استضافت العاصمة القطرية الدوحة (18 مارس الجاري) لقاء قمة بين رئيسي رواندا بول كاجامي وجمهورية الكونغو الديمقراطية فليكس تشيسيكيدي، (كانت مقررة في الدوحة في ديسمبر الماضي قبل إلغائها على نحو مفاجئ) لمناقشة الأزمة بين بلديهما في شرقي الكونغو بعد ماراثون فاشل من الجهود الإقليمية الإفريقية؛ للتوصل لتسوية مرضية للطرفين، بخصوص هذه الأزمة، وكان آخرها قمة مشتركة لوزراء خارجية دول جماعة شرق إفريقيا (EAC)، ومجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية (SADC) استضافتها العاصمة التنزانية دار السلام (16-17 مارس)، انتهت دون إحداث أي اختراق يذكر. وبغض النظر عن تفاصيل قمة الدوحة ومخرجاتها، فإن لقاء كاجامي وتشيسيكيدي يمثل في حد ذاته حلحلة كبيرة في الأزمة بين البلدين وانفتاح أفق إطلاق عملية سياسية بضمانات معقولة، لا يمكن فصلها عن تبني كينشاسا خيار التقارب مع واشنطن ومنحها امتيازات تعدينية غير مسبوقة مستقبلًا مقابل دعم الولايات المتحدة لنظام تشيسيكيدي، وهو الأمر الذي سيمثل تغييرًا كبيرًا في حالة الأزمة حال مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاستجابة العاجلة لرؤية كينشاسا.
بيان الدوحة: قراءة أولية
نتج عن القمة الثلاثية في الدوحة صدور بيان مشترك وضع مجمل القمة في إطار “الجهود المبذولة لتهدئة الوضع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية”، مع ترحيب قادة الدول “بالتقدم المحرز في عمليتي لواندا ونيروبي” (بمناقضة مواقف رواندا الرافضة بالأساس حتى منتصف مارس الجاري لأهم بنود العمليتين المشار لهما، وتشترط محادثات مباشرة بين كينشاسا وجماعة 23 مارس المتمردة)، وكذلك القمة المشتركة لمجموعة دول شرق إفريقيا ومجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية التي انعقدت في دار السلام بتنزانيا، في 8 فبراير 2025، (والتي كانت تهدف لعقد لقاء قمة بين كاجامي وتشيسيكيدي خلال طور انعقادها)، ولفت البيان إلى تأكيد “قادة الدول التزام جميع الأطراف بوقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، كما هو متفق عليه في القمة المذكورة. واتفق قادة الدول على الحاجة لاستمرار المناقشات التي بدأت في الدوحة لبناء أسس متينة من أجل تحقيق السلام المستدام، كما هو موضح في عمليتي لواندا ونيروبي، اللتين تم دمجهما”. ولفت البيان المقتضب إلى مساهمة القمة في “بناء الثقة بين الدولتين والالتزام المشترك بمستقبل آمن ومستقر لجمهورية الكونغو الديمقراطية والمنطقة.”
وربما تكون النقطة الأبرز في البيان أشارت، إلى أن القمة بمثابة إجراء لبناء الثقة بين الرئيسين، دون تضمين مخرجات تتجاوز هذه النقطة مرحليًا. وكشفت تصريحات الرئاسة الرواندية عقب القمة عن جانب من هذه الإشكالية. فقد أوضحت مناقشة القادة “الحاجة الملحة لحوار سياسي مباشر بين كينشاسا وحركة 23 مارس كمدخل رئيس لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع”، وهو تمسك واضح من قبل كيجالي بمواقفها السلبية من عمليتي نيروبي ولواندا، وضغط أكبر في اتجاه فرض خيارات سياسية على كينشاسا بالتفاوض مع حركة 23 مارس (التي تدعمها رواندا سياسيًا ولوجستيًا وتنسق معها في العمليات العسكرية داخل شرق الكونغو، حسب تقارير أممية لها وزنها) بعد قبول أكبر من قبل قوى إقليمية لهذه الفكرة، كما اتضح في القمة المشتركة لمجموعة دول شرق إفريقيا ومجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية المشار لها في البيان. كما لفت كاجامي، بعد القمة، إلى مناقشة الحاجة لمعالجة مسألة الجبهة الديمقراطية لتحرير رواندا المكونة إثنيًا من الهوتو (والمتورطة في جرائم إبادة بحق التوتسي الذين ينتمي لهم كاجامي)، وتقديم كينشاسا الضمانات الأمنية اللازمة لرواندا وبقية الإقليم.
