بعد أن بات الدور الإماراتي الداعم لميليشيات الدعم السريع حقيقة دامغة، أكدتها الوقائع وردود أبوظبي واستجاباتها في هذا المسار منذ إبريل 2023، وكان من أواخرها استضافة وفود “سياسية” سودانية تحت مظلة الدعم في أبوظبي قبل تخصيص الأخيرة معونات سياسية، بالتزامن مع ما سمى بحكومة سودانية موازية في العاصمة الكينية نيروبي في فبراير الفائت الأمر الذي لا يمكن فصله عن مجمل الدعم الإماراتي للميليشيات، وغطائها “السياسي” الذي لم يقدم تصورًا واقعيًا لتسوية الأزمة السياسية والعسكرية في البلاد.
وبادر السودان في مطلع مارس الجاري برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية، يتهم فيها الإمارات “بالتورط في الإبادة” بحق جماعات المساليت في غربي دارفور عبر دعمها العسكري والمالي والسياسي لقوات الدعم السريع؛ الأمر الذي مثل تعميقًا أكبر للأزمة القائمة بالفعل بين البلدين، وهو ما اتضح تاليا في الرفض القوي من الإمارات لمثل هذه الاتهامات بوصفها “عمل دعائي متحايل”؛ للتغطية على فشل سلطات بورتسودان “مقر السلطة” في التوصل لتسوية سياسية، حسب سردية أبوظبي الثابتة في إدانة السلطات السودانية (مجلس السيادة الانتقالي وقيادة القوات المسلحة).
قراءة في دعوى السودان: لائحة اتهامات محددة
أعلنت محكمة العدل الدولية تقديم السودان (5 مارس) طلبًا لبدء إجراءات ضد دولة الإمارات العربية في المحكمة بخصوص الانتهاكات المزعوم ارتكاب الدولة الخليجية لها وفق معاهدة منع ومعاقبة جريمة الإبادة، وتحقق أركانها بحق جماعة المساليت في غربي دارفور بشكل خاص. واتهم السودان في طلبه الإمارات بالدعم المباشر لميليشيات الدعم السريع والميليشيات الحليفة لها في جميع أعمال الإبادة، والقتل وسرقة الممتلكات والاغتصاب والترحيل القسري وتخريب الممتلكات العامة وانتهاك حقوق الإنسان. ويكشف نص الطلب عن صياغة مباشرة ومحددة للغاية لقائمة اتهامات السودان للإمارات “منذ العام 2023 على أقل تقدير”. واهتم الطلب بالأعمال التي تبنتها أو تغاضت عنها أو اتخذتها أو تتخذها حكومة أبوظبي، فيما يتعلق بالإبادة ضد جماعة المساليت، وأن هذه الأعمال تكتسب سمة الإبادة؛ “لأنها استهدفت تدمير جزء كبير” من هذه الجماعة. وأكد الطلب ثبوت ارتكاب ميليشيات الدعم السريع، وفق كافة أنواع القرائن، وبدعم غير محدود من الإمارات، الإبادة والتشريد القسري والقتل.
كما أشار الطلب “لانتهاك الإمارات لالتزاماتها وفق المادة الأولى من اتفاقية الإبادة”، وكذا الالتزامات الأساسية الأخرى وفق نفس الاتفاقية، بما فيها محاولة ارتكاب إبادة؛ والتآمر في ارتكاب إبادة، والتحريض عليها، والفشل في منع إبادة أو معاقبة المسئولين عنها. وتضمن الطلب وقائع وجرائم محددة، حسب رصده منها قتل ميليشيات الدعم لنحو 380 مدنيًا في مدينة الهلالية بولاية الجزيرة. كذلك تضمن الطلب لائحة محددة من الاتهامات المماثلة التي تدور حول دعم الإمارات لميليشيات الدعم السريع “بكافة أنواع الدعم”، ومنها الدرونز “الطائرات المسيرة” المستخدمة في العمليات العسكرية، واستهداف المرافق المدنية، وكذلك “استفادة قائد الميليشيا (حميدتي) من دعم الإمارات عبر تزويده بطائرة خاصة لتنقلاته في القارة الإفريقية. كما تخدم الإمارات كمركز لأنشطة أعمال الميليشيا، واستضافة جميع الشركات التجارية التي يملكها زعيم الدعم السريع، بما فيها شركات فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات عليها. وتختتم لائحة الاتهامات بإشارة لتجاهل الإمارات “جميع الاتفاقات والمعاهدات الموقعة عليها، وجميع قرارات الأمم المتحدة التي تحظر مثل هذه الأفعال”.
