انقلبت إسرائيل على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.

خرقت الهدنة، وأطاحت بأية فرصة لاستدامة وقف إطلاق النار.

الاتفاق فرضه “دونالد ترامب” قبل دخوله البيت الأبيض مجددا.

والانقلاب جرى بضوء أخضر أمريكي معلن.

“إنها مجرد بداية”.

كان ذلك إعلانا بنوايا رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” إثر العودة إلى الحرب، وسقوط مئات الشهداء والضحايا، أغلبهم من النساء والأطفال.

“لا مفاوضات بعد الآن إلا تحت النار”.

وكان ذلك إعلانا آخر، بأن أية عودة للمحادثات سوف تكون حصة في الإملاء السياسي لا مفاوضات مفترضة بين طرفين.

وهذا ما لن تقبله المقاومة الفلسطينية تحت كل الظروف.

لم تكن هناك مفاجأة في العودة إلى الحرب والتفاوض تحت النار، حتى تذعن “حماس” لمقتضى ما يطلق عليه “نتنياهو” النصر المطلق!

ما الذي استجد إذن هذه المرة؟

إنه توظيف المستجدات والمتغيرات في الأوضاع الإقليمية؛ لتحقيق ما فشلت فيه إسرائيل على مدى خمسة عشر شهرا من حربي الإبادة والتجويع.

تقوضت جبهة الإسناد بخروج حزب الله من معادلات المواجهة وسقوط سوريا، التي كانت الممر الرئيسي للسلاح إلى المقاومة اللبنانية عبر الحدود، وبقي الحوثيون وحدهم يطلقون الصواريخ الباليستية من اليمن على مواقع إسرائيلية، ويرد الأمريكيون بالنيابة.

هذا متغير رئيسي في قواعد الحرب المستأنفة على غزة.

نحن أمام عالم عربي متهالك أقصى ما يستطيعه استصدار بيانات، تندد بالعدوان دون امتلاك ناصية الفعل، أو القدرة على الردع.

وأمام نظام دولي مترنح لا موضع فيه لأي كلام جدي عن القانون الدولي الإنساني، يتابع ويدين دون قدرة على عقاب، أو وقف المآسي الإنسانية المروعة.

كان صعود “ترامب” مجددا للرئاسة الأمريكية متغيرا جوهريا، إداراته كلها تقريبا صهيونية متشددة، لا يملك رؤية لأي سلام قابل للحياة، يقول الشيء وعكسه في اللحظة ذاتها وتحكمه نوازعه لعقد الصفقات على حساب أي معنى وقيمة إنسانية.

استهدفت العودة إلى حربي الإبادة والتجويع إنهاء اتفاق وقف إطلاق النار بذريعة، أن “حماس اختارت الحرب”، كما يردد البيت الأبيض والحكومة الإسرائيلية بصوت واحد دون أدنى احترام للاتفاق الموقع بنصوصه والتزاماته ومراحله.

لم يخف “نتنياهو” في أية لحظة نيته التحلل من أية التزامات، أو انسحابات من قطاع غزة تقرها مرحلته الثانية؛ خشية تفكك حكومته اليمينية المتطرفة، ويجد نفسه مدانا في تحقيق رسمي بمسئوليته السياسية عن الفشل الذريع في أحداث السابع من أكتوبر (2023)، وقد يدخل السجن بتهمتي الفساد وتلقي الرشى.

إنها حرب “نتنياهو” أولا.. وحرب اليمين الصهيوني المتطرف بنفس القدر لفرض أجندته للتهجير قسريا أو طوعيا، وفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية.

تجنب أي انهيار محتمل للحكومة عند إقرار الموازنة العامة، الذي اقتربت مواعيده هدف رئيسي.

بقوة القانون: عدم إقرار الموازنة العامة يفضي مباشرة إلى إقالة الحكومة.

عودة وزير الأمن القومي اليميني المتطرف “ايتمار بن جفير” إلى التشكيل الحكومي متحمسا للحرب ومرحبا بها هدف آخر لـ”نتنياهو”، يرمم به جبهته السياسية المتصدعة، حيث تعارض أعداد متزايدة من الرأي العام الإسرائيلي وقف مفاوضات تبادل الأسرى والرهائن والعودة إلى الحرب.

لا يتوافر لهذه الجولة من الحرب إجماع إسرائيلي معتاد في مثل هذه الظروف.

إنها معضلة قد لا تسمح بأية مغامرات إضافية، أو تضع عليها قيودا يصعب تحديها.

هناك مخاوف واسعة داخل الرأي العام الإسرائيلي من انقلاب مؤشراته حاضرة على طبيعة الدولة من دولة، تصف نفسها، بأنها ديمقراطية إلى دولة يهيمن عليها يمين فاشي.

