استأنفت إسرائيل عدوانها على قطاع غزة وقتلت في يومين حوالي ألف فلسطيني وأصابت مئات آخرين ومسحت عائلات بأكملها من السجلات المدنية، واستهدفت عددا من قادة حماس في مقابل مئات المدنيين من الأطفال والنساء.
والحقيقة أن قرار إسرائيل بعدم الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار كان واضحا منذ الأسبوع الماضي ولم يفرق معها لا مؤتمر قمة عربي ولا خطة مصرية لإعادة إعمار غزة ولا حتى رهائنها المهددين.
والحقيقة أن هذه العودة الإسرائيلية للعدوان لم تأت من فراغ إنما هي نتاج حسابات دولية وإقليمية كانت كلها في صالح إسرائيل ولم تقرأها حماس جيدا فكان قرار استئناف الحرب محسوب إسرائيليا بدقة في محاولة أخيرة لتحقيق أهدافها التي لم تستطع تحقيقها طوال ١٥ شهرا من الحرب الأولي وهو اجتثاث حماس وتحرير الرهائن.
والحقيقة أن إسرائيل عادت للعدوان مرة أخري بعد أن تأكدت أن ترامب أعطاها الضوء الأخضر دون أي قيود ولو محدودة كما فعلت إدارة بايدن، وكما سبق وقال يجب على إسرائيل أن تنهي عملها في غزة، كما إنها تعلم حجم الضعف العربي والدولي وعجز منظمات الأمم المتحدة والشرعية الدولية عن ردع إسرائيل أو محاسبتها على جرائمها المتتالية.
يقينا كانت إسرائيل ستعيد حساباتها مرة أخري قبل استئناف عدوانها لو كانت تشعر بأن العرب سيردون عليها بقوه ولو على الساحة الدولية والقانونية، وسيستخدمون كل إمكاناتهم الاقتصادية والسياسية لدفعها إلي وقف العدوان، ولكن دولة الاحتلال تعلم أن الدول العربية لن تشارك في خيار “الردع المدني” متمثلا في الحملات القانونية والسياسية والإعلامية في مواجهه جرائم الاحتلال وأصبح وزنها الدولي في الدفاع عن القضية الفلسطينية محدودا مقارنة ببلدان غير عربية مثل جنوب إفريقيا وبعض دول أمريكا الجنوبية، بل وبعض البلدان الأوربية مثل اسبانيا وأيرلندا.
إسرائيل تعرف قدرات العالم العربي العملية في دعم القضية الفلسطينية وحدود تأثيره الدولي، وتعرف أيضا حجم مشاكله الداخلية الاقتصادية والسياسية التي تجعل قدرته على الضغط الإعلامي والقانوني على دولة الاحتلال في حدوده الدنيا.
إن إسرائيل تعرف أيضا أنها دولة محصنة فوق القانون الدولي، وهي تتمتع بدعم عسكري واقتصادي وسياسي هائل من قبل أكبر دولة في العالم أي الولايات المتحدة، وهي متيقنة أنها فوق المحاسبة مهما كان حجم جرائمها، كما أن قرارات الشرعية الدولية يمكن أن تطبق بشكل انتقائي حسب المزاج الأمريكي على الجميع، ولكن إلا على إسرائيل.
دولة الاحتلال تعرف أنها الوحيدة في العالم التي يمكنها أن تقتل الأطفال والنساء دون حساب، وتعرف جيدا أوزان خصومها وقوتهم الحقيقية على الأرض حتى لو رفعوا شعارات الرفض والإدانة لسياساتها وأطلقوا حملات إعلامية للاستهلاك المحلي ضد سياساتها، ولكنهم “ساعة الجد” لا يرغبون في إغضابها، كما أنها تعرف حقيقة من يرفضون سياستها في العلن وينسقون معها في السر، وهي أخيرا تعرف قوة جماعات الضغط المؤيدة لها وخاصة في أمريكا والدول الأوربية الكبرى (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) وبناء على كل هذه الحسابات تمارس جرائمها منذ ما يقرب من عامين دون حساب أو قوة ردع.
استئناف العدوان الإسرائيلي جاء بعد إن ترسخت لدى دولة احتلال اقتناع أنها أصبحت دولة متجبرة فوق القانون والمحاسبة، في مقابل ذلك فإن حماس أخطأت في حساباتها وقراءتها للتحولات التي حدثت في العالم بعد عودة ترامب للحكم، ولم تع وقع الاستعراض المسلح الذي أقامته أثناء عملية تبادل الأسري على المزاج اليميني المتطرف الحاكم والمسيطر في إسرائيل والمدعوم أيضا من يميني متطرف آخر في البيت الأبيض.
إن مشهد استجواب الأسري “على الهواء” من خلال مكبر صوت لم يكن هناك أي مكسب من ورائه، ليس بسبب أن الإسرائيليين يعاملون الأسري الفلسطينيين بحد أدني من الإنسانية واحترام القوانين الدولية، إنما لأن الحسابات يجب أن تنطلق مما إذا كان سيفيد هذا التصرف المقاومة، وسيحقق لها هي مكاسب سياسية أم لا؟ وهل تحتاج حماس في هذا الوقت أن تظهر كقوة مسلحة في العلن أم تحتاج أن تظهر كقوة مدنية يختفي ما تبقي من قوتها العسكرية في الظل؟
لا تحتاج حماس أن تكتب على لافته أنها ستكون حاضرة في اليوم التالي لوقف الحرب إنما تحتاج أن تجد صيغة جديدة تضمن لها حضورا غير مباشر في مسار اليوم التالي، الذي توافق الجميع بما فيهم الحركة نفسها على أنها لن تكون جزءا من إدارة غزة في حال توقفت الحرب، فلِما الاستعراض وكتابة العكس على لافته دعائية.
ستستمر إسرائيل في عدوانها بعد أن تأكدت من صمت الجميع ودعم البعض، وأنها باتت قوة باطشة، وصرنا نحتاج إلى معجزة لكي تتوقف آلة القتل الإسرائيلية، وأصبحت حماس مطالبة أن تقدم مزيدا من التنازلات المؤلمة وأخشي أن تضطر إلي الإفراج عن الرهائن دون أي ضمانات لوقف إطلاق النار.
إذا قدر لهذه الحرب أن تتوقف قريبا فإن حماس يجب أن تقبل بإنهاء وجودها السياسي والعسكري وأن تتحول لقوة معنوية كامنة ومخفية تدرس مع المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية كل أبعاد عملية ٧ أكتوبر “ومالها وما عليها” وتستعد مع جيل فلسطيني جديد يتجاوز انقسام فتح وحماس لخوض معركة المقاومة المدنية والسلمية مع حلفاء كثر ظهروا في العالم كله.