لفت إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد خلال خطاب هام له أمام البرلمان الإثيوبي (20 مارس الجاري) إلى عزم بلاده إطلاق التدشين الرسمي لسد النهضة الإثيوبي الكبير مع بداية السنة الإثيوبية الجديدة (التي تسير على التقويم القبطي) في سبتمبر المقبل، إلى تعميق النهج الإثيوبي بفرض سياسة الأمر الواقع في هذا الملف بالغ الحيوية لمصر والسودان. وفيما يبدو استمرارًا لموقف مصر المتحفظ على الدخول في محادثات غير محددة الأفق زمنيًا وموضوعيًا، لم تعلق القاهرة على تصريحات آبي أحمد التي تضمنت إشارة لتعميق المحادثات “مع المصريين” في المرحلة المقبلة، بل واصلت القاهرة متابعة تطوير علاقاتها بدول القرن الإفريقي، كما تمثل في استقبال وزير خارجية إريتريا عثمان صالح بعد نحو يومين من تصريحات آبي أحمد لمناقشة كافة ملفات العلاقات الثنائية، وإعلانهما “رفض وجود دول غير مشاطئة للبحر الأحمر” في ترتيبات أمنه، ما يمكن اعتباره ردًا عمليًا على تصريحات آبي أحمد الأخيرة وإشارته إلى ضرورة مقايضة المصالح بين دول الإقليم، أو حسب تعبيره، عن تبني مفهوم “العطاء والأخذ”. 

رؤية إثيوبية جديدة لأزمة سد النهضة: حملة علاقات عامة!

نجحت إثيوبيا في فرض رؤيتها في بناء سد النهضة منذ اللحظات الأولى حتى إعلان آبي أحمد الأخير؛ الذي يؤشر إلى أنه لم يبق أمام القاهرة سوى “التسليم” بالأمر الواقع والالتفات لمرحلة ما بعد الانتهاء الرسمي من السد وتشغيله وفق الرؤية الإثيوبية. ويتوقع أن ينتج السد، الذي شيد بتكلفة 4.2 بلايين دولار، أكثر من خمسة آلاف ميجاوات من الطاقة الكهرومائية، (وهو ضعف إنتاج إثيوبيا الحالي من الكهرباء)، مع ملاحظة أن إنتاجه الحالي لا يتجاوز 600 ميجاوات فقط. وحضرت مصر في إعلان آبي أحمد الذي أكد، “إننا نؤكد على اهمية المناقشات الإيجابية مع مصر (التي قدمت في أكتوبر 2019 شكاوى ضد إثيوبيا بإعاقة الوصول لاتفاقات نهائية حول إدارة السد وتشغيله)، وأن إثيوبيا ستواصل العمل مع المصريين لما فيه صالح البلدين والشعبين المصري والإثيوبي، وعزمه على “تعزيز التعاون” مع مصر. 

غير أن إشارة آبي أحمد إلى تقديم بلاده مقترحات عدة، وأنها “لا تزال منفتحة على مزيد من الحوار (مع مصر) لمعالجة أية مخاوف عن بناء السد وتشغيله” تحمل رسالتين متناقضتين أشد التناقض:

إذ تبدو الإشارة إيجابية للغاية، بغض النظر عن ضرورة وضعها في سياق خطاب آبي أحمد التقليدي القافز فوق عمق الأزمات بمسحة من الصوابية السياسية، كونها تشمل التفاوض حول مسألة “تشغيل السد” (دون توضيح مفهوم لطبيعة المفاوضات أو حدود أفقها الزمني والموضوعي)، وإعادة تأكيد الانفتاح على “استئناف” المحادثات الثلاثية بشأن السد. أما الرسالة الثانية، والأقرب للواقعية في سياقنا الراهن، فهي التأكيد– ضمنًا- على استدامة النهج الإثيوبي بطرح حزمة من المواقف المغلوطة من قبيل تقديم أديس أبابا “مقترحات عدة” (للقاهرة) لحلحلة أزمة السد، وهو الأمر الذي لا تتوفر عليه شواهد منذ البدء في بناء السد قبل 15 عامًا، وبدء مفاوضات بين إثيوبيا ومصر والسودان منذ نحو 13 عامًا؛ واقتصرت “المقترحات الإثيوبية” خلالها على مجرد أفكار عامة ووعود غير ملزمة بعدم الإضرار بدولتي المصب، دل عليها رفض إثيوبيا التوصل لأي اتفاق ملزم يتضمن مأسسة مثل هذه الأفكار او الوعود بشكل متعارف عليه دبلوماسيًا. كما يبدو من تعليق آبي أحمد، أن إطار المحادثات المقترح لن يتجاوز طرح معالجة للمخاوف المصرية وفق رؤية إثيوبية غير خاضعة لأية التزامات قانونية، تطالب بها القاهرة ضمانًا لتسوية هذا الملف بشكل مستدام، وعلى نحو يلبي مطالب التعاون الإقليمي والتفاهمات الأساسية بين دول حوض النيل.