ويبدو من نص الطلب صيغة واحدة رئيسة، وهي: تورط الإمارات عضويًا في كافة جرائم ميليشيات الدعم السريع، بل وتحريضها على استدامة أعمال العنف عبر توفير مظلة سياسية وتمويلية لهذه الميليشيات بالمخالفة لقواعد القانون الدولي؛ والاستدلال على ذلك بشواهد حقيقية، لم تستطع أبوظبي دحضها في واقع الأمر. ويتوقع بالتالي أن تأخذ دعوى السودان علاقاته مع الإمارات لمرحلة القطيعة الدبلوماسية في غضون فترة وجيزة للغاية.
الدعوى وآفاق دور الإمارات في السودان
تمثل الدعوى- شكليًا على الأقل- هجمة مرتدة ضد توغل النفوذ الإماراتي في السودان وبقية دول القرن الإفريقي الكبير، لا سيما في جنوب السودان (في الوقت الراهن) الذي تتفاعل أزمته بشكل أو بآخر مع تطورات الأزمة السياسية في السودان، وهو ما يمكن معه تصور وجود ترابط في رؤية الإمارات للبلدين (معًا) وسيناريوهات دعم الفوضى فيهما. ومع تراجع حضور الإمارات في الأزمة السودانية باستثناء دعم ميلشيات الدعم السريع وسيناريو إعادة إنتاج الفوضى الشاملة، ركزت أبوظبي على جهود تطويق السودان بشكل كامل. وعلى سبيل المثال أصبحت الإمارات الحاضنة المالية الرئيسة لنظام سلفا كير في جنوب السودان عبر تقديم حزم من المساعدات (المشروطة بشراء مسبق للبترول الجنوب السوداني وبأسعار تفضيلية لصالح الأولى) ودعم الموازنة (على غرار دعم أبو ظبي لنظام آبي أحمد بودائع بليونية قبل أعوام قليلة)، وفي المقابل، ضمن مخرجات أخرى، ضمنت أبوظبي تغيير موقف جوبا من الأزمة في السودان نحو دعم الميليشيات بعد أن كانت جوبا تصطف مبدئيًا مع مؤسسات الدولة السودانية، وهو التغير الذي بات ملحوظًا بقوة بعد حلول سلفا كير ضيفًا على أبوظبي قبل شهر تقريبًا (8 فبراير)، حيث استقبله رئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان، وناقشا فرص توسيع الصلات بين بلديهما في مجالات الاقتصاد والاستثمار والزراعة والطاقة المتجددة والبنية الأساسية، إلى جانب مناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك بينهما، مثل المسألة السودانية، بينما ربط معارضون جنوب سودانيين جهود أبوظبي قبل مارس الجاري باحتواء الصدام بين سلفا كير وقادة عسكريين مناهضين لسياساته وجهود الأخيرة في القرن الإفريقي وإقليم البحيرات الكبرى؛ ما يوضح جانبًا من أبعاد التحرك الإماراتي في السودان.
ويمكن تلمس الدور الإماراتي في السودان كعامل تهديد لسيادة الأخير ووحدته بشكل بالغ الانكشاف؛ ومن ثم فإن الدعوى السودانية، مع الأخذ في الاعتبار التوتر البالغ في جنوب السودان، وما تردد (11 مارس) عن تدخل قوات أوغندية في الأزمة به لتفادي الانقلاب على سلفا كير، هذه الدعوى من شأنها أن تعمق من خسائر الإمارات في الإقليم بشكل كبير، وستستدعي ردًا إماراتيًا عنيفًا لحماية مصالح أبوظبي، لا سيما أن التصعيد الحالي في جوبا سيعني فشل الأولى في سياسة الاحتواء المزدوج/ المتعدد لأطراف الأزمات في دول القرن الإفريقي بشكل عام، ثم خسارة استثمارات إماراتية (في شكل دعم موازنات بالأساس) في عدد من نظم الحكم الحالية.
وفي حال مضى الخرطوم في بقية إجراءات الدعوى أمام محكمة العدل الدولية، وبغض النظر عن النتائج القانونية وقرارات المحكمة فيما بعد، فإن سمعة الإمارات ودبلوماسيتها ستصل لمستوياتها الدنيا في الإقليم، وسيكون مصير دورها في السودان التهميش الرسمي الكامل لصعوبة حدوث تراجعات حقيقية في مواقف البلدين.