وتكشف مواقف الرئاسة الرواندية التي تلت القمة مباشرة عن تفريغ بيان الدوحة من مضمونه (باستثناء اعتباره نقطة لإعادة بناء الثقة، مع الإقرار بالحاجة لمزيد من الجهود في هذا المسار)، بينما لم ترد من كينشاسا تعليقات إضافية على البيان حتى الآن.
قطر ومصالحها الإفريقية: ما الجديد؟
باتت الوساطة القطرية، التي تصفها المادة السابعة من دستور قطر كأولوية رئيسة في صنع السياسة الخارجية، وشهدت مأسسة أكبر منذ العام 2023، مثالًا ذائعًا في العديد من القضايا الإفريقية بعد تجارب قطرية متفاوتة المخرجات مثل الوساطة بين إريتريا وجيبوتي (2011)، السودان (فبراير 2013)، ليبيا (نوفمبر 2015)، الصومال وكينيا (مايو 2021)، الصومال (سنوات متفرقة آخرها في يناير 2024). ويمكن وضع وساطة قطر في أزمة شرقي الكونغو في سياق جهود الدوحة الحثيثة للعب أدوار أكثر أهمية في القارة الإفريقية، لا تنفصل بطبيعة الحال عن ارتباطاتها الدولية ومصالحها المرتقبة في إفريقيا.
وعند النظر إلى مجمل الوساطات القطرية (وأبرزها مؤخرًا، ما تم بين طالبان وواشنطن، والأزمة في غزة حاليًا بتنسيق مع القاهرة) في سياق أشمل، يلاحظ أنها تمثل ذراعًا دبلوماسيًا فاعلًا في الملفات التي تهم الولايات المتحدة وعدد من حلفائها، وتتسق بشكل واضح مع حزمة أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، وتعمل كرافعة مهمة لدى “الأطراف الأخرى” في هذه الوساطات؛ الأمر الذي يمكن إطلاقه على جهودها الحالية في الوساطة بين كيجالي وكينشاسا، والتي يبدو أنها تحظى بغطاء أمريكي مستجد.
وتملك قطر علاقات متميزة للغاية مع رواندا، تعززها استثمارات هامة لاسيما في قطاع النقل الجوي. كما تملك علاقات وطيدة مع نظام تشيسيكيدي، الذي حل ضيفًا على الأمير القطري في يناير 2025 لمناقشة ملفات الاستثمارات القطرية في الكونغو وإفساح الطريق لشراكات بين البلدين، تتيح مكاسبة جمة لهما. وحسب خبراء، فإن جهود قطر الوساطية تلك تستهدف تحقيق حزمة من الأهداف: في حالة الكونغو تستهدف الدوحة، أن تكون منصة استراتيجية لمعالجة الصراع الراهن، ومن ثم تكون صاحبة دور واضح في مجمل الأوضاع في وسط إفريقيا وشرقها، إضافة إلى تعزيز قدرات قطر في الاستثمار في الكونغو بشروط تفضيلية (كما يتضح من نزوع كينشاسا لانتهاج هذا المسار ترضية لدول كبرى وإقليمية؛ كي تساهم في وقف تدهور الوضع في البلاد). أما في حالة رواندا، التي تمثل شريكًا اقتصاديًا هامًا لقطر ي إفريقيا، فإن المقاربة القطرية تعول على تعميق هذا التعاون وتحقيق نوع من الاستقرار، يتيح تنفيذ العديد من الاتفاقات الاقتصادية الموقعة بين الدوحة وكينشاسا في أغسطس 2024، وتشمل التعاون الاقتصادي والتجاري والتقني وقطاع النقل الجوي.
