مقدمة:

في بداية يناير 2025، اندلعت أحداث خطيرة في جنوب السودان، أثارت ردود فعل عميقة على كافة الاصعدة. بدأت الأزمة في مدينة ود مدني السودانية بعد انتشار مقاطع فيديو صادمة، تظهر مقتل عدد من المواطنين الجنوبيين، وهو ما أثار موجة من الغضب في جنوب السودان. في وقت لاحق، أدى هذا الحادث إلى تصعيد العنف ضد السودانيين في جوبا، حيث تعرضت محال تجارية مملوكة لسودانيين للنهب والسلب، ليُسجل سقوط قتلى ومصابين في صفوفهم.

لكن الأمر لم يقتصر على أعمال العنف في جوبا فقط، بل امتد إلى معسكرات اللاجئين السودانيين في جنوب السودان، ما جعل الوضع الإنساني يزداد سوءًا بشكل ملحوظ. في معسكر ودويل في ولاية بحر الغزال، تعرض آلاف اللاجئين السودانيين لاعتداءات خطيرة من قبل مجموعات محلية، حيث تم حرق الأسواق والمربعات السكنية، مما أجبر العائلات على الفرار إلى داخل مقرات الأمم المتحدة .

ومع ازدياد الضغوط الإنسانية، تحولت الأزمة إلى موضوع شائك، حيث أصدرت حكومة جنوب السودان سلسلة من التصريحات التي تطالب بتحقيقات حول ما جرى في ود مدني، بينما أعربت عن قلقها من تهديدات أمنية، تمس مواطنيها في الخارج. في ذات الوقت، استغل مندوب جنوب السودان في الأمم المتحدة هذه الأحداث كوسيلة للضغط على المجتمع الدولي لرفع حظر الأسلحة المفروض على بلاده.

مذبحة التجار السودانيين في جوبا

الموجة الأولى من العنف، بدأت في 15 يناير، حيث استهدفت العصابات محال التجار السودانيين في جوبا، وهو ما أسفر عن مقتل 8  أشخاص أثناء الهجمات. وبدلاً من أن تكون هذه الحوادث معزولة، توسعت لتشمل أحياء سكنية أخرى في العاصمة، مما دفع الحكومة المحلية في جوبا إلى اتخاذ إجراءات عاجلة، بما في ذلك إرسال السودانيين إلى مقرات حكومية ومقرات قوات الجيش لحمايتهم رغم ذلك، فشلت هذه التدابير في وقف الهجمات بشكل فعّال.

دفن ضحايا الأحداث في جوبا
صور قبيل دفن ضحايا الأحداث في جوبا
صور لسودانيين نقلوا الى مقرات حكومية لحمايتهم
صور لسودانيين نقلوا إلى مقرات حكومية لحمايتهم
صور لسودانيين نقلوا الى مقرات حكومية لحمايتهم.
صور لسودانيين نقلوا إلى مقرات حكومية لحمايتهم.

في وقت لاحق من الشهر، طالبت وزارة الخارجية في جنوب السودان من الحكومة السودانية إجراء تحقيق رسمي في مقتل الجنوبيين في ود مدني. وقد شكلت الأخيرة منذ اندلاع الأحداث في ود مدني تشكيل لجنة تحقيق برئاسة مساعد النائب العام؛ للكشف عن حقيقة ما حدث في ود مدني، وظهر هذا التصعيد على الساحة الدولية في اجتماعات الأمم المتحدة، حيث دعت جنوب السودان في اجتماعات الأمم المتحدة بنيويورك إلى فك حظر الأسلحة على الدولة لحماية مواطنيها، وطالب الأمم المتحدة ومجلس الامن إلى التحقيق في الأمر. وشكر الاتحاد الإفريقي والإيقاد على إدانة ما حدث، ومحملا الجيش السوداني المسؤولية.

معسكرات اللاجئين في خطر:

في ظل تفشي العنف في جنوب السودان، كانت المخيمات التي تحتضن اللاجئين السودانيين إحدى أكبر ضحايا الأزمة. في معسكر ودويل بولاية بحر الغزال، تعرض الآلاف من اللاجئين السودانيين إلى هجمات عنيفة من قبل المجتمعات المحلية التي اعتبرت أن وجود اللاجئين يشكل تهديدًا للموارد المحلية. وبدأت المجموعات المسلحة في إحراق الأسواق والمرافق السكنية الخاصة باللاجئين، بما في ذلك 12 مربعًا سكنيًا كان يؤوي ما لا يقل عن 9000 أسرة. من بين هؤلاء، كان معظمهم من النساء والأطفال والعجزة، الذين أصبحوا عاجزين عن حماية أنفسهم.

وفور وقوع الهجمات، اندفع الآلاف من اللاجئين إلى مقر الأمم المتحدة في المنطقة؛ بحثًا عن الأمان. إلا أن نقص الموارد الأساسية، مثل الطعام والمياه والمساعدات الطبية، تفاقم الوضع بشكل أكبر. تُشير إفادات من داخل المعسكر. (حسنة) اللاجئة في معسكر أويل، أكدت أن الوضع أصبح غير قابل للتحمل؛ بسبب الهجمات المستمرة على اللاجئين. قالت: نعيش في خوف دائم من الاعتداءات، حتى داخل مقرات الأمم المتحدة التي لجأنا إليها. الهجمات شملت ضرب الأفراد وحرق الأسواق والمنازل، مما جعل الحياة أكثر صعوبة. ولا توجد حماية فعالة من الأمم المتحدة أو السلطات المحلية.

