تلك السلوكيات الإهانة اللفظية، وإساءة المعاملة، والتحرش والاستغلال والابتزاز الجنسي.
وفقا للاتفاقية، تتعرض واحدة من كل ثلاث نساء أو فتيات، بغض النظر عن وضعهن الاقتصادي للعنف.
يلاحقها أكثر من واحد من كل خمسة موظفين عالميًّا، وهي نسبة تقترب من 23% جميعهم يتعرضون للعنف والتحرش في مكان العمل، سواء كان جسديًّا أو نفسيًّا أو جنسيًّا.
كما صرح 17.9% من الرجال والنساء العاملين بتعرضهم لعنف وتحرش نفسي في مرحلة ما من حياتهم المهنية، و8.5% تعرضوا لعنف وتحرش جسدي.
وأفادت دراسة أجراها اتحاد نقابات العمال في بريطانيا، أن أكثر من نصف السيداتتعرضن للتحرش الجنسي في العمل، واعترف معظمهن، بأنهن لم يبلغن عن حدوث تلك الوقائع.
ورصدت الدراسة، التي شملت 1500 سيدة، تعرض 52 % منهن للمشكلة، وأشارت إلى أن ثلث عددهن تعرضن لنكات غير لائقة، في حين قال ربع عدد السيدات، إنهن تعرضن لملامسات غير مرغوب فيها وفي مصر، تشير النسب إلى حوالي 76 % من النساء العاملات في مصر تعرضن للتحرش أو التمييز في مكان العمل، و60 % يشعرن بعدم الأمان في بيئة العمل، مما يؤثر على مشاركتهن الاقتصادية والاجتماعية، بينما فقط 10 % من الشركات لديها سياسات واضحة لمكافحة التحرش والعنف.
القطاع الخاص والغير منتظم الأكثر عرضة للتحرش
سواء كن عاملات بقطاع عام أو خاص كلاهما عرضة للتحرش في العمل، ولكن العاملات بالقطاع الخاص تكن أكثر عرضة للتهديد فيه؛ بسبب اتساع مساحة الشكوى في القطاع الحكومي أكثر من الخاص.
إضافة للعديد من النساء العاملات في القطاع غير المنتظم في ظروف عمل صعبة وغير لائقة، ولا تتوفر بها أية ضمانات للحماية، وبالتالي يكون من الصعب إثبات واقعة العنف والتحرش، حيث يكون من الصعب أصلًا إثبات علاقة العمل كالعاملين في الخدمة المنزلية.
ربما احتياج النساء إلى العمل والدخل المادي يجبرهن في بعض الأحيان على تحمل أشكال عديدة من العنف والتحرش؛ خوفًا من فقدان فرصة عملهن، كذلك صعوبة التضامن مع الضحايا، خاصة إذا اُرتكب العنف من رئيس العمل أو صاحب العمل، فإن مواقف الزملاء وغيرهم، ممن يتولون التحقيق لن تكون محايدة، وسوف تنحاز في أغلب الأحيان إلى صاحب العمل.
آليات الحماية.. الغائبة
يظل التحرش من أكثر العوامل التي تسبب فقدان النساء لفرص عملهن، حيث تفتقر قوانين العمل لبنود تنص صراحة على الحماية من التحرش في بيئة العمل.
في ظل غياب التصديق المصري على اتفاقية 190 سي، التي صدرت عن منظمة العمل الدولية في يونيو عام 2019 بشأن العنف والتحرش في العمل.
والتي بموجب التصديق عليها يقع على الدول التزاما بإعادة هيكلة التشريعات المتعلقة بضمانات العمل للنساء، بل والحماية من العنف في مكان العمل، كما يصبح أيضًا للنقابات ولمفتشي العمل بموجب– الاتفاقية– صلاحيات جديدة تتعلق برصد العنف والتصدي له.
