أوضحنا في المقال الأول أن «قوات الدعم السريع»، نجحت في تعبئة بعض الجماعات المسلحة والقوى السياسية لتشكل تحالف «تأسيس»، كمقدمة لإعلان حكومة موازية بالمناطق التي تسيطر عليها، وتحقيق مكاسب سياسية تعوض خسائرها المتتالية في المواجهة مع الجيش، والتقلص المستمر للمناطق التي تمددت فيها منذ بداية الحرب.. التحرك يستهدف تأسيس كيان سياسي في القطاع الغربي من السودان «دارفور وكردفان» ينازع انفراد حكومة بورتسودان بشؤون السيادة والاستقلال الوطني، مما قد يشجع بعض الدول -سعيا وراء مصالحها- على تمكين الدعم السريع من الحصول على مقاتلات ومنظومات دفاع جوي متقدمة، قادرة على تحييد نظيرتها السودانية، بما يعني تكريس تقسيم الدولة.
تداعيات هذا التطور بالغة الخطورة على الدولة والحكومة السودانية، لأنه يعتبر أول خطوة عمليه على طريق تفتيت الدولة وانتهاك وحدتها، بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، لذلك سحبت وزارة الخارجية السفير السودان من نيروبي للتشاور، وقامت باستدعاء السفير الكيني في بورتسودان، وأبلغته احتجاجا شديد اللهجة على استضافة بلاده لمؤتمر الميليشيات، وهو عمل يدخل في نطاق النشاط الهدام ضد الدولة السودانية، كينيا بررت استضافتها للمؤتمر بمحاولة التوسط، وجلب الأطراف المتحاربة إلى طاولة المفاوضات، دون أن تفسر تجاهلها لمصالح الدولة السودانية.. السودان هدد باتخاذ إجراءات تصاعدية تشمل حظر دخول المنتجات الكينية إلى البلاد، لا سيما وأن السودان من أكبر البلدان المستوردة للشاي الكيني.. الخارجية أكدت اعتزامها إرسال شكاوى في المنظمات الدولية، وتعبئة المجتمع الدولي ضد التدخل الكيني في الشأن الداخلي للسودان.
***
استضافة كينيا لمؤتمر الميليشيات في قاعة «جومو كنياتا» الرسمية بنيروبي، والبيان الصادر عنه أثارا ردود فعل معارضة داخل كينيا نفسها؛ «ريجاثي جاتشاجوا» النائب السابق للرئيس الكيني، اتهم الرئيس «ويليام روتو» بالتورط في تجارة الذهب التي يديرها «حميدتي» قائد قوات الدعم السريع، حيث يتم شحن ما يتم إنتاجه من ذهب في السودان إلى نيروبي قبل نقله إلى دبي، وكشف «جاتشاجوا»، أنه لم يحضر اجتماعا بين حميدتي وروتو في نيروبي عام 2023، لأنه لم يكن يتعلق بكينيا، بل بأعمال تجارية خاصة، وتآمر على دول الجوار.
***
وفي الوقت الذي كانت فيه قوات الدعم السريع تبحث في نيروبي تشكيل تحالف «تأسيس» وإعلان «حكومة موازية»، كان مجلس الوزراء السوداني يجري أول تعديلات جذرية على «الوثيقة الدستورية الانتقالية» للبلاد، التي وقع عليها الجيش وقوات الدعم السريع وتحالف قوى الحرية والتغيير عام 2019، واستهدفت التعديلات حذف كل الإشارات إلى قوات الدعم السريع شبه العسكرية وقوى الحرية والتغيير المدنية بحكم انقلابهما على الدولة، كما تم عزل المدنيين من مجلس السيادة الانتقالي الحاكم، ومنح البرهان- بصفته رئيسا لمجلس السيادة- سلطة تعيين رئيس وزراء مدني وإقالته، وحدد الفترة الانتقالية بتسعة وثلاثين شهراً، تبدأ من تاريخ التوقيع على الوثيقة.. التعديلات أجازتها الحكومة، ضمن ما تراه عملية إعادة توزيع جديد للسلطة بين الجيش والجماعات الموالية، لكن تزامنها مع صدور ميثاق نيروبي أعطي انطباعا، بأن كلا من الطرفين المتحاربين كانا يتحركان بتوافق تلقائي في اتجاه تكريس تقسيم الدولة السودانية.