وهكذا تبدو الوساطة جهدًا هامًا لتعميق مصالح قطر في الإقليم، وكذلك خدمة أدوار أخرى وثيقة الصلة بتوجهات قطر الخارجية المتسقة تمامًا مع نظيرتها الأمريكية.
ما بعد الدوحة.. لا أفق للتهدئة
جاءت قمة الدوحة فيما كانت جمهورية الكونغو الديمقراطية، تستعد للدخول في محادثات مباشرة مع حركة 23 مارس في الأيام المقبلة في أنجولا لمناقشة “وقف إطلاق النار”، وهي الجولة التي انسحب منها قادة حركة 23 مارس “في اللحظات الأخيرة بعد صدور قرار من الاتحاد الأوروبي (17مارس) بفرض عقوبات على قادة الحركة.
وبغض النظر عن فرضية بيان الدوحة بدمج عمليتي نيروبي ورواندا، واستئناف محادثات وقف إطلاق النار بين البلدين، فإن قراءة المشهد الحالي تشير إلى تصعيد عملياتي مرتقب؛ حيث أن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الحركة، لم تكن الأولى من نوعها، كما أن الانسحاب من محادثات أنجولا يمثل ضربة قاصمة للمرونة التي أبدتها كينشاسا بقبول التفاوض المباشر مع الحركة، وربما يمثل دفعة لتراجع كينشاسا عن موقفها. كما أن تعميق دور أوغندا– إلى جانب الدور الراسخ لرواندا- في تغذية الصراع في شرق الكونغو يؤشر إلى عدة ملاحظات:
أولًا- عجز الاتحاد الإفريقي والتجمعات الإقليمية الفرعية في شرق إفريقيا وجنوبها عن فرض عملية سياسية على طرفي الصراع، وأن دور أوغندا يعمق بشكل واضح هذا العجز، ويكمل الدور الرواندي الرافض لأية تسوية دون شروط تعجيزية، تنتقص من سيادة جمهورية الكونغو على أراضيه وحدوده.
ثانيًا- أن توجه رواندا وأوغندا معًا– حسب تقارير أممية مثبتة- لاستغلال الفوضى في شرق الكونغو؛ لنهب موارده التعدينية وإعادة تصديرها في الأسواق الدولية “غير الرسمية”، يؤشر إلى توقع استدامة الأزمة في شرق الكونغو وتكريسها لاستمرار هذا النهب المربح.
ثالثًا- حدوث تغييرات سياسية خطيرة في إقليم البحيرات الكبرى (وحوض النيل)، تهدد ثاني أكبر الدول الإفريقية مساحة، والتي لا تزال تتبنى موقفًا داعمًا لمصر وحقوقها التاريخية في مياه نهر النيل، الأمر الذي قد يستدعي مخاوف مفهومة في القاهرة من مجمل هذه التغيرات.
رابعًا- الجنوح إلى تهميش متزايد لدور الاتحاد الإفريقي (ولا سيما مجلس السلم والأمن) في مقاربة الأزمة، والاكتفاء بترقب المواقف الدولية في حسم مستقبل جمهورية الكونغو الديمقراطية.
إجمالًا، مثلت قمة الدوحة بديلًا مرحليًا لعجز العمل الجماعي الإفريقي عن جمع كاجامي وتشيسيكيدي، وأثارت تفاؤلًا لحظيًا؛ كونها قمة “مفاجئة” في وقت تصاعد التوتر والعنف في شرقي الكونغو منذ استيلاء ميليشيات 23 مارس على مدينتي جوما وبوكافو، والتهديد بالتوجه نحو العاصمة كينشاسا. لكن الاستجابات التي أبداها كاجامي وقادة الحركة، وكذلك مواقف دول مثل أوغندا، لا تعزز فرضية تحقيق تهدئة مرتقبة في هذه الأزمة، بل ربما تؤشر قراءة المشهد بأكمله، في حالة عدم تقديم إدارة ترامب خطة عمل في الكونغو، تقوم على استغلال الموارد مقابل تقديم دعم سياسي، إلى مزيد من التدهور وتوسع الصراع لمراحل جديدة.