مايكل مور الكاتب ومخرج الأفلام الوثائقية الأمريكي الشهير، هو صاحب مقولة رجال بيض أغبياء، وقد جعلها عنوانا لفيلم، فاز عنه بجائزة أوسكار أحسن فيلم وثائقي، كما جعلها عنوان كتاب أصدره عن محتوى فيلمه هذا فيما بعد.

الفيلم والكتاب صدرا في سياق ثورة التقدميين في الولايات المتحدة على مشروع الرئيس جورج بوش الابن وفريقه من صقور اليمين والمحافظين الجدد لغزو العراق، بذريعة القضاء على الترسانة العراقية من الصواريخ بعيدة المدى، وأسلحة الدمار الشامل، وبهدف إحلال الديمقراطية في العراق، وبناء شرق أوسط جديد سلمي وديمقراطي، وفقا لمزاعمهم.

طبعا أثبت الغزو وبسرعة فاجأت المخططين أنفسهم، أن الذرائع مختلقة، وأن الأهداف النبيلة المزعومة هي مجرد ستار، أو هي من خيط العنكبوت لأطماع استعمارية، وأحقاد عنصرية، ودوافع بعضها صهيوني بوضوح لا لُبس فيه.

هؤلاء الرجال البيض الأغبياء- الذين مثلهم بوش الابن والتشكيل العصابي لإدارته، المكونة من ديك تشيني نائبه ودونالد رامسفيلد وزير دفاعه وكهنة المحافظين الجدد- هم أسلاف الرجال البيض الأغبياء الذين يمثلهم الرئيس الحالي دونالد ترامب وفريق إدارته، والذين جاءوا به مرة أخرى إلى البيت الأبيض، والذين صنعوا الظاهرة الترامبية من الأصل، فهذه الظاهرة في مغزاها الحقيقي في سياق التاريخ السياسي الأمريكي هي ذروة انتقام، أو ثأر اليمين العنصري الأمريكي (الرأسمالي) من سلسلة انتصارات القوى التقدمية الأمريكية، منذ رئاسة فرانكلين روزفلت (١٩٣٢ -١٩٤٤)، وربما منذ الحرب الأهلية، وكانت ذروة تلك الانتصارات التقدمية هي لحظة أوباما، فقد كانت هذه اللحظة أقسى كثيرا، مما يطاق على هذا اليمين العنصري المؤمن  بتفوق الرجل الأبيض البروتستانتي الأنجلو ساكسوني على سائر الأجناس، والثقافات، فكيف يكون رئيس الولايات المتحدة أسود من أب مسلم مولود في الخارج ؟! وكيف يهزم هذا الأسود القادم منذ سنوات قليلة إلى معترك واشنطن السيناتور جون ماكين الأبيض، صاحب الماضي السياسي العريق، وأحد أبطال الحرب الفيتنامية، وأحد رجال ما يسمى بالثورة الريجانية المحافظة، وذلك في انتخابات عام ٢٠٠٨ الرئاسية.

لقد كانت تلك الثورة الريجانية في أوائل ثمانينيات القرن الماضي بداية تحول الحزب الجمهوري من يمين الوسط إلى اليمين المحافظ، فاليمين الرجعي العنصري المتحالف مع الأصولية المسيحية، وذلك باستثناء فترة جورج بوش الأب.

ثم يتكرر فوز هذا الأسود لفترة ثانية بسهولة فائقة، في عام ٢٠٢٢ على السيناتور ميت رومني الجمهوري التقليدي المنتمي إلى جناح يمين الوسط في التيار العام للسياسة الأمريكي.

 كما يذكر المهتمون، فقد سارع أقصى يمين الحزب الجمهوري- فور فوز أوباما في الدورة الأولى- إلى اعادة حشد قواه من خلال ما سمي وقتها بحزب الشاي، وعندما فشل السيناتور رومني هو الآخر أمام أوباما في انتخابات عام ٢٠١٢، أصبح الطريق ممهدا، لكي يقود الجناح المتطرف الجمهوريين بكل أجنحتهم، بل ويسيطر على كل المفاصل الحزبية، وكان ترامب هو مرشح هذا الجناح لانتخابات الرئاسة التالية، ومن ثم فقد اكتسح كل منافسيه في الانتخابات الحزبية التمهيدية.