ومن ثم يصبح لدينا مرجعية دولية قوية جديدة لدعم وحماية النساء من العنف، بل وزيادة اعدادهن في سوق العمل، بما يحقق المساواة بين الجنسين.
ويوجد اهتمام دولي بهذه الاتفاقية من خلال سعي منظمة العمل الدولية إلى تقديم الدعم للدول ومساندتهم في فهم وتطبيق الاتفاقية والتصديق عليها.
ربما غياب التصديق على الاتفاقية ليس العائق الوحيد، حيث يأتي ذلك في ظل غياب سياسات الحماية الداخلية بأماكن العمل، فما زال قانون العمل المصري خاليا من أي مادة تجرم صراحة العنف في أماكن العمل، ومن بينها التحرش بكافة أشكاله، في حين تنص قوانين العمل في عدة بلاد عربية على تجريم العنف داخل أماكن العمل كقانون سلطنة عمان في المادتين 40 و41.
حيث اقتصرت عقوبات التحرش على قانون العقوبات، فحين بدأ المشرع المصري في معالجة جريمة التحرش الجنسي بشكل أكثر شمولًا في عام 2014، تم إصدار تعديلات على قانون العقوبات تضمنت توسيع نطاق تعريف التحرش وتشديد العقوبات، جاءت هذه التعديلات كرد فعل على تزايد قضايا التحرش الجنسي في مصر، خاصة في الأماكن العامة والمؤسسات التعليمية.
والذي تضمن تشديد عقوبة التحرش إذا كان الجاني له سلطة وظيفية أو أُسرية أو دراسية على المجني عليهم، وفقًا للمادة (306 مكرر ج).
فإذا وقعت جريمة التحرش الجنسي في مكان العمل أو داخل مؤسسة تعليمية، فإن العقوبة تكون أشد؛ نظرًا لخصوصية المكان والعلاقة التي تجمع الجاني بالضحية.
بينما لم يتضمن قانون الخدمة المدنية نصًّا صريحًا حول الحماية من العنف في بيئة العمل، ولكنه تطرق إلى ذلك بشكل سريع من خلال نصوص الاحترام في علاقات العمل بمدونة السلوك الوظيفي للعاملين بالدولة، حيث جاء فيها مجموعة من المبادئ تشمل التعامل باحترام ولباقة مع الزملاء والمحافظة على علاقات سليمة وودية معهم دون تمييز، والحرص على احترام خصوصياتهم والامتناع عن استغلال أية معلومات، تتعلق بحياتهم الخاصة بقصد الإساءة والامتناع عن أية تصرفات لا أخلاقية، تنتهك الآداب العامة والقوانين والأعراف.
إضافة للامتناع عن كافة صور التحرش الجنسي من أقوال وأفعال أو إيماءات خادشه للحياء سواء بشكل سافر أو مستتر.
وبنفس السياق، جاء قانون العمل الموحد فلم يتطرق قانون العمل الموحد رقم 12 لسنة 2003 في نسخته الحالية إلى أية مواد، تتعلق بالحماية من العنف والتحرش في أماكن العمل، وآخر ما تم إصداره في هذا الصدد جاءت من خلال موافقة مجلس النواب خلال الجلسة العامة المنعقدة، يوم الثلاثاء بشهر فبراير السابق، على تعريف التحرش بمشروع قانون العمل الجديد الوارد بالمادة الأولى الخاصة بالتعريفات.
استراتيجيات متعددة… نتائج محدودة
الاستراتيجيات الوطنية المعنية بحقوق النساء وتمكينهن وحمايتهن من العنف بأشكال مختلفة، والتي حددت ا عددًا من التدخلات من أجل حماية المرأة من بينها الحد من التحرش من خلال تفعيل القوانين الرادعة ضد التحرش بالمرأة، وعلى تعدد هذه الاستراتيجيات إلا يجمع بينهم عدم إصدار خطط تنفيذية، وشبه انعدام تقارير نصف ونهاية المدة لتقييمها بشكل موضوعي طبقًا لمحددات واضحة.