في مقال الأسبوع الماضي، ونحن نفكر كيف يواجه الفلسطينيون والعرب مشروع الترانسفير (التطهير العرقي للفلسطينيين) من أرضهم، قلنا إن احباط هذا المشروع ممكن، بشرط ألا يتعرض الصمود الفلسطيني لأي درجة من درجات الخذلان العربي، وأشرنا إلى أن لهذا الخذلان- الذي نخشاه- سوابق في كل مراحل القضية، وهي سوابق ساهمت بقوة في إجهاض نضال الفلسطينيين، بل وفي إلحاق خسائر فادحة بهذا النضال.
لعل أول أشهر الوقائع في تاريخ إضرار العرب أنفسهم بالموقف الفلسطيني هي واقعة قبول الهاشميين سرا لوعد بلفور، في اتفاقية وقعها كل من الأمير فيصل بن الشريف حسين، وحاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية عام ١٩١٩ في باريس، وقبل أعمال مؤتمر فرساي الشهير للصلح بعد الحرب العالمية الأولى.
واقعة الخذلان العربي الثانية لنضال الفلسطينيين، كانت في استجابة الملوك والزعماء لطلب بريطانيا إليهم التوسط لتهدئة (أي لإنهاء) الثورة العربية الكبرى ضد تكثيف وتوسع الهجرة والاستيطان اليهوديين، وذلك بتشجيع وتسهيلات من سلطات الانتداب البريطاني، والتي اندلعت عام ١٩٣٨، وتوالت مضاعفاتها طوال عامين تاليين، وذلك أيضا دون ضمانات كافية لتنفيذ تعهدات الكتاب الأبيض لعام ١٩٣٩ المترتب على أحداث تلك الثورة، وخاصة ما يتعلق بالحد من الهجرة اليهودية إلى ٧٥ ألفا فقط كل عام لمدة سنوات، ومنع اليهود من تملك المزيد من الأراضي العربية، إلا في مساحة من أراض الانتداب، لا تزيد عن ٥٪، إذ رغم أن غالبية الزعماء الفلسطينيين رأوا أن هذه التعهدات تُبقي الباب مواربا أمام استمرار تدفق المهاجرين اليهود، وأمام مزيد من استيلاء اليهود على أراضيهم، فإن المسئولين البريطانيين والزعماء العرب لم يستطيعوا الوفاء بهذه التعهدات، لأن الولايات المتحدة كانت قد دخلت على خط القضية الفلسطينية تأييدا للمشروع الصهيوني، وضغطت بشدة لإزالة أو تخفيف القيود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
أما الكارثة الأكبر في تاريخ الخذلان العربي للشعب الفلسطيني، فكانت خلال حرب عام ١٩٤٨ التي دخلتها الدول العربية بهدف معلن، هو منع قيام دولة إسرائيل (التي كان قد أعلن قيامها)، وذلك بعد أن رفض العرب في الأمم المتحدة وفي جامعتهم العربية قرار الجمعية العامة بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية، إلا أنه اتضح فيما بعد من الوثائق البريطانية، أن جميع هذه الدول كانت قد اتفقت سرا مع الدول الكبرى، وخاصة بريطانيا على أن لا تتجاوز جيوشها حدود المنطقة المخصصة للدولة العربية في قرار التقسيم الصادر من الأمم المتحدة، وهذا هو ما يفسر المآسي أو المهازل التي وقعت من العرب، وفيما بين العرب وضد العرب بعضهم البعض في ميدان القتال، وقد نشرت تلك الوثائق البريطانية في كتاب العروش والجيوش للأستاذ محمد حسنين هيكل.
إذن كان بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل محقا في نصيحته للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في بداية فترته الرئاسية الأولى- كما أشرنا في المقال السابق- بألا يهتم بالمواقف والقرارات العلنية للزعماء العرب، لأنهم يحبون ويدمنون الهمس في الظلام بمواقفهم الحقيقية.
