لم يكن أحد يتوقع، أن تصل الدولة إلى هذا المستوى من الزيادات المتكررة في الرسوم القضائية، سواء كانت رسوم رفع الدعاوى، أو رسوم الحصول على الخدمات القضائية المرتبطة بمسايرة العمل القضائي، أو وفق الاعتبارات الحكومية، ميكنة القضاء، إذ بقرار مفاجئ من رئيس محكمة استئناف القاهرة، تم رفع كافة الرسوم بصورة غير مسبوقة، وبأرقام متضاعفة على كافة الخدمات القضائية، حتى ما كان منها معفيا من الرسوم، مثل قضايا العمال، أو قضايا الأحوال الشخصية، وهي نوعية من التقاضي ذات حساسية خاصة، أو ظروف اقتصادية تكاد تكون منعدمة لدى ذويها، وهو ما يعني أنهم ذوو حاجة ملحة؛ لأن يكون التقاضي لهم بالمجان، لكن القرارات التي صدرت، لم تترك شيئا لأي اعتبارات، وليس لها سوى اعتبار وحيد، يتلخص في استمرار رفع الدولة يدها عن الخدمات المقدمة من المواطنين.
ولما كانت تلك القرارات، وعلى الرغم من إبطال العديد من أحكام محاكم القضاء الإداري لهذه النوعية على مدار السنوات الثلاث لماضي، ألا شيء هناك في أفق الحكومة سوى المضي قدما نحو تحرير القضاء، من أن يكون جهة ذات حساسية لصالح العدالة، وليست جهة تحقيق منافع اقتصادية، أو حتى تحقيق الاكتفاء المالي الذاتي لكل محكمة، فقد ظهر في الأفق المقابل ومن الجهة الثانية للتعامل القضائي، وهي نقابة المحامين موقف نضالي، قد ينتج أثراً في هذا السجال الغير منضبطة حدوده.

إذ قد أعلنت نقابة المحامين منذ أيام قليلة انعقادها الدائم واستمرار التواصل مع القيادات السياسية؛ لوقف نفاذ هذا القرار وإلغائه، كما أعلنت موقفا تصعيديا، من قبيل نوعية العصيان المدني، وهو موقفها بمنع التعامل مع الخزينة داخل أبنية المحاكم.
على مستوى جمهورية مصر العربية، كخطوة تصعيدية حقيقية من قبل نقابة المحامين، وذلك لكون هذا القرار، بما صدر به من رسوم لا يستطيع تحملها الفئات المتوسطة من الشعب المصري، التي أنهكتها زيادات الأسعار على كافة لمستويات، وباتت حياتها على محاف الخطر؛ بسبب عدم مقدرتها على مواجهة تلك القرارات، وهو الأمر الذي يدفع غالبية فئات الشعب إلى الاستغناء عن العديد من الخدمات الحيايتية، بما يسمح لها بالبقاء على قيد الحياة مع الحرمان، لكن مع الزيادات المتكررة، فإن الأمر قد لا يكون محل احتمال، وهذا ما ينعكس بطبيعة الحال على الخدمات القضائية، كما أنها تؤثر على طبيعة عمل مهنة المحاماة، وذلك لكون تلك القرارات سوف تؤثر على عدد المتقاضين في القضايا المدنية، بما يؤثر على مستوى دخل المحامين.
هذا بخلاف أن هناك دورا تاريخيا معروفا ومشهودا به لنقابة المحامين، حتى وإن قل أو تم تهميشه خلال السنوات الماضية، فلم يتبق لها أثر أو شأن كبير في القضايا ذات الطابع القومي أو الماسة بالحقوق والحريات، إلا أن ذلك لن يمنع وقوفها ضد مثل تلك القرارات الجبائية، وهو الأمر الحاصل بشكل جدي من مجلس النقابة العامة للمحامين، وكذلك مجالس النقابات الفرعية، والتي أعلن معظمها، أنه في حالة انعقاد دائم حتى حل تلك المشكلة، وذلك بخلاف العديد من الدعاوى القضائية التي تم رفعها لوقف تنفيذ ذلك القرار، سواء كان ذلك على المستوى الفردي من المحامين، أو على مستوى بعض النقابات، مثل نقابة البحر الأحمر، والتي كان لها السبق في رفع دعوى مختصمة لذلك القرار.
