ليس من السهل تفكيك صورة صُنعت بعناية على مدار عقدين، خاصة حين تلبس رداء الدين، وتتغنى بالمقاومة، وتتباهى بمواقف صاخبة ضد “العدو المشترك”. هكذا بدا رجب طيب أردوغان، في نظر قطاعات واسعة من الجماهير العربية والإسلامية، زعيمًا استثنائيًا، يُجاهر بالحق ويصطدم بالكبار دفاعًا عن المستضعفين.


لكن حين يتقدم الزمن، وتتراكم الوقائع، تبدأ الصورة في التشقق. ويصبح من الواجب ــ لا من الترف ــ أن نُفتش في المسافة الفاصلة بين الشعار والممارسة، وبين الخطاب والصفقة، لنسأل ببصيرة لا بهالة: من هو أردوغان حقًا؟ وما الذي تبقى من مشروعه بعد عقدين من الحكم والتحولات؟

القناع يسقط تباعًا

لطالما روّج رجب طيب أردوغان لنفسه كـ”زعيم مسلم”، مدافعا عن قضايا الأمة، وعلى رأسها قضية فلسطين. ارتدى قميص الدفاع عن غزة، ورفع صوته في المنتديات الدولية ضد الكيان الصهيوني، وهاجم الأنظمة العربية على تطبيعها… لكن كل هذه الشعارات لم تكن سوى قناع يخفي خلفه شبكة علاقات وتحالفات مع تل أبيب، نسجها بصمت، وثبّتها بصلابة.

في هذا المقال نحاول أن نرسم ملامح الوجه الحقيقي لأردوغان: من خلال تتبع علاقاته الفعلية بالكيان الصهيوني، وممارساته الداخلية، وخطابه المزدوج، وصولًا إلى السؤال الكبير: إلى أين يمضي الرجل؟

أولًا: تحالف خلف الستار مع الكيان الصهيوني

رغم كل الخطابات النارية، فإن أردوغان هو الرئيس المسلم الوحيد الذي حصل على “ميدالية الشجاعة اليهودية” من اللوبي الصهيوني في نيويورك. وقف عند قبر هرتزل مؤسس الصهيونية، وزار الكيان خمس مرات في زيارات رسمية، بينما لم يزر غزة ولو مرة واحدة، حتى في أقسى لحظات حصارها.


في عهده، وُقعت أكثر من 60 اتفاقية تعاون مع إسرائيل، تضمنت تبادلًا اقتصاديًا وصل إلى قرابة 10 مليارات دولار سنويًا. إسرائيل تدخل تركيا من دون تأشيرة، بينما الفلسطيني يُهان على أبواب القنصليات التركية.


ورغم كل الضجيج الإعلامي، فإن ثاني أكبر مصنع أسلحة إسرائيلي في العالم أُقيم على الأراضي التركية، واستمر في العمل حتى في عزّ الحروب على غزة. وبدل أن تغلق تركيا موانيها أمام السفن الإسرائيلية كما يفترض زعيم يتغنى بفلسطين، كانت ترسل لها الإمدادات التجارية واللوجستية بحرًا وجوًا.

ثانيًا: الداخل التركي.. صورة مناقضة للشعارات

في الداخل، تتهاوى صورة “الخليفة الإسلامي” أمام واقع علماني محافظ على شكله، لكنه متراخٍ في مضمونه. أكثر من 20,000 بيت دعارة قانوني، تعمل تحت أنظمة الدولة التركية، بإيرادات تقترب من 4 مليارات دولار سنويًا، في مشهد يطرح تساؤلات حول ازدواجية الخطاب.


أما على مستوى الحريات، فشهدت تركيا في عهد أردوغان حملات قمع ضد الإعلام، والمعارضة، والنقابات. تم سجن الآلاف بتهم سياسية، وتراجعت مؤشرات حرية الصحافة وحقوق الإنسان بشكل مقلق. فأي “نموذج إسلامي” يبشر به، من يُطبّق كل ما يناقض الشورى والمساواة وحرية التعبير؟


ولم تقتصر تلك السياسات على التضييق المؤسسي، بل امتدت لاستهداف شخصيات معارضة وازنة، كما حدث مؤخرًا مع أكرم إمام أوغلو، عمدة إسطنبول والمرشح الأبرز لمنافسة أردوغان. فقد تعرض لمحاولات ممنهجة لتهميشه سياسيًا، وتلفيق قضايا ضده، في مشهد يذكّر بأن “النموذج التركي” الذي يتغنى به أردوغان، لا يحتمل حتى الحد الأدنى من التعددية.

ثالثًا: تصدير الوهم وتناقض الخطاب

لم يكن أردوغان يُخاطب الداخل التركي فقط، بل أراد تصدير نفسه إلى العالم العربي والإسلامي كزعيم قادر على قيادة مشروع إسلامي عابر للحدود. دعم الإخوان المسلمين في مصر وتونس وسوريا، وفتح لهم منابر الإعلام والتمويل. لكن حين ضاق عليه الخناق، هرول لعقد الصفقات مع أعداء الأمس: طبع مع إسرائيل، استأنف العلاقات مع الإمارات والسعودية ومصر، وتراجع عن دعمه للمعارضة السورية.
كل هذه التبدلات السريعة، لم تكن برجماتية سياسية، بل برجماتية شعاراتية: يرفع شعارًا حين يفيده، ويتخلى عنه حين يضرّه. وحين تهتز شعبيته، يعود إلى نغمة فلسطين والأقصى، لعله يستعيد شيئًا من الهالة التي صنعها لنفسه إعلاميًا.

بين تل أبيب وموسكو.. أيّ نهاية لأردوغان؟

في خضمّ التحولات العاصفة التي يشهدها الإقليم والعالم، لم يعد أردوغان الرجل الذي يُمسك بخيوط اللعبة بذكاء منفرد. المشهد يشي، بأن تركيا تتجه إلى مفترق طرق، وأردوغان إلى نهاية مفتوحة: هل تكون نهايته السياسية في صناديق الاقتراع؟ أم في عزلة إقليمية تعزّزها علاقاته المتناقضة؟ أم في منفى فاخر، كمن سبقوه من أصحاب الأحلام الإمبراطورية التي انهارت على عتبات الواقع؟

ما هو واضح حتى الآن، أن أردوغان لم يعد في نظر كثير من شعوب المنطقة “القائد المسلم”، بل بات رمزًا للتناقضات بين الشعارات والمصالح، بين الخطاب والصفقات، بين قميص فلسطين وميدالية الشرف من تل أبيب.

لقد قال السياسي البريطاني جورج جالاوي ساخرًا: “ربما سينضم أردوغان إلى الأسد في المنفى.. في موسكو.” لكن الحقيقة الأرجح أن منفى أردوغان ـ إن وقع ـ سيكون في مكان أقرب، حيث الأبواب مفتوحة: في تل أبيب التي لم تُغلق أبوابها في وجهه يومًا، أو في الدوحة التي كانت له دائمًا ظهرًا، حين أدار ظهره لكل من خالفه في الداخل والخارج.

وهنا، لا يبدو التساؤل عن نهايته، بقدر ما هو تساؤل عن الأثر الذي سيخلّفه على بلده، وعلى شعوب المنطقة التي صدّقت يومًا، أن في إسطنبول مشروع خلاص.