بحقائق الجغرافيا السياسية، إذا ما تقوضت سوريا باحترابات أهلية ومشروعات تقسيم ماثلة، تتقوض مصر ويخسر العالم العربي كله أية مناعة، تحول دون تفكيك دوله والتلاعب بمصائره.

لم تكن مصادفة أن سوريا هي البلد، التي احتضنت الفكرة العروبية في مواجهة “التتريك” ونشأت فيهاـ قبل غيرهاـ الحركات ذات التوجه القومي العربي.

تبلورت الفكرة العروبية في مواجهة سياسات “التتريك”.

بأثر التطورات الدموية، التي خيمت على الساحل السوري، يطرح الآن سؤال المصير السوري مقترنا بسؤال مستقبل الفكرة العروبية نفسها.

اكتسبت الفكرة قوتها وإلهامها من قدرتها على دمج الطوائف المختلفة في نسيج فكري وثقافي وسياسي واحد، على نحو يساعد في بناء مجتمعات حديثة أكثر صحة وحيوية على أسس وقواعد المواطنة والمساواة أمام القانون بين مكوناته وتنويعاته.

تمزيق النسيج الوطني والاجتماعي من مقدمات الحروب الأهلية المدمرة.

المصير السوري معلق على هذه المسألة بالذات.

لم يكن ما جرى من مذابح مروعة على أساس طائفي في الساحل السوري محض انفلاتات أمنية عابرة، سرعان ما يجري تطويق آثارها وتداعياتها.

إنها بروفة لما قد يحدث تاليا من احترابات أهلية وتدخلات إقليمية ودولية، تشل قدرة السوريين على التوحد والتعافي بأي مستقبل منظور.

أخطر ما جرى أن التنظيمات والميليشيات المحسوبة على سلطة الأمر الواقع، ارتكبت أفظع جرائم الحرب ضد مواطنين سوريين، ينتسبون إلى الطائفة العلوية لا ذنب لهم في أي صراع، دون مساءلة جدية وحساب ضروري.

إعدامات ميدانية وعشرات الجثث ملقاه في الشوارع واقتحامات للبيوت ترويعا للنساء والأطفال ومشاهد الإذلال، التي أفقدتهم إنسانيتهم، كما رصدتها مئات الفيديوهات المصورة.

المأساوي أن الفضائيات العربية، كلها تقريبا بدرجات متباينة لأسباب سياسية، دلست على المشهد- كأنهم ليسوا بشرا من حقهم الحياة بكرامة وأمن.

التدليس يسحب من رصيد صدقيتها المهنية ويربك المشاهد العربي، فلا يعرف ماذا يحدث حوله ولا مدى خطورته على مستقبله ووجوده؟

الأسوأ أن تيار الإسلام السياسي مارس فعل التدليس نفسه، ارتفعت أصوات من داخله، تنتقد الرئيس الراحل “محمد مرسي” المحسوب على جماعة “الإخوان المسلمين” لعدم اتباعه أسلوب “أحمد الشرع” في التصفيات الجسدية لخصومه.

الظروف مختلفة والمقاربات لا محل لها، غير أنها كاشفة.

إنه سقوط أخلاقي مريع وخلل في القياس والاستنتاج عواقبه وخيمة على مستقبل ذلك التيار.

الاستنتاج نفسه يضفي نوعا من الشرعية على أية أعمال وتجاوزات مشابهة، ترتكب بحق أبرياء ومظلومين ويحول بنفس الوقت دون أية مراجعة حقيقية للأسباب، التي أطاحت بهم من الحكم بعد سنة واحدة.

في بداية أحداث الساحل السوري، ترددت سرديات تبرر القمع الوحشي، وتضفي عليه صفات القوة والحسم مع “فلول النظام”، التي حاولت الانقلاب على السلطة الجديدة.

حسب التقارير الدولية، حدثت بالفعل اشتباكات بين مسلحين يوصفون بـ”فلول” النظام المخلوع وقوات الأمن التابعة للحكومة الانتقالية.

التقارير نفسها رصدت جرائم طائفية مريعة لا علاقة لها بالاشتباكات وأطرافها.

