منذ أيام قليلة أصدر رئيس محكمة استئناف القاهرة المستشار محمد نصر سيد قرارًا بزيادة الرسوم القضائية أو المقابل المادي للخدمات التي تقدمها المحكمة للمحامين والمتقاضين بواقع 10%، حسب صيغة القرار المتداولة. وبمقتضى تفعيل القرار الجديد الذي حدد توقيع رئيس المحكمة عليه موعد سريانه بداية من مطلع الشهر الجاري، زاد المقابل المادي لـ33 خدمة تقدمها المحكمة، من بينها خدمة الشهادات من واقع الجدول، التي زادت رسومها من 55 جنيهًا إلى 60.5 جنيها للشهادة، وخدمة الحصول على صيغة تنفيذية من الأحكام التي وصلت إلى 242 جنيهًا، بعدما كانت 230 جنيهًا، كما شملت الزيادة الجديدة رسوم رفع الدعاوى وتقديم حوافظ المستندات، وغيرها من الخدمات المرتبطة بممارسة الحق في التقاضي بأكمله.
وإذ نص دستور جمهورية مصر العربية في مادته رقم 97، على أن التقاضي حق مصون ومكفول للكافة. وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي، وتعمل على سرعة الفصل في القضايا، ولدلالة ما نص عليه الدستور، من أن حق التقاضي هو حق للناس كافة تتكافأ فيه مراكزهم القانونية، وباعتبار أن التقاضي حق دستوري فلا يجوز جواز إرهاقه بعوائق منافية لطبيعته أو قصر مباشرته على فئة دون أخرى أو إجازته في حالة بذاتها دون سواها. كما أنه ومن زاوية دستورية مغايرة، وبحسب نص المادة 38 من الدستور المصري، فإنه لا يجوز إقرار أو تحصيل أي رسوم مالية إلا بقانون.
وإذ أنه لم يكن ذلك القرار هو الأول من نوعه، فقد سبقه العديد من القرارات المماثلة، ففي نهاية عام 2021، أصدر رئيس محكمة استئناف قنا القرار رقم 103 لسنة 2021 بشأن فرض رسوم على الخدمات التي تقدمها محكمة استئناف قنا على المحامين والمتقاضين، والذي قرر تعديل المقابل النقدي للرسوم والخدمات، وهو الأمر الذي دفع أحد المحامين بمحافظة قنا لرفع طعن أمام القضاء الإداري حمل رقم 10836 لسنة 30 قضائية شق عاجل ضد كل من وزير العدل بصفته ورئيس محكمة استئناف قنا بصفته لإلغاء القرار.
كما فعل ذلك العديد من السادة رؤساء محاكم الاستئناف، بإصدار مثل تلك القرارات بأنواع مختلفة، وقد كان للقضاء الإداري دور محترم في وقفه لتنفيذ مثل تلك القرارات. فقد سبق أن أصدرت محكمة القضاء الإداري بالمنصورة الحكم رقم 6955 لسنة 43 قضائية انتهت فيه إلى إلغاء قرار مدير إدارة النيابات بفرض رسوم على استخراج الصيغ التنفيذية وصور الأحكام ورسوم الإعلامات الشرعية ورسوم الشهادات من القلم المميكن، وبذلك الحكم يلغي تحصيل مبالغ مالية إضافية ورسوم على استخراج الأحكام وإعلامات الوراثة والشهادات، وقالت المحكمة في حيثياتها إن قرار مدير إدارة النيابات بنيابة الأسرة بالمنصورة المطعون فيه، فيما تضمنه من قواعد تنظيمية بشأن تطبيق نظام الخدمة الرقمية وميكنة دعاوى الأحوال الشخصية بنيابة الأسرة بالمنصورة، قد شابه عيوب جسيمة؛ نظراً لأن فرض الرسوم لا يكون إلا بناءً على قانون ويصدر من السلطة التشريعية، وأضافت أنه لا ينال من ذلك ما قد يثار من أن الهدف من القرار هو تنظيم مرفق القضاء بأساليب علمية حديثة وتكنولوجيا متقدمة، وذلك لأن الهدف وحده لا يكفي، بل يتعين أن تكون الوسيلة مشروعة، ولا يتأتى ذلك إلا بتدخل المشرع بزيادة الرسوم القضائية لتقرير مساهمة المتقاضين في نفقات خدمات مرفق القضاء، وبالتالي يغدو معه القرار المطعون فيه مخالفاً لصحيح حكم القانون، الأمر الذي يتعين معه والحال كذلك- القضاء بإلغائه.
