ثقافة حقوق الإنسان، عمل من أعمال الضرورة في المجتمعات الأكثر عوزا في المجال الحقوقي. ما من شك أن هناك عديد المؤشرات التي تجعل من نظام سياسي بعينه، يوصف بكونه أكثر حاجة إلى نشر تلك الثقافة.
مؤشرات العوز الحقوقي
واحد من أبرز مؤشرات حالة العوز الحقوقي تلك التي يمر بها حق الرأي والتعبير، وأوضاع السجون الرثة، وحالات التوقيف احتياطيا، والرقابة على الإعلام من صحف وفضائيات ووسائل اتصال جماهيري، والتنصت على الخلويات، والحجر على حرية التظاهر والإضراب، وتزوير إجراءات ونتائج الانتخابات، وقهر الأحزاب السياسية، وكبت المجتمع المدني، وعسكرة المؤسسات المدنية، وتعيين كبار القضاة.
المؤشر الثاني، وجود أفراد وجماعات معارضة لأنظمة الحكم، تعمل من خارج الدولة المعنية، وخاصة في البلدان التي بينها وبين النظام المعني بالعوز الحقوقي عداء في المصالح. وتستشري تلك المعارضة مع نقص فرص التواجد في الداخل وخنق الحياة الديمقراطية، وهو ما يجعل الكثير من هؤلاء في حالة قلق من العودة لبلدانهم؛ خشية أعمال ترقب الوصول، واللحاق بقطار المجهض حقوقهم في الداخل.
المؤشر الثالث، انقسام المجتمع المعني بالعوز الحقوقي إلى فريقين: فريق معارض؛ بسبب سياسات النظام الحاكم، وهؤلاء عادة ما يتهمون بالعمالة للقوى الأجنبية، والاستقواء بالخارج. وفريق موالٍ يرأسه عادة نخبة من بعض الإعلاميين الساعين لتحقيق مصالحهم والارتزاق من العمل كزبائن لنظام الحكم، وأجهزته الأمنية. هؤلاء الإعلاميون يجدون مصالحهم المادية في ارتفاع الصوت الداعي لعدم التسامح، والإشارة الدائمة بأن الدولة يتم التربص بها. هنا يقوم هؤلاء بخلق فزاعات للشعب والدولة معا، ويبقوا البلد المعني على كومة من البارود، لأن أي مصالحة بين الحكم والمعارضة ستأتي على حساب وجودهم، لا محالة.
المؤشر الثالث، انتشار مناخ الخوف في المجالات العامة، فالشارع كتوم بأسراره، والصحافة من الناحية الفنية تتسم بالحساسية في معالجة، وتناول الأمور المختلفة، وحتى المنظمات الحقوقية المحلية، تعمل وكأنها تمشي على أشواك، فلا تقارير ذات وزن كبير، ولا عضويات في تلك المنظمات لأشخاص تتسم بالثقل، بل أن بعض تلك المنظمات تكون مخترقة من خارجها.
المؤشر الرابع، استشراء الملهاة في تلك المجتمعات، بمعنى سيادة الدراما التافهة التي لا تعالج القضايا المحورية في المجتمع، وبروز الصخب المفتعل في مباريات كرة القدم، وإبراز الحوادث المثيرة للرأي العام كالتحرش والاغتصاب وسرقة الأعضاء البشرية وغيرها، بحيث يكون كل ذلك مجرد لفت الأنظار عن مشكلات المجتمع الأساسية الحقوقية من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
المؤشر الخامس، الضعف الشديد لمؤسسات التنشئة الاجتماعية الرسمية. ففوق الإعلام تصبح المؤسسات الشبابية كالأندية ومراكز الشباب مجرد أماكن لقاء لممارسة أية أنشطة باستثناء الأنشطة الثقافية. أما المؤسسة التعليمية ممثلة في التعليم الأساسي والتعليم الجامعي، فتبدو مناهجها خاوية من القيم الحقوقية التي تعلم النشء النقد والتقييم والرأي والديمقراطية وتبادل الأفكار والرؤى. فهي مناهج تعتمد على التلقين وغرس الأفكار والعجز وتقديس القائد.. إلخ.
المؤشر السادس، وجود عديد التعقيبات التي ترد على حالة حقوق الإنسان في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية، ما يجعل سجل البلد المعني، يوسم بالفقر الحقوقي، بسبب انتشار الانتهاكات الدائمة لحقوق الإنسان. وهو ما تتأثر به حالة الاقتصاد في هذا البلد، فتنحسر الاستثمارات الأجنبية، ولا يقبل الكثيرون من الأجانب على السياحة في البلد المعني، خشية من مناخ القلق الداخلي.
