تعد إثيوبيا أبرز دولة إفريقية حبيسة، إضافة إلى 13 دولة أخرى، موزعة في أقاليم شرق وغرب ووسط وجنوب القارة. واتبعت أديس أبابا في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد اتفاق السلام الذي وقعته مع إريتريا في العام 2018، استراتيجية الوصول إلى البحر الأحمر بشتى السبل الممكنة، عسكرية أو سياسية، حسبما فُهم ضمنًا من تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قبل شهور، وإن تداركها في نوفمبر 2024، بتأكيده أن بلاده تسعى لذلك “عبر السبل السلمية” (وحدها). وجددت تصريحات دبلوماسية إثيوبية في مارس الفائت، وما صاحبها من جدل سياسي داخل البلاد، مسألة الوصول للبحر الأحمر إلى الواجهة، باعتبارها أولوية في سياسات آبي أحمد الخارجية في المرحلة الراهنة، مما يؤشر لصدامات إقليمية واضحة مع تبني مصر وإريتريا موقفًا واضحًا برفض تلك المساعي جملة وتفصيلًا، وترقب مقلق لتحولات ترتيبات أمن البحر الأحمر بعد التصعيد بين واشنطن وجماعة الحوثيين، وما تلاها من مكالمة هاتفية مهمة بين الرئيسي الأمريكي دونالد ترامب والمصري عبد الفتاح السيسي (1 إبريل الجاري)، حضرت فيها تلك الترتيبات بشكل واضح دون تقديم تفاصيل مزيدة حتى الآن.
البحر الأحمر في الرؤية الإثيوبية
تقوم رؤية إثيوبيا “لحقها” في الوصول للبحر الأحمر على حزمة من الحجج “التاريخية”، ومبررات المصالح الاستراتيجية التي تسعى إثيوبيا لحمايتها، باعتبارها دولة مجاورة لحوض البحر الأحمر، وتتأثر بشكل بالغ، وحساس بأية متغيرات في هذا الإقليم. ويرى بعض الخبراء الإثيوبيين (أديس ستاندارد- 2 إبريل)، أن الصلة بين الأهمية الجيو استراتيجية للبحر الأحمر والمصالح الاستراتيجية لإثيوبيا، تجعل الأخيرة بالغة الحساسية إزاء الأحداث في البحر الأحمر، “وحول هذا الممر المائي”، وجاء ذلك بعد تأكيدات آبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي (20 مارس الفائت)، أن حكومته لا تسعى للصراع مع إريتريا “على خلفية هدف الوصول للبحر الأحمر”، ومطالبته بالدخول في مفاوضات مع إريتريا “لتأمين هذا الحق”، وهي التأكيدات التي جاءت لخفض سقف توقعات اندلاع صراع إقليمي موسع، يبدأ بين إثيوبيا وإريتريا، وكان محتملًا اتساعه ليشمل أطرافًا أخرى في ضوء المتغيرات الإقليمية السريعة، وتعزز وضعيات الحلول الصفرية في ملفات أخرى متشابكة مع قضايا “البحر الأحمر”.
ولم تكتف أديس أبابا بتداول داخلي للمسألة، بل عمدت بالفعل في الأسابيع الأخيرة إلى طرح “حقوق” وصولها للبحر الأحمر أمام فعاليات وتجمعات دولية مهمة في الآونة الأخيرة. وعلى سبيل المثال، طرح مسئولون إثيوبيون في اجتماع مجموعة بريكس لنواب وزراء الخارجية (برازيليا 27-28 مارس الفائت) هذه المسألة عبر الترويج لرواية مفادها حق إثيوبيا “الثابت”، كونها “أكبر دولة عددًا في السكان “على السواحل الإفريقية على البحر الأحمر والمحيط الهندي”، ومن ثم، حسب السفير الإثيوبي في القمة، فإنه من مصلحة الجماعة الدولية دعم تعاون دولي شامل حول البحر الأحمر والمحيط الأطلنطي. قبل إضافة تلميح تاريخي، وهو استخدام إثيوبيا لسواحل البحر الأحمر قبل انفصال إريتريا عن إثيوبيا في العام 1993، وهو ما يمثل تشوهًا واضحًا في تقديم أسس تاريخية غير واقعية بالمرة، وتعتمد في المقام الأول على حشد مواقف دعائية.
يتضح من قراءة المواقف الإثيوبية، وتدرجها من التهديد باستخدام القوة العسكرية (مع إريتريا بشكل صريح تارة، ومع الصومال بتهديدات غير لائقة لنظام الرئيس حسن شيخ محمود مطلع العام الجاري)، إلى مطالب بالمفاوضات (مرهونة بصياغة غير لائقة بوصف الهدف الرئيس لمساعي إثيوبيا للحصول على منفذ بحري “بالحق”) وإبداء قدر أكبر من التفاهم والتدرج في سبيل الحصول على هذه الغاية؛ يتضح أن إثيوبيا تستخدم كافة السبل الممكنة بالفعل، بما في ذلك ما قد يؤدي إلى انتهاك سيادة دول الجوار.