كانت إقالة رئيس الشاباك في ملابساتها وتوقيتها تعبيرا عن فجوة الثقة الواسعة التي تفصل الحكومة عن أجهزتها الأمنية والقضائية.

القفز في الهواء للبقاء في السلطة لا تصلح لخوض حرب بلا نهاية، وارتكاب كل جرائم الحرب اعتمادا على الدعم الأمريكي وحده.

“نحارب حماس لا أهالي غزة”.

كان ذلك تصريحا للمتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية أراد به التدليس على الجرائم التي ارتكبت في اليوم الأول من الحرب والمرشحة للاتساع والتفاقم، إذا ما تقرر خوض حرب برية والسيطرة على أية مواقع تُحتل بلا استعداد لأي انسحاب.

تحت النيران تبدت ذريعة رئيسية لاستئناف الحرب: رفض “حماس” إطلاق الأسرى والرهائن الإسرائيليين، وأنها تستخدم المساعدات الإنسانية لإعادة تسليح نفسها، كأنه ليس هناك اتفاق موقع.

السؤال الحقيقي: أي الأطراف ترفض الالتزام بالاتفاق وتخترق نصوصه والتزاماته ومواقيته؟

إنها إسرائيل وحدها.

ليست “حماس” على وجه الإطلاق.

في حقيقة الأمر، فإنهم يطلبون من “حماس” أن تنهي بنفسها وجودها عسكريا وسياسيا وإداريا في قطاع غزة، أو أن تسلم الأسرى الإسرائيليين بأقل الأثمان السياسية.

بنص تصريح مسئول أمريكي لمحطة “سي. إن. إن”، فإنه يمكن وقف الهجوم، إذا وافقت “حماس” على إطلاق مزيد من الرهائن قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية.

يكاد يتلخص الارتباك الأمريكي في رجلين، كلاهما يهودي ثري من أصدقاء “ترامب”، أوكلت إليهما مهمات جوهرية في إدارة الأزمة.

أولهما، “آدم بولر” مبعوثه الخاص لشؤون الأسرى والرهائن، الذي فتح حوارا مباشرا مع “حماس” في الدوحة، بتفويض مسبق من “ترامب” نفسه.

كان ذلك تطورا إيجابيا يتسق مع طبيعة “ترامب” رجل الصفقات، الذي يفضل إجرائها مباشرة لا بالوساطة، لكنه اضطر إلى إقالته بعد التصريحات، التي بثتها محطة الـ”سي. إن. إن”، ووصف فيها مفاوضي “حماس”، بأنهم “لطفاء”.

الأخطر: “لسنا وكلاء لإسرائيل”.

بدت الإقالة بذاتها تعبيرا صريحا عن قوة اللوبي الصهيوني في الحزب الجمهوري والإدارة الأمريكية بأكثر، مما كان عليه بأية إدارة سابقة.

لم يكن مقبولا إضفاء أية صفات إنسانية على الفلسطينيين كلهم، “حماس” بالذات.

وثانيهما: “ستيف ويتكوف”، مبعوثه الخاص إلى أزمتي غزة وأوكرانيا، الذي تفوق صلاحياته وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي معا.

كان مستلفتا أن “ويتكوف”، الذي نجح في إبرام الاتفاق، قبل صعود “ترامب” إلى البيت الأبيض، تولى بنفسه هدم صدقيته واحترامه.

اقترح تمديد المرحلة الأولى حتى انتهاء شهر رمضان والأعياد اليهودية، بمعنى ألا تكون هناك مرحلة ثانية الآن، ولا في أي وقت منظور، مقابل إطلاق سراح عدد من الأسرى وبعض الجثث.

إنه بالضبط اقتراح “نتنياهو”، لكنه زاد أعدادا أخرى من الرهائن الأحياء والجثث.

لا حدود لمطالب “نتنياهو”، الذي يحارب بعضلات أمريكا لا بقدرات إسرائيل.

يقول: “إنه يعيد الآن رسم خرائط الشرق الأوسط”.

الأخطر أن “ترامب” هدد إيران بشن حرب عليها قائلا: “إنه سوف يعتبر أية رصاصة تطلق من الحوثيين، كأنها من إيران مباشرة”.

في نفس التوقيت، طلب من الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” دورا ملموسا لمنع إيران من حيازة السلاح النووي، أو ألا تمثل تهديدا لإسرائيل.

المقاومة الفلسطينية تحارب أمريكا وحدها.

المهمة ثقيلة لكنها إجبارية.