تزايدت الحالة الاحتجاجية في الفترة الأخيرة بشكل لافت للنظر من مختلف القوى المجتمعية المصرية، ولم ينجح النظام في إنهائها أو التقليل من حجمها، بالرغم من القيود القانونية والسياسية والأمنية التي تفرضها الإدارة على الحق في التجمع السلمي، ومنظومة الحقوق والحريات العامة منذ عام 2013.
ويضع القانون 107 لسنة 2013 الخاص بالاجتماعات العامة والتظاهر السلمي قيودا متنوعة على ممارسة هذا الحق، كما سبق لدوائر قضائية، أن تبنت رؤية الأجهزة الأمنية برفض طلبات تنظيم مظاهرات عدة مرات من ممثلي أحزاب الحركة المدنية تضامنا مع الشعب الفلسطيني.
ومع ذلك تحدث هذه الاحتجاجات بشكل متواتر، ووفق تقرير حقوقي أخير للمؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني، تم رصد 154 احتجاجا خلال العام 2024، وتنوعت بين احتجاجات عمالية وسياسية ومهنية وشعبية، بالإضافة إلى فئات نوعية أخرى منها الطلاب والسجناء وأسرهم.
ولا تتم هذه الاحتجاجات للمطالبة بالحقوق السياسية فقط، بل تتعداها إلى مطالب تخص توفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومنها الحق في العمل والسكن، كما تمثل اعتراضا على نقص الخدمات العامة والمحلية.
تبدو محافظتا القاهرة والجيزة في المقدمة؛ نظرا لحجم الكثافة السكانية هناك، إذ بلغت الاحتجاجات في القاهرة 80 احتجاجا خلال العام 2024، فيما وصلت إلى 19 في محافظة الجيزة. ووصلت هذه الاحتجاجات إلى 104 احتجاجات في محافظات القاهرة الكبرى “القاهرة، الجيزة، القليوبية” بنسبة تزيد على ثلثي الاحتجاجات، والتي توزعت في 22 محافظة أخرى من إجمالي محافظات مصر البالغ عددها 27.
وتظهر محافظات عدة في الوجه البحري وجودا احتجاجيا قويا منها، الدقهلية، والبحيرة، والغربية التي تضم عدة مصانع للغزل، وكذلك محافظة الإسكندرية، بالإضافة إلى تزايد حجمها في محافظات الوجه القبلي، وجاءت محافظة أسوان بمفردها بـ 6 احتجاجات. كما امتدت هذه الظاهرة إلى عدد من المحافظات الحدودية مثل، مرسى مطروح، وجنوب سيناء، والبحر الأحمر.
من جانب آخر، تنوعت أشكال تلك الاحتجاجات، والتي لم تقتصر على الوقفات والتظاهرات والاعتصامات، إذ امتدت إلى ممارسة الإضراب عن العمل، وعن الطعام واللذين وصلا إلى مستويات متزايدة، إذ بلغا 17، 20 احتجاجا لكل منهما خلال العام 2024. هو ما يظهر أن هناك أشكالا مختلفة من الاعتراض، دخلت بقوة ضمن أفعال المصريين، وسعيا لتحقيق مطالبها، منها المذكرات والبيانات وحملات التوقيعات، ويأتي بعضها للتحايل على القيود الموضوعة على تنظيم المظاهرات العلنية في المناطق المفتوحة التي سرعان ما يجهضها الأمن.
وتعكس هذه الاحتجاجات بوضوح عددا من الأزمات في جانبها الاقتصادي والاجتماعي، كما تعبر عن أزمة اقتصادية طاحنة، تتعرض لها الطبقة الوسطى والفقراء. ولا يخفى القلق المتزايد في أوساط المهنيين من تشريعات، قد تستهدفهم على غرار قانون المسئولية الطبية.
وتأتي القوى العمالية؛ لتكون الأكثر قدرة وتنظيما في ممارسة الفعل الاحتجاجي، خارج ما يفرضه القانون من قيود، من خلال تنظيم الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات والإضرابات عن العمل، والتي امتدت لمدد طويلة، سعيا لتحقيق مطالبها ومنها صرف الأرباح السنوية، وبدل الإجازات والتثبيت، وأهمها على الإطلاق تطبيق الحد الأدنى للأجور الذي يقره القانون، ولا يتجاوز هذا الحد الأدنى حتى الآن الـ 6000 جنيه، أي ما يوازي 120 دولارا، وهو أقل كثيرا، مما تحتاجه الأسر المصرية للوفاء باحتياجاتها اليومية في إطار ارتفاع التضخم إلى مستويات كبيرة.