السد وتطورات التوتر المصري- الإثيوبي    

تكثفت التحركات المصرية النشطة في الآونة الاخيرة في إقليم القرن الإفريقي، إضافة إلى السودان (الذي يشهد تحولًا نوعيًا مع عودة مبادرة القوات المسلحة السودانية باقتلاع مواطئ أقدام ميليشيات الدعم السريع في الخرطوم) على نحو بات يثير قلقًا إثيوبيًا كبيرًا لعدة اعتبارات؛ الأمر الذي انعكس على ملف سد النهضة بشكل واضح.

وعلى سبيل المثال، تلت تصريحات آبي أحمد المذكورة اجتماعًا مهمًا في القاهرة (23 مارس) بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية الإريتري عثمان صالح مبعوثًا عن الرئيس الإريتري أسياس أفورقي لمناقشة عدة قضايا، جاء في مقدمتها “أمن البحر الأحمر”، وعبرت القاهرة وأسمرا بشكل واضح، وفي توقيت دال وسط تصعيد إريتري- إثيوبي واحتمالات تجدد الأزمة في إقليم التيجراي، عن رفضهما لتورط الدول غير المشاطئة للبحر الأحمر (في إشارة صريحة لإثيوبيا) في ترتيبات الأمن به، وأن هذا الأمن يجب أن يدار من قبل دول الحوض وحدها.

وبينما يمكن النظر لهذا الاجتماع كاستجابة لمخاوف مصرية وإريترية مشتركة إزاء تعليقات آبي أحمد في نفس الخطاب المذكور، بوصفه الوصول للبحر الأحمر كمسألة “وجودية” لإثيوبيا، مع تكرار استبعاده “غزو” إريتريا؛ بسبب هذه المسألة، وإشارته الملتبسة إلى أن “أي حل يجب أن يكون قائمًا على مبدأ العطاء والأخذ ومبادئ السوق”، قبل أن يحذر (في سياق خطابه متعدد المستويات بشكل تقليدي للغاية) من أن الفشل في معالجة المسألة “يمكن أن يخلق تحديات مستقبلية”؛ فإنه يمكن ملاحظة أن الاجتماع شهد مناقشة ملفات مثل، الأزمة في السودان، والوضع في الصومال، وهي ملفات في دائرة اهتمام إثيوبيا، وإن بزاوية مناقضة تمامًا للرؤيتين المصرية والإريترية، مما يستنتج معه حضور ملف سد النهضة في هذا الاجتماع على الأقل من جهة سعي مصر بناء مواقف إفريقية أكثر تفهمًا لموقفها في هذه المسألة، عوضًا عن استشراف مفهوم “العطاء والأخذ” الذي يروج له آبي أحمد وحدود هذه العملية ومآلات أي تعاون إقليمي حقيقي، سبق أن طرحته قوى خليجية في السابق (بعد 2018) دون أن يحقق نتيجة واضحة سواء في الحالة الإثيوبية الإريترية، أو الإثيوبية الصومالية، وترقبًا لإمكان إطلاق مثل هذا السيناريو في “ملف سد النهضة”.

