إذا كان مشروع ترامب يخص الولايات المتحدة، إلا أن طبعاته باتت عابرة للحدود، وأن ما يقدمه من أفكار وممارسات بات يمثل حالة عالمية مطلوب دراستها؛ لأنه من الواضح أنها ستستمر معنا لفترة، حتى لو لم يكن المشروع الوحيد، ولن تكون بالضرورة السائدة عالميا؛ لأن هناك أفكارا أخرى تواجهه وتمثل بديلا له.
والحقيقة، أن صور “الترامبية” عابرة للحدود، وبات لها تجليات مختلفة في كل سياق حضاري، فالآراء المحافظة والصوت العالي وإدخال الوطنية والدين في كل جملة بحق أو غير حق وبمبرر أو غير مبرر، وكراهية العلم وجامعات ومؤسسات التعليم العالي الرفيع، والتعامل مع الدنيا بعقلية المطور العقاري، لم يعد يخص ترامب فقط، إنما صرنا نجد في كثير من بلاد العالم، كيف تحول “الكاش” لقيمة عليا حتى لو جاء على حساب قيم ثقافية واجتماعية وسياسية أخرى كثيرة.
إن خطاب ترامب وتأثيره في أمريكا يقول، إنه لا يجب أن نندهش من صعود الخطاب الوطني والشعبوي الذي لا يعتبر الديمقراطية أولوية، ويرفض الليبرالية، ويعتبر أن الشعوب غير مؤهله للديمقراطية، ويكره الرأي الآخر المخالف، وكثيرا ما يصب جام غضبه على المهاجرين، خاصة لو كانوا أفارقة، مثلما جرى في تونس ومصر وعدد من الدول العربية.
والحقيقة، أن خطاب كراهية الآخر في صورته “الترامبية” لم يراع الشكل أو اللياقة، كما كان يجري مع زعماء كثيرين حملوا نفس أفكاره، ولكنهم لم ينعتوا الأجانب والمهاجرين بالمجرمين والقتلة وأكلة الكلاب والقطط.
وحين يستشهد ترامب عشرات المرات بالكتاب المقدس، ويعتبر أن نجاته من محاولة الاغتيال هي إرادة إلهية؛ لكي يعود لحكم أمريكا ويقود العالم، رغم إنه ليس متدينا وغير ملتزم بتعاليم الديانة المسيحية الأخلاقية، إنما هو يوظف الدين لصالح مشاريعه السياسية، مثلما تفعل تيارات محافظة كثيرة في العالمين العربي والإسلامي، وليس فقط تيارات الإسلام السياسي، إنما أيضا تيارات قومية ووطنية، تعتبر أنها مبعوثه العناية الإلهية لإنقاذ بلادها.
والحقيقة، أن صعود ظاهرة ترامب في أكبر دولة في العالم وأكثرها تقدما وإنتاجا للمعرفة، سيعني إنه لا يجب أن نندهش حين نجد صعودا لتيارات دينية ووطنية متشددة في عالمنا العربي، أو أوروبا أو في أي مكان آخر في العالم، وسيكون طبيعيا في السياق العالمي الحالي، أن تكون هيئة تحرير الشام هي البديل الذي دعمه غالبية الشعب السوري وقبله العالم لإسقاط بشار الأسد، وليس تيارات ليبرالية أو يسارية، ولا أن يعتبر كثيرون خطاب الرئيس التونسي الرافض للديمقراطية التمثيلية، بمثابة المخلص والمنقذ للبلاد من أزماتها، ولا أن يكون هناك تيار واسع في مصر قبل التخلي عن بناء الديمقراطية من أجل إسقاط حكم الإخوان، ولا زال يعتبر أن مشكلته الحالية في سوء وضعه الاقتصادي وليس غياب الديمقراطية ودولة القانون.