المؤشر السابع هو، أن تقوم البلدان في انحاء المعمورة بتقليص حالة التعاون والاعتماد المتبادل مع البلد المعني، وكذلك تقليص المساعدات التي تكون من نوع المساعدة التي تمد مباشرة لنظام الحكم المنتهك لحقوق الإنسان، بحيث لا تتأثر الشعوب داخل تلك البلدان قدر الإمكان، رغم أن التأثر يكون بالفعل أمر واقع ولا فكاك منه.
الحالة المصرية
ما من شك، أن الصفات السابقة لا تعني بالضرورة انطباقها بحذافيرها على الحالة المصرية، فبعضها قائم بقوة، وبعضها خافت، وبعضها غير موجود. لكن ما هو مؤكد، إننا في حاجة ماسة إلى إصلاح تلك الأوضاع بحيث تكون ثقافة حقوق الإنسان هي السائدة في المجتمع.
وبطبيعة الحال، فإن نشر ثقافة حقوق الإنسان في مصر يجعل المجتمع والدولة في حالة ثراء، وتصبح البلاد مركزا للثقافة وعاصمة للفكر، كما كانت في بعض الأوقات في الماضي نسبيا.
نشر ثقافة حقوق الإنسان سيخلق مجتمعا من الأحرار، مجتمع من المواطنين لا الرعايا، مجتمع يسوده انفتاح اقتصادي كبير. خذ مثال، على وجه العموم، هل يمكن أن تنمو الاستثمارات الأجنبية وتنتعش الحالة الاقتصادية في نظام سياسي دستوره معلق تقريبا معظم مواده!!. وعلى وجه الخصوص، هل تنمو الاستثمارات في مجتمع يتحدث دستوره عن دور فاعل للسلطة التنفيذية في تعيين كبار قضاة المحاكم؟ الإجابة بالتأكيد بالنفي، إذ كيف يضمن المستثمر الأجنبي، أن ينصفه القضاء المعين من قبل السلطة حال حدوث نزاع اقتصادي مع الدولة؟.
ما العمل؟
هنا يصبح السؤال ما العمل لمواجهة كل ذلك؟ ما من شك، إننا في مجتمع عالمي أصبحت مسألة حقوق الإنسان مسألة جوهرية، سواء من الناحية المبدئية، أو من الناحية التي يمكن للآخرين أن يبتزوا بها أنظمة الحكم ذات العوز الحقوقي. لذلك فمن المهم أن تكون الاستحقاقات الحقوقية على الساحة الداخلية مستوفاة تماما. ولا غرو أن الأهم من كل ذلك أن يكون ملف وسجل مصر الحقوقي جيد ومتميز، من أجل الإنسان المصري بالأساس. إذ ليس من المقبول أن يستوفي ذلك الملف إرضاء الخارج دون الداخل.
من هنا يبدو أن إصلاحا حقوقيا متعلق بالانضمام السريع لاتفاقات والعهود والمواثيق الدولية التي لم تصادق عليها مصر، أمر مهم للغاية. صحيح أن هناك ضرورات مرتبطة بالشريعة الإسلامية، وتجعل هناك تحفظات على أمور محددة كالإعدام والميراث وغيرها، لكن مع تنحية هذا الأمر جانبا، فإن هناك عديد الأمور التي لم نصادق عليها يجب المصادقة عليها، خاصة تلك الأمور التي كانت مجلس حقوق الإنسان قد بح صوته بشأنها في دورات واجتماعاته المختلفة بجنيف، كالحبس الاحتياطي والتعذيب والغياب القسري وغياب حقوق السجناء وتأميم الإعلام غيرها.
الأمر الآخر، هو حتمية إعادة النظر في مسألة حرية الرأي والتعبير، بحيث يتم خلق حالة من حالات الانفتاح الحقيقي في المجال العام. صحيح أن هناك بعض- وليس كل- الإيجابيات في سن بعض القوانين ذات الصلة، لكن ما من شك، أن الشارع أو الواقع بعيد كل البعد عن المسطور في الدستور والقوانين. بعبارة أخرى، فإن الممارسة والتطبيق يجافي بالكلية حقيقة المكتوب، حيث لا زالت الأمور المرتبطة بالحبس الاحتياطي والتعسف ومعاملة السجناء ورمي المتشبثين بحرية الرأي والتعبير بتهمة آلية هي، “الانضمام لجماعة إرهابية”، هي السائدة، كما أن تأميم الإعلام من صحافة وتلفزيون وتعقب الآراء غير الداعية للعنف والواردة في مواقع التواصل الاجتماعي، كلها أمور يتحتم الخلاص منها، لو سلمت النوايا.
يبقى التعليم بمناهجه ووسائله أهم ما يمكن فعله؛ لنشر ثقافة حقوق الإنسان، فهو من أبرز الأمور التي تعد- حال تنفيذها- رصيدا مستقبليا لمجتمع منفتح ودولة رائدة.