وإذ أن الزيادة المتكررة في الرسوم القضائية سواء كانت رسوم رفع الدعاوى أو رسوم مباشرة على بعض الإجراءات من الأمور التعجيزية التي تثقل من مباشرة حق التقاضي ذاته، وتشكل حائلا بين غالبية المواطنين المصريين والولوج لمرفق القضاء لاقتضاء حقوقهم عبر السبل الشرعية المرسومة بموجب الدستور، وفي ظل المتغيرات الشديدة والمتلاحقة التي تمر بها الدولة المصرية خاصة في السنوات الأخيرة والشعور بعدم الاستقرار وفقدان الإحساس بالأمان، والقضاء المصري المحمل بالمشاكل والهموم المتمثلة في البطء الشديد في التقاضي والفصل في الدعاوى، وازدحام المحاكم وزيادة عدد القضايا وقلة عدد القضاة، فتأتي قرارات زيادة الرسوم لتمثل عبئا جديدا على عاتق المواطن، ما يجعل من التفكير في حلقات التقاضي للبحث عن العدالة واقتضاء الحقوق بشكل مشروع وسيلة غير مأمونة سواء من حيث زيادة الرسوم بداية، أو من خلال الرسوم التي تفرض بعد الفصل في الدعاوى. كما أن ذلك يتناقض مع مجانية التقاضي، وهو ما يعني أن تفصل المحاكم في الدعوى دون استيفاء أيّ أجر من المتقاضين، وأن تدفع الدولة مرتبات القضاة، وبتطبيق هذا المبدأ يصبح اللجوء إلى القضاء متاحا لجميع المواطنين بصرف النظر عن درجة ثروتهم أو مركزهم الاجتماعي، ومال البعض إلى أن هذه المجانية حقٌ حصريٌ لصاحب الحقِّ فقط دون الطرف الآخر مغتصب الحقِ أو منكره أو المماطل، لما في كون المجانية العامة تشجيع لإشغال المحاكم. وذلك المبدأ هو ما أكده القضاء الدستوري المصري في الحكم رقم 15 لسنة 14 قضائية دستورية، أنه “وحيث إنه إذ كان ذلك، وكان الالتزام الملقى على عاتق الدولة وفقا لنص المادة 68 من الدستور يقتضيها تمكين كل متقاض من النفاذ إلى القضاء نفاذا ميسرا لا تثقله أعباء مالية، ولا تحول دونه عوائق إجرائية، وكان هذا النفاذ- بما يعنيه من حق كل فرد في اللجوء إلى القضاء، وأن أبوابه المختلفة غير موصدة في وجه من يلوذ بها، وأن الطريق إليها معبد قانونا- لا يعدو أن يكون حلقة في حق التقاضي، تكملها حلقتان أخريان لا يستقيم بدونهما هذا الحق، ولا يكتمل وجوده في غيبة إحداهما”.
وإذ أن لحق التقاضي غاية نهائية يتوخاها، تتمثل في الترضية القضائية التي يناضل المتقاضون من أجل الحصول عليها لجبر الأضرار التي أصابتهم من جراء العدوان على حقوق يطلبونها، فإذا أرهقها المشرع بقيود تُعسر الحصول عليها أو تحول دونها، كان ذلك إخلالاً بالحماية التي كفلها الدستور لهذا الحق، وإنكاراً لحقائق العدل في جوهر ملامحها. وكلما ماطل المدين في أداء الحقوق التي كفلتها هذه الترضية، ودون أن يقهر على إيفائها، بعد أن صار سند اقتضائها مستوفياً قوة نفاذه، فإن إعمال مبدأ الخضوع للقانون يكون سراباً، ويغدو عبثاً كذلك تأسيس حقائق العدل وتثبيتها من خلال مباشرة السلطة القضائية لولايتها التي حدد الدستور والمشرع تخومها، وغايتها إيصال الحقوق لأصحابها، وحمل من ينازعون فيها إعناتاً على ردها إليهم، ولو باستعمال القوة عند الضرورة.
فهل تدفع مثل تلك القرارات المتكررة، إلى عزوف الناس عن اللجوء إلى ساحات القضاء، وذلك في ظل جعله مثله مثل السلع التي تتغير أسعارها بين الحين والآخر، وهو الأمر الذي جعل كلفة اللجوء إلى ساحات القضاء، لمن استطاع إلية سبيلا، وإذا يتبقى للمواطن حال عدم قدرته أو عجزه في الدفاع عن مصالحة عبر الطرق القانونية المشروعة، أسئلة كثيرة يجب أن تكون محل اهتمام أصحاب السلطة والقرار في هذا الوطن.