صحيح، لا يمكن مقارنة السياق السياسي والاجتماعي في البلدان التي ظهرت فيها طبعات مختلفة من “الترامبية” بالولايات المتحدة ولا خلفيه حكامها وفريقهم بترامب وفريقه، لأن الأخير يحكم في النهاية بلدا به مؤسسات راسخة ودولة قانون وقوة عظمى، إنما علينا فقط أن نلفت الانتباه إلى أن موجه التغيير الأخيرة، وخاصة في العالم العربي، كانت بدرجات مختلفة في اتجاه التيارات الأكثر محافظة وليس الأكثر ليبرالية، وأن الانطلاق نحو ما تصوره البعض ربيعا عربيا ونظاما ليبراليا عقب ثورتي تونس ومصر، انتهى بعودة الرؤية المحافظة لتحكم المشهد في أعقاب سنوات معدودة من تجربة الانتقال الديمقراطي المتعثر.
إن خطاب ترامب يكره الديمقراطية الليبرالية، ولا يحب الخبراء والعلماء ونظرته للحزب الديمقراطي ولمنافسته الخاسرة كمالا هاريس، أنها “ماركسية” وأنصارها متطرفين، ولا تختلف في جوهرها عن الخطاب الوطني المحافظ في العالم العربي الذي لا يقبل التعددية والقيم الليبرالية والنظام الديمقراطي ولديه لائحة طويلة من الاتهامات لخصومه السياسيين.
إن منظومة ترامب باتت تسعى لتأسيس علاقاتها الدولية وتحالفاتها على أساس الصفقات التجارية، وليس المصالح المتبادلة سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا، وبالتالي لم يعد يرى أن هناك قيما مشتركة تجمع أمريكا وأوروبا قائمة على الليبرالية وحرية التجارة ودولة القانون، إنما أن أمريكا تدفع لحلف الناتو أموالا كثيرة لحماية أوروبا، وهو ما يجب وقفه.
نظام ترامب الجديد لا يرى إلا الأقوياء، ولا يفهم إلا لغة الصفقات المالية الكبرى، ويمارس تنمرا على الدول الأضعف، ويعتبر أن الربح أهم من أي تحالف استراتيجي، وأن رسالة أمريكا للعالم وحضور مؤسساتها العابرة للحدود، والتي لعبت أدورا مؤثرة في الترويج للنموذج الأمريكي، وفي خلق كيانات، بل وحكومات موالية للولايات المتحدة، تم إيقاف نشاط كثير منها ووقف الدعم المالي لها لصالح البحث عن صفقة معادن في أوكرانيا أو الترويج “لريفيرا” في غزة، وأن أمريكا “ستصبح عظيمة” حين تربح من صفقاتها التجارية.
الانحياز للأقوى “سلوك ترامبي” واضح، ولكن هناك كثير من زعماء العالم يمارسون نفس السلوك، ولكن تجاه شعوبهم؛ لأنهم يعتبرونها الطرف الأضعف، فنجدهم يطيعون ما تقوله القوى الكبرى؛ لأنها تملك أدوات قوة وضغط، ولكنهم يمارسون استعلاء وتجاهلا لمطالب شعوبهم، على اعتبار أنها “مغلوبة على أمرها”.
موجه ترامب العابرة للحدود ليست أبدية والصعود والهبوط بين مختلف المدارس الفكرية والسياسية أمر طبيعي، فمن اعتبر أنه ليس مهما التمسك بالديمقراطية وبناء دولة القانون في العالم العربي كثير منهم راجع مواقفه، وفي أمريكا من صوت لترامب؛ لأنه اعتبر أن المهاجرين خطر، وأن المكسيك عدوة وإن إسرائيل ضحية، ربما يراجع نفسه حين يكتشف أن العداء للمهاجرين الأجانب تحول إلي عداء للأمريكيين من أصول عرقية غير بيضاء في بلد قام منذ نشأته على المهاجرين والتنوع.
صور الترامبية اختلفت من سياق إلى آخر، ولكنها ظلت في جوهرها تحمل قيما مشتركة مثل الانحياز للأقوى وكراهية الآخر، ويا حبذا لو كان أضعف، والاستهزاء بالعلم وعدم الإيمان بالديمقراطية، وهي في دورة صعود له أسبابه، ولكنه بالطبع ليس أبديا.