الوصول الإثيوبي للبحر الأحمر والتهديدات الإقليمية
طرح نائب مدير المخابرات الصومالية إسماعيل عثمان رؤية هامة لتداعيات الخطة الإثيوبية على الأمن الإقليمي في مجمل إقليم البحر الأحمر (Modern Diplomacy, December 2024)، كان قوامها أن الاستراتيجية الإثيوبية تقوم بالأساس على مضاعفة التهديد لدول الإقليم، وخلق بيئة جيو سياسية تضر بالسلم الإقليمي وتزعزع استقرار الصومال، وإضعاف “الدول الإسلامية” المطلة على البحر. وأكد عثمان، فيما يخص الحالة الصومالية، أن إثيوبيا تعتمد نهجًا تقليديًا للحيلولة دون صعود حكومات قوية في دول جوارها، لا سيما في الصومال. وهي ملاحظة تجد أسسًا واقعية عند النظر في سلوك إثيوبيا تجاه مناطق أزمات السودان والصومال والتوتر التصعيدي مع مصر؛ بسبب ملف سد النهضة. كما أشار لملاحظة هامة للغاية، وهي أنه رغم عرض جيبوتي– المتكرر في واقع الأمر- لفتح موانيها أمام مزيد من التجارة الإثيوبية وبشروط تفضيلية فإن أديس أبابا وجدت تشجيعًا مستمرًا من دول غربية (لاسيما فرنسا) لتوسيع حجم مطالبها بهدف الحصول على حقوق سيادية لإدارة مواني داخل دول الجوار (الصومال والسودان وإريتريا وجيبوتي في سياقات متباينة موضوعيًا وزمنيًا)، وعلى المدى البعيد تهديد مكانة النفوذ الصيني في البحر الأحمر، مما يكشف عن حجم الدور الإثيوبي في التوازنات الدولية في الإقليم من باب السعي لتحقيق مصالح إثيوبية.
بأي حال، فإن هذا التحليل يجد بلورة أكبر له في مساعي أديس أبابا لنيل منفذ بحري عبر مذكرة تفاهم مع إقليم ارض الصومال المطالب بالانفصال عن جمهورية الصومال الفيدرالية (الموقعة يناير 2024). وفيما يتصل بهذا المثال، يلاحظ تشابك المساعي الإثيوبية مع المقاربات الأمريكية والإسرائيلية تجاه الإقليم مقابل الحصول على قاعدة بحرية فيه، حسب تقارير عديدة من مراكز التفكير الأمريكية (مثل Foreign Policy in Focus, March 31, 2025). وحسب قراءة هذه المراكز، فإن أرض الصومال كانت من الوجهات التي حددتها إدارة ترامب (بتنسيق مفترض مع حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية) لإرسال أعداد من الفلسطينيين من قطاع غزة، إضافة إلى اتخاذ موقع استراتيجي بالإقليم، يمكن إسرائيل على وجه التحديد من تسديد ضربات لمجموعات الحوثيين في اليمن، إضافة إلى قرب أرض الصومال النسبي من مواقع مفاعلات إيران النووية الرئيسة في مدينة بوشهر الواقع قرب سواحل الخليج العربي، وأنه “يمكن لسرب طائرات إف-35 الإقلاع من أرض الصومال وضرب بوشهر مباشرة، دون الطيران فوق أية دولة عربية، مما يمنح الطيارين الإسرائيليين فرصة تدمير نظم دفاع إيران”.
ويتضح من هذه القراءة خطورة مساعي إثيوبيا لنيل منفذ بحري على أكثر من صعيد: مثل تهديد أدوار دول الإقليم (لا سيما مصر والسعودية) لصالح أدوار إسرائيل في البحر الأحمر بشكل فائق، وما يعنيه من وجود تنسيق إثيوبي- إسرائيلي محتمل في البحر الأحمر (من بوابة أرض الصومال، أو أي منفذ تستطيع إثيوبيا امتلاكه بشروط سيادية) من خلخلة غير مسبوقة للوجود المصري تحديدًا (والسعودي في سياقات أخرى) في البحر الأحمر؛ وتعزيز فرص مد “ذراع إسرائيل الطويلة” نحو إيران بشكل مستدام، ولا يقتصر على أية عمليات تكتيكية، أشارت لها تقارير مختلفة، كما تهدد المساعي الإثيوبية، بغض النظر عن تحليلها هنا وفق قواعد القانون الدولي، ومدى انتهاكها لأبسط أسسه، بتراجع مكانة دول مهمة في التجارة الدولية المارة بالبحر الأحمر مثل، جيبوتي (التي ستفقد على الفور جزءًا كبيرًا من عائداتها من التجارة الإثيوبية المارة بأراضيها حال امتلاك إثيوبيا منفذًا بحريًا بشروط سيادية وتفضيلية، لا يمكن لجيبوتي تعويضها).