لكن ذلك كله لم يكن يعني أنه سيفوز حتما بالرئاسة، لولا خطأ استراتيجي كبير، ارتكبه الحزب الديمقراطي المنافس (حزب أوباما)، وهو ترشيح امرأة هي هيلاري كلينتون لخلافة أوباما، فقد كان احتمال انتخاب رئيسة امرأة بعد رئيس أسود، يعني نهاية العالم عند الرجال البيض الأغبياء، الذين هم في الأصل ذكوريون شديدو الرجعية، سيما لو كانت هذه المرأة هيلاري كلينتون، التي خاضت ضدهم معركة تكسير عظام، فازوا فيها بالكاد، وذلك في الفترة الرئاسية الأولى لزوجها (بيل كلينتون)، وقد دارت حملتها حول مشروعها لاستصدار قانون للتأمين الصحي، وكان ميدانها الأساسي هو الكونجرس.

هكذا صُنعت الظاهرة الترامبية، لكنها لم تكن كاسحة، إذ أنّ هيلاري كانت هي الفائزة بأغلبية الأصوات الشعبية، لكن الرجل فاز في المجمع الانتخابي بسبب تركيز الرجال البيض الأغبياء على الولايات المحافظة ذات القوة التصويتية الأكبر في المجمع.

وقد تأكد أن ترامب قابل للهزيمة، وأن ظاهرته ليست موجة المستقبل، وليست جزءا من ثورة رجعية شاملة في الحياة السياسية الأمريكية، عندما خسر انتخابات عام ١٩٢٠ أمام الرئيس الأسبق جو بايدن. 

وليس فوزه مرة ثانية بالرئاسة في الانتخابات الأخيرة نفيا لقابليته للهزيمة، ولا دليلا على انتصار نهائي أو لفترة طويلة لأولئك الرجال البيض الأغبياء، فمن المؤكد أن خطايا الديمقراطيين في المعركة الانتخابية هي التي ضمنت له الفوز، وكما هو معروف، فهذه الخطايا تبدأ من كارثة ترشح بايدن المُسن ، ثم فضيحة أدائه في المناظرة؛ بسبب تردي حالته الصحية، ثم إرغامه على الانسحاب، والاضطرار في وقت متأخر من الحملة إلى ترشيح نائبته كامالا هاريس (المرأة الملونة)، فقد أدّى كل ذلك إلى دفع الناخبين المتأرجحين إلى معسكر الرجال البيض الأغبياء.

إلى هنا نكون قد أثبتنا أنه ليس من المرجح أن تكون الظاهرة الترامبية هي موجة المستقبل في السياسة الأمريكية، كما سبق القول توا، سيما إذا تذكرنا، أنه من المستحيل اعادة التاريخ إلى الوراء، فيما يتعلق بالحقوق المدنية، وأن إرادة التقدم بالمعنى الحقوقي والاجتماعي موجودة وبقوة في المجتمع الأمريكي.

وبالطبع فمن المستحيل دستوريا، أن يترشح ترامب لفترة رئاسية ثالثة. 

وإذن، فإذا عدنا إلى موضوعنا الأصلي في هذه السلسلة، وهو الترانسفير أي تهجير الفلسطينيين من غزة، ثم الضفة الغربية تمهيدا لضم هذه الأراضي المحتلة إلى إسرائيل، ذلك المشروع الذي بادر ترامب- بوقاحة وسلف العنصريين الاستعماريين- إلى طرحه علنا، مستبقا حتى الحكومة الإسرائيلية، وغلاة الصهاينة في إسرائيل وخارجها، وقائلا بما لم يقل به أي رئيس أو مسئول أو سياسي أمريكي قبله.. نقول إذا عدنا إلى هذا الموضوع، فإنه يتأكد لنا، أن مفتاح هزيمة خطة الترانسفير هو الصمود الفلسطيني في الأرض، مهما يكن الثمن، والصمود العربي على رفض استقبال ترحيلات فلسطينية جماعية، مهما تكن الضغوط، مع تنفيذ استراتيجيات معرقلة ومستهلِكة الوقت، وفي مقدمتها المقترحات المصرية حول غزة، ومشروع إصلاح السلطة الفلسطينية، وإجراء انتخابات في الضفة والقطاع. إلى آخر تكتيكات واستراتيجيات إدارة الأزمة وتدوير المقترحات، حتى تنقشع هذه السحابة الترامبية السوداء من أفق السياسة العالمية كلها، ولسوف تنقشع بفضل الداخل الأمريكي قبل الخارج العالمي.