ملاحظات جوهرية
أولا: أن تحالف «تأسيس» تم تكوينه من جماعات ذات أهداف متعارضة، فهو يضم قوات الدعم السريع، وحركات متمردة من دارفور وجنوب كردفان ذات خلفيات وأيديولوجيات مختلفة، فضلا عن جماعات تقليدية وزعماء قبائل، والغريب أنهم يدعون لإنهاء التمييز في البلاد، وفرض حظر على الجماعات التي تستغل الدين والعرق في العمل السياسي، مستهدفين جماعات الإسلام السياسي التي تدعم الحكومة السودانية، لكنهم تجاهلوا أن ميليشيات «الجنجويد»- أصل قوات الدعم السريع- ارتبط اسمها بجرائم الإبادة الجماعية والتمييز العرقي والتهجير القسري للقبائل غير العربية في غرب السودان، ناهيك عن جرائم المرتزقة في الولايات التي دخلوها، ومثل هذه التناقضات قد تؤدى إلى تفكك التحالف.
ثانيا: أن مشروع الحكومة الموازية إجراء استهدف رفع معنويات قوات الدعم السريع، التي أدت هزائمها- في ولايات الوسط والجنوب وفى الخرطوم العاصمة- إلى انهيارات في مواقعها الدفاعية، وانسحابات غير منظمة، وهروب أعداد كبيرة من المقاتلين من الميدان، لكن هذا المشروع لا يقدم إطارا متكاملا لبناء دولة انفصالية على أسس جديدة، كما لا يتوقع أصحابه الحصول على اعتراف قانوني دولي بها، وعدم تجاوزه مرحلة الاعتراف الفعلي بالتعامل معهم كقوة أمر واقع، فضلا عن أن المشروع لا يستند إلى قبول وتوافق داخلي- حتى في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات- وذلك نتيجة جرائم الحرب وضد الإنسانية التي ارتكبتها الميليشيات والمرتزقة.
ثالثا: ومن الناحية العملية، وعلى ضوء اتجاه مسار العمليات الحربية، فإن الحكومة الموازية الممثلة لقوات الدعم السريع والجماعات المسلحة المتضامنة معها، قد نقلت الصراع إلى مرحلة التنازع مع الجيش على الشرعية، وبالتالي انتقلت بالأزمة إلى مرحلة جديدة لا تجدي معها جهود وقف الحرب ومحاولات التسوية.. ورغم ذلك، فإن الحكومة الموازية لن تتمكن عمليا من انشاء مؤسسات موازية إلا في إقليم دارفور وجنوب كردفان، خاصة بعد نجاح الجيش في فك الحصار على مدينة الأبيض خلال الأسبوع الأخير من فبراير 2025، لكن نفوذ هذه المؤسسات لن يقدر له الاستقرار؛ بسبب استمرار الحرب فيها، ولا شك في أن سعي الجيش لحسم معارك الخرطوم العاصمة، وإعادة فرض سيادة الدولة عليها، يسمح له بالتفرغ لإدارة معارك الغرب، مما يعني إمكانية اجبار الميليشيات على مزيد من التراجع، والانحسار التدريجي للأراضي التي تخضع لنفوذها، لكن ذلك سيكون مقابل المزيد من دماء الضحايا المدنيين.
رابعا: ورغم نفي كل أطراف التحالف الجديد، أنهم يسعون لتقسيم السودان، وأن هدفهم مجرد الضغط السياسي والعسكري على الجيش، إلا أنه أضاف إلى الحرب طابع الصراعات القبلية بين أكثر من 300 مكون قبلي وجهوي في السودان، مما قد يدفع البلاد إلى مرحلة جديدة تؤدي إلى مزيد من تفتيت الدولة، والتصعيد في كل مسارح العمليات، خاصة أن حركة الحلو لا تكتفي بالمناطق التي تسيطر عليها جنوب كردفان، ولكنها تطمح في السيطرة على كامل الولاية، والانطلاق منها لبسط نفوذها على شمال كردفان، كما أن الهزائم التي لحقت بالدعم السريع قد تدفعه للتركيز على جبهة الفاشر لحسم المعارك فيها لصالحه، مما يؤكد أن استقرار الحكومة الموازية، حتى في ولايات الغرب السوداني أمر بعيد المنال.