الاستجابة المصرية: العامل الأمريكي
يمكن النظر لحضور ملف البحر الأحمر في المحادثة الهاتفية بين ترامب والسيسي (1 إبريل) مؤشرًا على تحركات خطيرة في الفترة المقبلة في هذا الملف؛ رغم تأكيد بيان رئاسة الجمهورية في مصر على إيجابية المكالمة بشكل عام (مع ملاحظة عدم إشارة تصريحات ترامب حول المكالمة لترتيبات أمنية إضافية في البحر الأحمر والاكتفاء بتأكيد مناقشة مواجهة اعتداء الحوثيين على حركة السفن)، وأن “الرئيسين تناولا تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط وجهود الوساطة لاستعادة الهدوء للمنطقة وهو ما ينعكس بصورة إيجابية على الملاحة في البحر الأحمر، ويوقف الخسائر الاقتصادية لكل الأطراف”. وتشي المقاربة الأمريكية التقليدية في القرن الإفريقي والبحر الأحمر بتصعيد مستمر، حتى حافة الهاوية؛ الأمر الذي يمكن معه تصور تقديم دعم أمريكي مرحلي لخطط إثيوبيا (الممولة من أطراف خليجية منافسة للنفوذين المصري والسعودي في الإقليم) الوصول للبحر الأحمر من أجل إحداث ما تعتبره توازنًا مهمًا في الإقليم، ورفع القدرة التفاوضية للضغط على القاهرة في عدة ملفات متشابكة مثل إيران، وغزة.
وجاءت مكالمة ترامب مع السيسي بعد ساعات من أول محادثات هاتفية لوزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو مع آبي أحمد (30 مارس)، والتي شملت سبل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، ولا سيما “الاستقرار في القرن الإفريقي”، وتوقع مراقبون إثيوبيون شمول المحادثات الهاتفية طرح إثيوبيا رؤيتها للوصول إلى منفذ بحري على البحر الأحمر دون الإشارة إلى طبيعة الاستجابة الأمريكية.
لكن بالنظر إلى كون القرن الإفريقي منطقة نفوذ أمريكية تقليدية وحصرية، منذ عقود ما بعد نهاية الحرب الباردة، وسقوط نظام سياد بري في الصومال، والنظام الماركسي في إثيوبيا، فإن موقف واشنطن من أي وصول إثيوبي للبحر الأحمر لا يتعلق بالتطورات الأخيرة في البحر الأحمر بطبيعة الحال، أو حتى بتغيير الإدارة الأمريكية، بل إن المواقف الأمريكية تظل قائمة بشكل كبير على احتواء التناقضات وممارسة الضغوط القصوى على دول الإقليم، والدول الأخرى ذات المصالح الاستراتيجية فيه وصولًا لتلبية حزمة المطالب الأمريكية بأقل تكاليف ممكنة (بالنسبة لواشنطن). ويتضح ذلك في التفاهمات الحالية بين مقديشو وواشنطن بشأن منح الأولى للثانية امتيازات لوجيستية فائقة في عدد من مواني الصومال، وضغط واشنطن المستمر لمراجعة إثيوبيا أفق علاقاتها التجارية مع الصين، وتفهم واشنطن طبيعة مخاوف مصر الأمنية في البحر الأحمر، والعمل على خفض أعباء اضطراب الملاحة في الإقليم (حسب تصريحات البيت الأبيض تعليقًا على مكالمة ترامب- السيسي)، والتي تحملت مصر الجانب الأكبر منها.
بأي حال، فإن تطلع إثيوبيا للحصول على منفذ بحري “سيادي” على البحر الأحمر بات يتشابك أكثر من أي وقت مضى مع التحركات الأمريكية- الإسرائيلية في الإقليم، وربما تعتبر أديس أبابا الوقت مثاليًا لتحقيق هذا الاختراق؛ لكن تعقيد الأوضاع في إريتريا والصومال، والرفض القاطع من قبل مصر، وأغلب الدول الإفريقية المطلة على البحر الأحمر، إن لم تكن جميعها، لخطوة أديس أبابا، يهدد كل ذلك بتعقيد الأمور وإعادة إطلاق أزمة جديدة- قديمة غير محسوب تداعياتها بدقة.