الانسحاب غير المبرر للأمم المتحدة:

يشكل انسحاب موظفي الأمم المتحدة من معسكرات اللاجئين في جنوب السودان انتهاكًا خطيرًا للمسؤوليات الإنسانية المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، في وقت كان فيه اللاجئون يعتمدون بشكل كبير على المنظمة الأممية؛ لتوفير الحماية الضرورية والدعم الطبي والغذائي. هذا الانسحاب في ظل الفوضى والهجمات المستمرة جعل اللاجئين في مواجهة خطر شديد، حيث أصبحوا في وضع غير آمن، ولا يمكنهم تأمين حياتهم وسط نقص حاد في الموارد والموارد الطبية. فبدون هذا الدعم، أصبح هؤلاء اللاجئون في موقف يُعرض حياتهم للخطر المباشر.

وفقًا للقانون الدولي، وبالتحديد قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، يُتوقع من المنظمة الأممية، أن تتخذ دورًا رئيسيًا في توفير الحماية الإنسانية في مناطق النزاع. في هذه الحالة، كانت الأمم المتحدة قد وعدت بتوفير الحماية والموارد الأساسية للاجئين، لكن غياب هذه التدخلات يجعل من هذه الوعود مجرد كلمات فارغة في وجه معاناة لا حصر لها. كان من المفترض أن تقدم الأمم المتحدة شبكة أمان للاجئين السودانيين الذين فروا من نزاعاتهم العنيفة في وطنهم، لكن سحبها فرقها الإنسانية من المعسكرات في هذا الوقت الحرج، يزيد من تعقيد الأزمة الإنسانية. هذا التقاعس في أداء الواجب قد أدى إلى تفاقم معاناة المدنيين المتضررين.

كما أن تجاهل حكومة جنوب السودان للوضع الحالي، وعدم اتخاذ إجراءات فورية لوقف العنف ضد اللاجئين أو التحقيق في تلك الجرائم، يعرضها إلى تهديدات جدية على المستوى الدولي. استمرار هذه الانتهاكات وعدم اتخاذ خطوات جدية في حماية المدنيين، قد يضع حكومة جنوب السودان في موقف حرج أمام المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية. هذا الوضع قد يؤدي إلى تفاقم الضغوط السياسية على الحكومة، مما يؤثر بشكل كبير على مصداقيتها .

جذور تاريخية وتحديات مستقبلية

الأزمة الحالية في جنوب السودان تتجاوز البعد الإنساني لتكشف عن عمق التوترات بين السودان وجنوب السودان، والتي تمتد إلى ما بعد انفصال جنوب السودان عن السودان في 2011. النزاع على الحدود بين البلدين، خاصة فيما يتعلق بالموارد الطبيعية مثل النفط والمياه، يشكل أحد العوامل الرئيسية في تصاعد العنف وعدم الاستقرار في المنطقة. المناطق الحدودية، التي تضم احتياطيات نفطية كبيرة، أصبحت مصدرًا رئيسيًا للصراع بين البلدين، حيث يسعى كل طرف إلى تأمين نفوذه على هذه الموارد الحيوية.

الاتهامات المتبادلة بين السودان وجنوب السودان بدعم الحركات المسلحة في المناطق المتنازع عليها، تزيد من تعقيد الوضع. هذه الحركات، التي تعمل في المناطق الحدودية، تلعب دورًا مهمًا في إشعال فتيل الصراع، حيث يدعم كل طرف جماعات مسلحة في الطرف الآخر من الحدود في محاولة لتعزيز نفوذه. هذا الدعم غير المباشر يعمق الانقسام بين البلدين، ويعطل أي محاولات للتوصل إلى تسوية سلمية.

من جانب آخر، وجود قوات الدعم السريع في المناطق الحدودية بين السودان وجنوب السودان يعقد الوضع الأمني بشكل كبير. قوات الدعم السريع التي تسيطر على بعض المناطق المتنازع عليها، تعتبر من القوات غير الحكومية التي تمارس نفوذًا كبيرًا على الأرض. هذا الوضع يعزز حالة الفوضى في المنطقة، حيث تسيطر جماعات مسلحة على أراضٍ استراتيجية، مما يجعل أي حل سياسي أمرًا بالغ التعقيد.

تضاف إلى هذه التوترات، التحديات الداخلية في كلا البلدين. في السودان، يعاني النظام السياسي من انقسامات وصراعات داخلية، ما يضعف قدرة الحكومة على السيطرة على جميع مناطق البلاد. في المقابل، جنوب السودان لا يزال يعاني من صراعات داخلية وعوامل عدم الاستقرار، مما يجعل من الصعب التوصل إلى حلول دائمة للمشاكل الحدودية مع السودان.