مصر والتصعيد السوداني ضد الإمارات: تصحيح مسار
نفت التحركات المصرية الأخيرة في الملف السوداني (وعدد من الملفات الإفريقية في واقع الأمر) سردية متهافتة، من الوهلة الأولى، بوجود تنسيق مصري- إماراتي “متفق عليه” في السودان ولعب القاهرة وأبوظبي دور الشرطي الطيب والشرطي الشرير في أزمته. فقد وصلت الرؤيتان الإماراتية والمصرية إزاء الأزمة السودانية إلى نقطة تناقض كامل، أو ما بات يوصف في الميديا الغربية بالمعركة الخفية بين القاهرة وأبوظبي في السودان.
فقد واصلت مصر دون انقطاع، وإن بقوة دفع متفاوتة لأسباب داخلية وحسابات إقليمية حساسة، دعم مؤسسات الدولة السودانية ورؤية القوات المسلحة السودانية عمودًا فقريًا لتماسك السودان وسيادته واستقراره، وعززت القاهرة بشكل ضمني موقفها في رؤية هذه القوات طرفًا رئيسًا في إدارة وتسيير “المرحلة الانتقالية” التي تواجه عقبات منذ سقوط نظام البشير. بينما عمقت الإمارات رؤيتها للسودان (لا سيما بعد نهاية الحرب في اليمن) كمصدر لاستنزاف الموارد الخام الثرية سواء المعدنية أم الزراعية، وعبر توظيف ميليشيات الدعم السريع بشكل مباشر وموثق من قبل أطراف محلية ودولية.
وقد اكتسب الموقف المصري، الداعم للجيش السوداني ومجلس السيادة الانتقالي، أرضًا جديدة يومًا بعد آخر، لا سيما مع تراجع الإمارات نسبيًا عن سياساتها المهددة لمصالح القاهرة في السودان. وبينما يُفهم الموقف المصري في إطار السياسة المصرية التقليدية تجاه السودان والحفاظ على سيادته واستقلاله، فإن تراجع الموقف الإماراتي يأتي تحت وطأة الأدلة الأممية والأمريكية، الدالة بشكل لا لُبس فيه على دعم أبوظبي لميليشيات الدعم السريع، وتهافت النفي المتكرر الذي تبديه أبوظبي منذ إبريل 2023 لمثل هذه الاتهامات. وعلى سبيل المثال كان اتهام وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو للإمارات خلال جلسة استماع بمجلس الشيوخ (نهاية يناير 2025) “بالدعم العلني لكيان متهم بالقيام بإبادة” بمثابة ضوء أخضر لوصم الإمارات بالتهمة التي أعدتها الخرطوم في الدعوى أمام محكمة العدل، وكذلك تعزيز مسار السياسة المصرية في السودان.
كما كان تخلي مصر عن السياسة الحذرة في السودان (وبقية دول القرن الإفريقي مرحليًا) مؤثرًا بشكل ملموس على تغيير الإمارات سياساتها- شكليًا على الأقل- منذ العام الماضي؛ ويُتوقع أن تؤدي الدعوى السودانية أمام محكمة العدل الدولية إلى استجابة متناقضة من أبوظبي قوامها: خفض الخطاب العدائي الرسمي تجاه الجيش السوداني ومجلس السيادة الانتقالي، وربما اللجوء للقاهرة والرياض لتلطيف أجواء العلاقات بالغة التوتر مع السودان، للحيلولة دون مزيد من العداء الذي قد يفضي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين؛ بينما ستسعى الإمارات، كما دل على ذلك سلوك دبلوماسيتها في السنوات الأخيرة، لتقوية ميليشيات الدعم السريع، وما تعتبره حاضنة سياسية لها لتعظيم الضغط على السلطات الشرعية في السودان، ومواجهة تعاظم التأثير المصري (والسعودي الذي بات أكثر اقترابًا من مواقف القاهرة في الأسابيع الأخيرة مع إعلان الرياض صراحة في فبراير الفائت رفضها البت لأية حكومة موازية في السودان).
إجمالًا، تمثل خطوة السودان البدء في الدعوى ضد الإمارات واتهامها بارتكاب إبادة في البلاد ضد جماعة المساليت علامة فارقة على قرب قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، أو على الأقل استمرار تجميدها لأجل غير مسمى. ويضيف انفلات الأوضاع في جنوب السودان، ربما لغير صالح الرئيس سلفا كير حليف الإمارات الاستراتيجي في القرن الإفريقي في العامين الأخيرين، إلى خسائر الإمارات في الإقليم، ومؤشرًا على فشل مزمن في سياساتها فيه، وتعزيز صورتها كقوة زعزعة استقرار في السودان، كما الحال في التجارب في الصومال وجيبوتي وإريتريا. ويثير ذلك سؤالًا جادًا حول مستقبل سياسات الإمارات الإفريقية ومدى استنادها لقواعد مؤسسية دولتية تقليدية تحترم سيادة دول القارة بشكل حقيقي.