تأسيسا على ذلك، فمن المحتمل بنسبة كبيرة ألا تكون قرارات قمة القاهرة الأخيرة هي الكلمة النهائية والموقف الأخير من مشروع الترانسفير أو التهجير الجماعي، أو بمعنى أصح التطهير العرقي للفلسطينيين، ليس من غزة فقط، لكن وهذا هو المطلب الأكثر إلحاحا من الضفة الغربية، تنفيذا لما أطلقنا عليه في المقال الأول من هذه السلسلة بحل ترامب النهائي للمسألة الفلسطينية، ولكنه ليس الحل النهائي بالمعني الإيجابي، ولكن بالمعنى السلبي، أسوة بنظرية الحل النهائي النازي للمسألة اليهودية، أي المحرقة أو الهولوكوست، مع استبدال المحرقة بالتطهير العرقي الشامل، أو الإبادة الجماعية، كما يحدث في غزة.
نحن نعلم، أن قمة القاهرة رفضت مبدأ ترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة بذريعة تسهيل إعادة الإعمار، الذي كان قد اقترحه الرئيس ترامب، وأن هذه القمة قد تبنت الخطة المصرية لإعادة الإعمار، ولإدارة غزة بعد الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار، وأخيرا على شق مسار لإقامة الدولة الفلسطينية، وفقا لمبدأ حل الدولتين، لكننا نعلم أيضا، أن تقارير عديدة منسوبة إلى مصادر عليمة تحدثت عن تحفظات من دولة الإمارات العربية المتحدة على الرفض المطلق الجامع المانع لمبدأ هجرة (أو تهجير) الفلسطينيين طوعا أو كرها، بحيث يبقى باب الهجرة الطوعية مفتوحا، وبالطبع فمع الديناميات والإغراءات وضغوط الاحتلال بالعنف الدموي والقمع والحرمان الاقتصادي، فلن يكون هذا الطوعي محدودا، ولكنه سيصبح بلا حدود، ولن يبقي الأمر مقصورا على غزة، ولكنه سيمتد إلى الضفة لا محالة.
أحدث التقارير الواردة من واشنطن على موقع ميدل إيست آي يوم الثلاثاء الماضي، تقول إن الإمارات تضغط هناك من أجل عدم تبني الخطة المصرية.
وتأتي أهمية هذه التقارير، مما يسمى باللحظة الخليجية، وهذا مصطلح صكه أستاذ علوم سياسية إماراتي؛ ليؤصل من خلاله ملاحظة انتقال مركز قيادة الأمة العربية من دول الأنهار والثقل السكاني، والأزمات الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي (أي مصر وسوريا والعراق) إلى دول النفط والوفرة والاستقرار أي دول الخليج، ومن ثم انتقال عملية صنع القرار، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والعلاقات مع إسرائيل إليها، خاصة على خلفية فشل تلك الدول النهرية في مواجهة إسرائيل، و الحصول للشعب الفلسطيني على حقوقه.
وأحدث التطورات هي استئناف إسرائيل حرب الإبادة في غزة منذ فجر الاثنين، وإعلانها انتهاء وقف إطلاق النار، وتأييد الرئيس ترامب العلني لاستئناف هذه الحرب، وعودة الوزراء اليمنيين الغاضبين من وقف إطلاق النار السابق إلى حكومة نتنياهو… وهي كلها تطورات تنذر، بأن التالي أسوأ، وربما يبدأ تنفيذ مشروع الترانسفير بأسرع كثيرا مما نتوقع.
على أية حال، ربما نكون قد عرفنا المزيد قبل كتابة المقال التالي.
اقرأ أيضا : الترانسفير.. أو هولوكوست الفلسطينيين ا- حل ترامب النهائي في الشرق الأوسط
اقرأ أيضا: الترانسفير.. أوهولوكوست الفلسطينيين ٢- ماذا يفعل العرب؟