يخيم مشروع التهجير من غزة إلى سيناء على المستقبل المنظور.

لا أحد في مصر يطلب الحرب، لكنها قد تفرض عليها.

الحرب ليست محتمة، لكنها ليست مستبعدة.

لا تأبه إسرائيل بالاعتراضات المصرية على مشروع التهجير قسرا، أو طوعا.

بغض النظر عن أية عواقب محتملة تمضي قدما فيه.

كان إعلان إنشاء وكالة خاصة لتهجير أهالي غزة خطوة جديدة في ذلك الاتجاه.

إنها استعادة، بالاتجاه العكسي، للدور الذي لعبته وكالة الهجرة اليهودية في تأسيس إسرائيل.

أنشئت الوكالة اليهودية باسم “مكتب فلسطين” في يافا عام (1908) جهازا تنفيذيا للحركة الصهيونية برئاسة “حاييم وايزمان” لتطوير حجم الهجرة إلى فلسطين وشراء أراض كملكية يهودية عامة وتشجيع الاستيطان الزراعي ونشر اللغة العبرية في “الأرض الموعودة”.

في عام (1929)، بعد اثنتي عشر عاما من وعد “بلفور”، أخذت اسم “الوكالة اليهودية”، توسعت مهامها في جلب المهاجرين اليهود.

استدعاء المسمى نفسه من ذاكرة التاريخ لطرد الفلسطينيين من أرضهم، أو الاستيلاء الكامل على فلسطين التاريخية، إنذارا بحد ذاته يكشف كل الأوراق، وكل الأهداف.

الحكومة الإسرائيلية صادقت.. ومصر والسعودية وقطر أدانت.

وفق النص المصري، فإنه رفض قاطع ونهائي لأي محاولة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.

في حدوده وصياغاته، لم يكن ذلك كافيا لردع المشروع الإسرائيلي.

في اللحظة نفسها، دعا وزير الأمن القومي المتطرف “إيتمار بن جفير” إلى الاستيطان اليهودي في غزة، ووصف وزراء آخرون التطور نفسه، بأنه “خطوة تاريخية”.

استئناف الحرب على غزة التعبير الأكثر وضوحا للتهجير القسري إلى سيناء.

“إسرائيل غير ملزمة بإدخال المساعدات لغزة، إذا كانت ستستفيد منها حماس”.

كان ذلك تصريحا لوزير الخارجية الإسرائيلي “جدعون ساعر” يعتبر التجويع سلاحا في حرب لا جريمة، يعاقب عليها القانون الدولي الإنساني.

تجاوزت الاستهانات الإسرائيلية كل ما هو اعتيادي في العلاقات مع مصر منذ توقيع “كامب ديفيد” عام (1978)، كأنها حذفت من الخريطة.

أحد الأهداف الأساسية، غير المعلنة، في استئناف الحرب على غزة هو إجهاض الورقة المصرية، التي باتت عربية بعد القمة الطارئة بالقاهرة، لإعادة إعمار غزة، دون أن يجبر أهلها على مغادرتها.

إذا لم تكن الحرب قد انتهت، فما معنى فكرة الإعمار نفسها؟!

وما معنى الدعوة إلى مؤتمر دولي لجمع التبرعات والمساهمات الدولية في خطة الإعمار؟

بأثر الزخم الذي حازته “الورقة المصرية” تراجع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” عن فكرة “تطهير غزة” من أهلها قائلا: “لا أحد بوسعه أن يطلب من فلسطيني واحد مغادرة غزة”.

“ترامب” نفسه عاد سريعا إلى مبادرته الأولى “تطهير غزة” بتوفر الغطاء الاستراتيجي والسياسي الكامل للعودة إلى الحرب.

في محاولة لوقف الحرب تبنت مصر مبادرة جديدة، للإفراج عن خمس رهائن بينهم أمريكي مزدوج الجنسية مقابل إدخال المساعدات ووقف إطلاق نار لفترة محددة.

المبادرة إعادة صياغة لأفكار المبعوث الأمريكي الخاص “ستيف ويتكوف” تبنيا لما يطلبه “بنيامين نتنياهو” من عدم الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار.