“أحمد الشرع” تبنى سردية التمرد، لكنه سرعان ما تراجع عنها تحت ضغط التغطيات الإعلامية الدولية، التي كشفت بالصور والأرقام، ما ارتكب من مذابح وفظائع.

أعلن تاليا، أنه بصدد تشكيل لجنة تحقيق مستقلة في الأحداث، وأن أحدا لن يفلت من الحساب حتى لو كان من دائرته المقربة!

كان ذلك التصريح اعترافا، بأن جماعته شاركت في المذابح ضد الطائفة العلوية، لكنه بطبيعة الحال لن يكون هناك تحقيق مصدق، يساعد على بناء الحد الأدنى من مفهوم الدولة.

الاستهداف الطائفي يعود بالأساس إلى طبيعة وأفكار التنظيمات المسلحة، التي استولت على السلطة في دمشق.

هذا النوع من الاستهداف يشمل المسيحيين والدروز والأكراد.

أسوأ ما فيه التحشيد الطائفي باسم “السنة”.

باليقين يتحمل نظام عائلة “الأسد”، التي حكمت سوريا لأكثر من نصف قرن، مسئولية إرساء الطائفية في بنية مؤسسات الدولة، غير أنه لا يبرر ما ارتكبته سلطة الأمر الواقع من مذابح.

حين تزعزعت الثقة العامة في قدرة “الشرع” على الإمساك بمقاليد الأمور، أُعلن فجأة عن توقيع اتفاق بين “الشرع” و”مظلوم عبدي” رئيس قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لدمج الأكراد، ومنحهم كامل حقوق المواطنة.

لم يكن التوقيع على الاتفاق، الذي وصف إعلاميا بالتاريخي، من أعمال الصدفة، بقدر ما كان رسالة عكسية مقصودة بتوقيتها؛ لإنقاذ صورة “الشرع” من الانهيار التام.

على مدى شهرين جرت مداولات ومفاوضات مطولة للتوصل إلى ذلك الاتفاق.

بقوة المصالح المشتركة، الأمريكية والتركية، تقرر التوقيع فورا أمام الكاميرات لتغيير البيئة العامة؛ منعا لأي تدهور إضافي يقوض تلك المصالح.

قفز الاتفاق فوق حقول ألغام، أخطرها مسئولية الإشراف على السجون، التي تقبع داخلها قيادات وأعضاء في تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

تبدى هنا التناقض فادحا بين اعتبار هيئة تحرير الشام تنظيما ثوريا قد نبذ الإرهاب، وبات يدعو إلى الدولة الحديثة الديمقراطية، وبين إرثها المقيم كتنظيم مصنف دوليا إرهابيا.

هناك خشية شبه معلنة، أنه إذا ما آلت مسؤولية الإشراف على السجون إلى هيئة تحرير الشام، فإنها سوف تعمل على الإفراج عن مقاتلي “داعش” بتهريبهم، أو بأية وسيلة أخرى!

إنها أوضاع قلقة وهشة ومرشحة لانفجارات جديدة.

الغرب يطلب السيطرة على الموقع السوري وحماية مصالحه الاستراتيجية وإغلاق صفحة الصراع مع إسرائيل للأبد.

لم تكن مصادفة بدء العمليات العسكرية لإسقاط النظام السوري بنفس لحظة توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل.

كان الهدف المباشر منع تهريب السلاح عبر الحدود اللبنانية السورية إلى حزب الله.

مع ذلك عملت إسرائيل، أن تظل سوريا ضعيفة وممزقة، ولم تخف نزعتها للاستيلاء على بعض أراضيها.

دون مواربة أعلن وزير دفاعها “يسرائيل كاتس” استعداد إسرائيل للتحالف مع أية أقليات دينية في سوريا وغير سوريا.

وفق رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، فإنه يطلب رسم خرائط جديدة للشرق الأوسط، تتحكم فيه وتقوده.

سوريا نقطة البدء في ذلك السيناريو الكابوسي.

الصراع في سوريا وعليها هو صراع على المنطقة وعليها.

هذه حقيقة جيو سياسية، لا يصح تجاهلها، أو التجهيل بها، وإلا فإن العواقب سوف تكون وخيمة.