أما إذا ما عدنا على المستوى التحليلي، فإن أمر إصدار مثل تلك القرارات، لا يتفق مع أي قاعدة دستورية أو قانونية، لكنه يتفق مع رغبة حكومية، وهو ما يخالف الأصل الدستوري العام، وقد تطرقت المحكمة الدستورية العليا في أكثر من موضع أو مناسبة لموضوع الحق في التقاضي، ومن بين أحكامها الحكم رقم 106 لسنة 19 ق د، والذي جاء فيه، أن “الدستور بما نص عليه في المادة ٦٨، من أن لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي قد دل- طبقاً لما جرى عليه قضاء هذه المحكمة- على أن هذا الحق في أصل شرعته هو حق للناس كافة، تتكافأ فيه مراكزهم القانونية في سعيهم لرد العدوان على حقوقهم؛ دفاعاً عن مصالحهم الذاتية، وقد حرص الدستور على ضمان إعمال هذا الحق في محتواه المقرر دستورياً، بما لا يجوز معه قصر مباشرته على فئة دون أخرى أو إجازته في حالة بذاتها دون سواها، أو إرهاقه بعوائق منافية لطبيعته، كذلك لا يجوز أن يكون النفاذ إلى القضاء محملاً بأعباء مالية أو إجرائية، تقيد أو تعطل أصل الحق فيه، ولا أن يكون منظماً بنصوص قانونية ترهق الطريق إليه، وتعجل من التداعي مخاطرة، لا تؤمن عواقبها، مقترناً بتكلفة تفتقر إلى سببها، نائياً عما يعتبر إنصافاً في مجال إيصال الحقوق إلى أصحابها، ومفتقراً إلى الضوابط المنطقية التي يُحاط اقتضاء الحق بها”.
كما أن الدستور قد أقام من استقلال القضاء وحصانته ضمانين أساسيين لحماية الحقوق والحريات فقد أضحى لازما– وحق التقاضي هو المدخل الى هذه الحماية– أن يكون هذا الحق مكفولا بنص صريح في الدستور، كيلا تكون الحقوق والحريات التي نص عليها مجردة من وسيلة حمايتها، بل معززة بها لضمان فعاليتها، وحيث إنه إذا كان ذلك، وكان الالتزام الملقى على عاتق الدولة وفقا للنصوص والمبادئ الدستورية، فإن ذلك يقتضي تمكين كل متقاض من النفاذ إلى القضاء نفاذا ميسراً، لا تثقله أعباء مالية ولا تحول دونه عوائق إجرائه، وكان هذا النفاذ، بما يعينه من حق كل فرد في اللجوء الى القضاء، وهذا ما تؤكده نصوص الدستور في حرصها، على أن لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي قد دل، على أن هذا الحق في أصل شرعته هو حق للناس كافة، لا يتمايزون فيما بينهم في مجال اللجوء إليه، وإنما تتكافأ مراكزهم القانونية في سعيهم لرد العدوان على حقوقهم؛ دفاعا عن مصالحهم الذاتية. كما تمثل الزيادة المتكررة في الرسوم القضائية سواء كانت رسوم رفع الدعاوى أو رسوم مباشرة بعض الإجراءات من الأمور التعجيزية التي تثقل من مباشرة حق التقاضي ذاته، وتشكل حائلاً بين غالبية المواطنين المصريين والولوج لمرفق القضاء لاقتضاء حقوقهم عبر السبل الشرعية المرسومة بموجب الدستور، وفي ظل المتغيرات الشديدة والمتلاحقة التي تمر بها الدولة المصرية خاصة في السنوات الأخيرة والشعور بعدم الاستقرار وفقدان الإحساس بالأمان فان القضاء المصري المحمل بالمشاكل والهموم المتمثلة في البطء الشديد في التقاضي والفصل في الدعاوى، وازدحام المحاكم وزيادة عدد القضايا وقلة عدد القضاة، فيمثل قرارات زيادة الرسوم عبء جديد على عاتق المواطن، يجعل من التفكير في حلقات التقاضي للبحث عن العدالة واقتضاء الحقوق بشكل مشروع وسيلة غير مأمونة، سواء من حيث زيادة الرسوم بداية، أو من خلال الرسوم التي تفرض بعد الفصل في الدعاوى.
فهل من زاوية عاقلة، تحاول تجنيب الشعب المزيد من الإرهاق، أو تحاول أن تجنب أي صدام مع هذه السياسات، الأمر ليس بالهين على حقوق الناس، وأنه هو الدور الأعظم للدولة، والذي يتجلى في كونها الحامية للمواطنين والحارسة لحقوقهم ومصالحهم.