صعد “نتنياهو” مواجهاته في الضفة الغربية قتلا وتشريدا واستيطانا، ووسع مجال عملياته إلى سوريا ولبنان محرضا على إيران؛ مستهدفا مصر في نهاية المطاف.

في حوار مطول أجراه المذيع الأمريكي المعروف “تاكر كارلسون” مع “ويتكوف”، بدت تصريحاته بشأن مصر قابلة للتأويل على أوجه مختلفة، فمصر تعاني من معدلات بطالة مرعبة (45%) تحت (25) سنة ومفلسة إلى حد كبير، ولا يمكنها أن تستمر على هذا النحو.

بغض النظر عن دقة الأرقام، فهذا استثمار استراتيجي في الأزمة الاقتصادية المصرية وضغط على الأعصاب الملتهبة.

إنه بلد مهم، لكنه مأزوم، ويحتاج إلى مساعدات اقتصادية، حتى لا يسقط، ولا بد أن يدفع الثمن.

هكذا بكل وضوح.

هو نفس الكلام الذي قاله “ترامب”، عندما طرح لأول مرة خطته لـ”تطهير غزة” من مواطنيها.

الكلام عن الثمن لا في المبدأ.

من غير الوارد التضحية بالأدوار المصرية في الحسابات الأمريكية والإسرائيلية بالمنطقة.

“خسارة مصر تعني خسارة المكاسب التي تحققت بإنهاء حسن نصر الله ويحيى السنوار”، كما قال نصا!

كانت تلك عبارة ملغمة بالمعاني المتضادة، التي يصعب فك شفرتها.

لا بد أن تنظر مصر في المرآة، وتعترف دون مواربة، أن “كامب ديفيد” بآثارها ونتائجها كارثة حقيقية على البلد ومستقبله، رهنت القرار الوطني لآخرين، وهمشت أدواره وأوزانه في المنطقة ونالت من احترامه لنفسه.

ثم لا بد أن تواجه نفسها بالحقيقة عن الأزمة الاقتصادية ومسئوليتها، التي استدعت لغة المقايضات على حساب أمنها القومي وقضاياها الوجودية.

وصلت المأساة أن يطرح زعيم المعارضة الإسرائيلية “يائير لابيد” اقتراحا غريبا ومثيرا، أن تتولى مصر إدارة قطاع غزة للسنوات الثماني المقبلة على الأقل مقابل سداد المجتمع الدولي للديون المصرية.

من يسدد؟

دول الخليج لا غيرها.

من يستفيد؟

إسرائيل أولا.

مما يمكن استنتاجه من الحوار التلفزيوني مع “ويتكوف”، أن الضغط على مصر أولوية مع تأجيل أي ضغط على الأردن لوقت آخر.

لأكثر من مرة منذ السابع من أكتوبر (2023)، لوحت مصر بتعليق، لا إلغاء، اتفاقية “كامب ديفيد”، التي ينظر إليها إسرائيليا، أنها الإنجاز الأكبر بعد تأسيس الدولة في (15) مايو (1948).

المرة الأولى، إثر بروز مشروع التهجير القسري على سطح الحوادث الدامية إثر الحرب على غزة.

مالت إدارة “جو بايدن” إلى دعم ذلك التوجه، لكنها سرعان ما تراجعت؛ خشية العواقب الوخيمة على المصالح الأمريكية في المنطقة.

قرب اجتياح القوات الإسرائيلية لوحت ثانية بتعليق الاتفاقية، لكنها لم تتجاوز حدود التلويح، مما أفقده قوته وتأثيره.

تعليق “كامب ديفيد” خطوة كبرى لردع التغول الإسرائيلي، لكنها تحتاج مجتمعا أكثر تماسكا بوسعه تحمل النتائج والمضي في التحدي إلى آخر الشوط.

التصرفات الإسرائيلية، التي أفلت حسابها، تجر المنطقة كلها، لا مصر وحدها، إلى حروب أخرى في الإقليم أخطر وأفدح، مما جرى حتى الآن.

الإشارات المتواترة عن فرض التهجير القسري على مصر بقوة السلاح إعلان حرب، قد تنشأ بذريعة أو أخرى.

لا يمكن أن تسقط سيناء دون رصاصة واحدة.

إنها الحرب إجبارا لا اختيارا.