خامسا: والحقيقة، أن قطاعات مهمة من مكونات التحالف الجديد تدرك أهمية العقبات التي تواجههم، لكنهم يستهدفون من إظهار قوة تأثير التحالف، إجراء عملية خلط للأوراق وإرباك الموقف على نحو قد يجبر الجيش على التفاوض، والتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بشروط سياسية وعسكرية موائمة تجنبهم الهزيمة العسكرية في ميدان المعارك، خاصة بعد الدعم التقني واللوجستي الذي قدمته مصر، ودخول روسيا كطرف داعم للجيش مع قرب توقيع الحكومة السودانية على اتفاق مع روسيا لتشييد قاعدة «فلامنجو» قرب ميناء بورتسودان.
سادسا: أن موافقة الحكومة السودانية على اتفاق القاعدة الروسية قد تم، في محاولة لإحداث توازن مع دور الامارات وحلفائها في الإقليم لمساعدة قوات الدعم السريع، ويجدر الاشارة في هذا الشأن إلى توصل كينيا لصيغة اتفاق شراكة اقتصادية شاملة مع الإمارات في فبراير 2024، وبدء التفاوض في سبتمبر 2024 للحصول على قرض تجاري بقيمة 1.5 مليار دولار بسعر فائدة منخفضة ولأجل 7 سنوات، ولكن لم يتم توقيع هذه الاتفاقيات إلا خلال زيارة الرئيس «ويليام روتو» لأبوظبي منتصف يناير 2025، وعلى إثر ذلك استجابت كينيا للضغط واستضافت مؤتمر تحالف «تأسيس» في منتصف فبراير 2025.
سابعا: التضامن مع الدولة السودانية جاء من دول شمال وغرب إفريقيا، مثل مصر والجزائر ومالي والنيجر وبوركينا فاسو والسنغال وموريتانيا وغيرها من الدول التي وقفت ضد إعلان الحكومة الموازية.. أما في شرق إفريقيا فإن استضافة كينيا مؤتمر «تأسيس» كان بمثابة اعتراف فعلي بهذه الحكومة، كما أن أوغندا وتشاد وإثيوبيا وإفريقيا الوسطى وحتى جنوب السودان، وهي الدول التي تمثل جزءًا من شبكة خطوط إمداد قوات الدعم السريع بالأسلحة التي زودتها بها دولة الإمارات، فإنها قد تعترف بالحكومة الموازية اعترافا واقعيا، خاصة أنها ترتبط بمصالح اقتصادية ومالية وعسكرية عميقة مع أبوظبي.
ثامنا: الموقف الرسمي لمصر عبر عنه وزير الخارجية الهمام بدر عبد العاطي، الذي أكد رفض أي دعوات لتشكيل أي أطر موازية للإطار الشرعي القائم في الدولة السودانية، مشيراً إلى أن السلامة الإقليمية للسودان «خط أحمر» بالنسبة لمصر، لكن الموقف المصري يواجه تحديات معقدة، أهمها الدعم السخي من بعض الدول المؤثرة في الإقليم لجهود الدعم السريع الخاصة بتشكيل «حكومة موازية»، في الوقت الذي تتعرض فيه مصر لتهديدات مباشرة وصريحة من الاتجاه الاستراتيجي الشمالي الشرقي، ما فرض التعبئة والحشد العسكري في سيناء، ورفع درجة الاستعداد، الأمر الذي قد يقيد ردود الفعل المصرية، على نحو يقتصر على الدعم العسكري واللوجيستي للجيش السوداني، وتبني موقف سياسي ودبلوماسي داعم لوحدة الدولة السودانية.
مصر رفضت تقسيم السودان إلى جزئين، أحدهما تابع للدولة السودانية، والآخر للحكومة الموازية التابعة للميليشيات، لأن ذلك يدفع البلاد إلى مرحلة جديدة من تصعيد الحرب، وتفكك الغرب السوداني، مما يشكل تهديداً خطيرا لمصالح مصر الاستراتيجية، ويؤثر سلبا على الاستقرار والأمن في الإقليم.. فمتى يلتزم الأطراف المؤثرة في الأزمة بمتطلبات الاستقرار والأمن ووحدة التراب السوداني؟!
11 مارس 2025