ويبدو أن إثيوبيا تتوجس جديًا من خطوات مصر الأخيرة في دول جوارها (لا سيما في الصومال الذي ظل ملعبًا خلفيًا للهيمنة الإثيوبية في الإقليم حتى سنوات قليلة مضت)، الأمر الذي يعزز سيناريو تشابك ملفات الأزمات بين الدولتين، وفي قلبها ملف سد النهضة. كما أن انفتاح التوتر بين مصر وإثيوبيا على تداعيات (مباشرة أو غير مباشرة) تتجاوز دول جوار إثيوبيا إلى داخل الأخيرة (اتهمت إثيوبيا مصر في نهاية العام 2021 بمساعدة متمردين داخل أراضيها، دون أن تقدم أي دليل على صحة مثل هذه الاتهامات)، فيما تؤكد تقارير دولية (The Jamestown Foundation, March 25, 2025) احتمال تصاعد هذا التوتر إلى حروب بالوكالة حال “اختيار مصر القيام بذلك”؛ لأنها تملك القدرات الاستخباراتية والعسكرية اللازمة وكذلك العلاقات التاريخية مع جبهة تحرير التيجراي TPLF حسب التقرير.

لكن من الواضح أن القاهرة ستعمق مسار التعاون مع دول القرن الإفريقي بشكل غير مسبوق كخيار مثالي؛ لاستعادة زمام المبادرة، وربما فرض قواعد جديدة على إثيوبيا ورفع تكلفة تصوراتها “للعطاء والأخذ”.

ماذا بعد؟

أكد خبراء إثيوبيون– مع بدء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فترة رئاسته الثانية في يناير الماضي- أن الولايات المتحدة ستواصل اهتمامها بمسألة سد النهضة، وهو الأمر الذي ستواجهه أديس أبابا بقدر من الحذر، لا سيما أن الولايات المتحدة تنظر لمصر بشكل تقليدي كحليف رئيس لواشنطن في إقليم الشرق الأوسط. وروجت الميديا الإثيوبية في مارس الجاري لأخبار عن وقف الولايات المتحدة مساعداتها العسكرية لمصر؛ “بسبب التوتر في القرن الإفريقي” (في إشارة لبدء إرسال مصر مساعدات عسكرية مهمة للصومال في أغسطس 2024)، وقد ردت السفارة الأمريكية في أديس أبابا على هذه التقرير في رسالة رسمية، وجهتها لمنصة AFP Fact Check (10 مارس، وتم تضمينها في تقرير للمنصة 25 مارس)، متضمنة عبارة واضحة “ليست هناك بيانات رسمية من حكومة الولايات المتحدة تشير لمثل هذا الادعاء”.

وعلى الصعيد الإقليمي، يبدو موقف الإمارات كوسيط محتمل في ملف سد النهضة بين القاهرة وأديس أبابا أكثر صعوبة من ذي قبل– نظريًا على الأقل- في ضوء عدة اعتبارات أهمها تحفظ القاهرة الثابت في الآونة الأخيرة على أية محادثات غير جادة، وغير مرهونة بأفق محدد وملزم؛ والتوتر المكتوم بين القاهرة وأبوظبي على خلفية تباين واضح في المواقف في شتى أزمات القرن الإفريقي الكبير وفي قلبها السودان (عوضًا عن مقاربة الأزمة في قطاع غزة)، وتوقعات مفهومة باصطفاف الإمارات خلف مواقف إثيوبيا في الإقليم.

أما تركيا التي تحقق نجاحات مهمة في التأثير في القرن الإفريقي عبر دبلوماسية حل المشكلات واحدة وراء الأخرى، فيبدو أنها تتطلع لدور حقيقي في الوساطة بين مصر وإثيوبيا وإن من باب جهود الاحتواء المزدوج وضمان نفوذ تركي أكبر في القارة الإفريقية.

وفي ظل غياب فعالية الاتحاد الإفريقي عن مسار مفاوضات سد النهضة سابقًا، وفي الفترة المقبلة تظل المسألة بحاجة إلى تفاهمات ثنائية حقيقية وإجراءات بناء ثقة، ربما تقودها أيًا من الأطراف السابقة حال مواصلة مصر دفعها القوي في الملف ورفض التسويات السطحية أو غير القائمة على قواعد القانون الدولي وضوابطه. وفي المقابل يتوقع أن تواصل إثيوبيا تلاعبها بأوراق الملف في الفترة المقبلة حتى الموعد الذي حددته لافتتاح السد في سبتمبر 2025، دون اتضاح الرؤية حتى الآن في الموقف الفعلي لإدارة ترامب من المسألة أو صحة ما ورد عن ربطها مقاربته بالتأثير على المواقف المصرية المدافعة عن حقوق الشعب الفلسطيني.