وهي مرشحة للتزايد مع نظر مجلس النواب لمشروع جديد لقانون العمل، ينحاز إلى أصحاب العمل، ويضع قيودا كبيرة على الحق في الإضراب، ولا يحل أزمات تعسف اصحاب العمل مع العمال، والتي وصلت إلى الفصل التعسفي.
من جهة أخرى، يعكس عدد من الاحتجاجات أزمة تردي الحقوق والحريات العامة، والتي تفرض وضعا مأساويا على آلاف السجناء الذين يتعرضون لحبس احتياطي مطول لسنوات، وتحديا لهذه القيود، مارس مئات السجناء الإضراب عن الطعام ضد هذه الانتهاكات، وقد نظم عدد من المعارضين بعض هذه الإضرابات، ومنهم النشطاء محمد عادل، ومحمد أكسجين، وعلاء عبد الفتاح، ود. عبد المنعم أبو الفتوح، والباحث عبد الخالق فاروق.
يمارس باقي السجناء الآخرين هذه الاحتجاجات، والتي وصلت إلى 58 احتجاجا خلال 2024؛ لطلب الحد الأدنى من حقوقهم القانونية، وعلى العكس تمارس إدارات السجون انتهاكات متزايدة، تؤدي إلى وفاة عشرات المحتجزين؛ بسبب غياب الرعاية الصحية داخل مراكز الاحتجاز.
وانضم أسر السجناء وأصدقائهم إلى هذا الفعل الاحتجاجي، من خلال تقديم المبادرات المختلفة لطلب العفو عن ذويهم، والقيام بإضرابات مماثلة، ومن أهمها ما قامت به د. ليلى سويف والدة الناشط علاء عبد الفتاح التي يستمر إضرابها من نهاية شهر سبتمبر الماضي حتى الآن.
هناك أيضا احتجاجات نظمها الأهالي والمواطنون، جاءت في قضايا متنوعة منها رفض الإخلاء القسري لمساكنهم، واحتجاجا على نقص الخدمات المحلية، مثل انقطاع المياه، أو رفض فساد الأجهزة المحلية.
من الواضح أن هناك نشاطا لفئات متنوعة منها، الصحفيون ونشطاء القوى السياسية، وهو ما يدشن العودة لاستخدام سلم نقابة الصحفيين كمنبر لممارسة هذا الحق سواء في التضامن مع الشعب الفلسطيني ضد حرب الإبادة الجماعية في غزة، أو في التضامن مع زملائهم المحبوسين.
كما ظهر خلال العام عدد من الاحتجاجات الطلابية، وإن بشكل خجول، ممثلا في نشاط واضح لطلاب الجامعة الأمريكية وجامعة الجلالة وطلاب الثانوية العامة.
وتوضح هذه الظاهرة الاحتجاجية عددا من المؤشرات أهمها:
ـ عجز اجهزة الدولة عن انهاء الظاهرة، خاصة من جانب القوى العمالية التي يمكن أن تمثل نواة صلبة لاستمرارية لتلك الاحتجاجات، بالرغم من حالات القبض والاستدعاء الأمني، ويفرض التضامن النقابي والسياسي حدودا على قوات الأمن في استخدام القوة؛ لوأد تلك الاحتجاجات التي تستهدف تحقيق مطالب اجتماعية ومالية ونقابية، بالإضافة إلى بروز مخاوف من إثارة هذه الانتهاكات في المحافل الدولية. وهو ما يمكن أن يؤدي إلى اتساع الهامش السياسي للظاهرة الاحتجاجية، يمكن أن يفرض مستقبلا تغيير الإطار القانوني المنظم لتلك التجمعات، وإحداث تغيير جزئي في الساحة السياسية.
ـ يمكن أن تمثل تزايد وتيرة تلك الاحتجاجات مقدمة لنشاط سياسي، يشبه ما حدث في الفترة من 2005 حتى 2011، والتي أدت إلى مزيد من تنظيم الفئات المختلفة لنفسها، وبالتالي الضغط لمزيد من المشاركة في صنع القرار من جانب المعارضة، وإمكانية ممارسة ضغوط متوالية على السلطة؛ لحل ملف سجناء الرأي.
ومع ذلك هناك تحديات أمام هذا الحراك الاحتجاجي، تتمثل في إمكانية صدور عدد من القوانين المقيدة أهمها، قانوني العمل، والإجراءات الجنائية الجديد الذي ينتهك الكثير من ضمانات المحاكمة العادلة، ويطيح بالحق في الدفاع. وهو ما يحتاج للتركيز لوضع خطط لمواجهة هذه التشريعات المقيدة في الفترة القادمة.