تناقلت منصات الأخبار العالمية أحاديث عن:
1- مشاورات بين الإمارات وتركيا، وهي الجولة الثانية من نوعها، يناقش فيها البلدان مستقبل القارة الإفريقية، لغة استعمارية واضحة، تعيد إلى الأذهان لقاءات التفاهم الأوروبية في مؤتمر برلين 1884- 1885، ومن نافلة القول التذكير، بأن الإمارات ليست إفريقية، كما أن تركيا ليست إفريقية، لكنهما تنشطان فيها بهمة استعمارية وليدة في حالة الإمارات، وبهمة استعمارية مستعادة في حالة تركيا، فمنذ القرن السادس عشر الميلادي، كان للدولة العثمانية حضور استعماري في طرابلس ليبيا وعموم شمال إفريقيا، كما في البحر الأحمر وشرق إفريقيا، وكل ماتفعله هو استعادة الحضور القديم، والإمارات تلعب في السودان الدور الذي كان يلعبه الاستعمار البريطاني بصورة فيها الكثير من الخبث البريطاني، لكن تخلو من ذكاء الخبرات البريطانية في النشاط الاستعماري، حيث كان الإنجليز يسعون قدر الطاقة لتفادي القدر الأكبر من كراهية شعوب المستعمرات، ونجحت بريطانيا في تصريف طاقة الكراهية عند قطاعات كبيرة من السودانيين؛ لتكون تجاه مصر والمصريين العاملين في الإدارات السودانية، العكس من ذلك يحدث في السودان، حيث تنصرف طاقة الكراهية تجاه الإمارات، والإمارات ترد بقسوة وغلظة وتستمر في تمويل وتسليح الطرف الموالي لها في الحرب الأهلية في السودان، وقد رفعت حكومة السودانية قضيتها إلى محكمة العدل الدولية تتهم الإمارات بجرائم حرب، سياسات بريطانيا الاستعمارية في السودان فصلت السودان عن مصر ووضعت بذور أحقاد كامنة، ثم نجحت على المدى الطويل في فصل جنوب السودان عن شماله، الإمارات تساهم بحماسة فيما من شأنه الانتهاء بتقسيم دموي، لما بقي من السودان في شماله وغربه وشرقه. ظهور الإمارات في إفريقيا هو ميلاد قوة استعمارية جديدة، أما ظهور تركيا فهو عودة استعمار قديم، والتفاهم بين البلدين هو لقاء بين المال الجاهز للاستعمار، وخبرة عدة قرون عثمانية راغبة في العودة لمزاولة نشاط استعماري.
2- كما تناقلت الأنباء مشادات تعقبها ملاينات بين إسرائيل وتركيا على مناطق النفوذ في سورية، وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية للتنسيق بين حليفيها المقربين رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس التركي، خاصة أن الثلاثة: أمريكا وتركيا وإسرائيل لديهم خبرة تعاون ناجحة في القضاء الحاسم على حكم آل الأسد، وفي التمكين لحكم هيئة تحرير الشام فلولا تعاون الثلاثة، ومعهم دولة قطر، لم يكن للعملية أن تنجح في إنهاء حقبة الأسد وتدشين حقبة الإسلام السياسي السني، أياً ما تكون فصول التفاهم أو التنازع بين تركيا وإسرائيل حول اقتسام النفوذ في سوريا، فإن الحقائق على الأرض ليست لصالح أي منهما سواء من جهة كم المشاكل الضخمة التي تئن منها سوريا في اقتصادها ومجتمعها وتكوينها الطائفي، وهشاشة نظامها السياسي الوليد وغرابة جيشها الذي خرج حطاماً من حرب أهلية تواصلت 14 عاماً، ثم انفتحت أحشاؤه لاستيعاب عدة فصائل مسلحة لها طبائع المليشيا العشوائية، وأبعد ما تكون عن طبائع الجيوش النظامية المنضبطة، ثم تنسى كل من إسرائيل وتركيا حقيقة بالغة الأهمية: سوريا الحديثة هي المهد الأول للقومية العربية، والقومية العربية كان عدوها الأول الاستعمار العثماني، ثم بعد زوال الاستعمار العثماني، باتت العداوة الأكبر للصهيونية وإسرائيل، لا يفهم الشعب السوري على أصالته وعراقته، من يحكم عليه، وهو خارج من 54 عاماً ديكتاتورية، والـ14 عاماً الأخيرة منها كانت حرباً أهلية، هجرت نصف الشعب للخارج، ونزح نصفه الثاني في الداخل، وتكالبت عليه روسيا وإيران وأمريكا وقطر والإمارات والسعودية، تتنافس في التمويل والتسليح، حتى خربت أولى معاقل الحضارة العربية والإسلامية التي بسطت سلطان قوتها وحكمتها على العالم القديم من السند في شمال الهند، حتى شواطئ الأطلنطي في أقصى غرب أوروبا، الحالة السورية الراهنة التي تستبيح فيها تركيا وإسرائيل الأرض والسيادة السورية، هي حالة مؤقتة، القبول بها مؤقت، واستمرارها لن يدوم، فلم يناضل الشعب السوري مائتي عام ضد الاستعمار العثماني، ثم ضد الاستعمار الفرنسي، ثم ضد الديكتاتوريات العسكرية، ثم يختم بحرب أهلية مدمرة، ثم يقبل بعد ذلك كله، أن يخضع لقواعد لعبة استعمارية ضيقة الأفق، يلعب فيها الترك والصهاينة بسيادة سوريا وأمنها وكرامتها ومصالح شعبها، منذ مطلع القرن الـ21 ثم مع ثورات الربيع العربي، بدأت تركيا، تستحوذ على ولاءات وعواطف ايجابية بين كثيرين من العرب، لكن هذا أيضاً مؤقت، سوف يزول ريثما ينكشف لهؤلاء حقائق السياسة التركية العميقة، بعد أن تنزوي الظواهر البراقة والخادعة التي توحي بها قيادة ذكية في التلاعب بعقول الأتباع مثل قيادة أردوغان، فالعمق التركي ضد العرب، مثلما العمق العربي ضد الترك ، الوهابية في الجزيرة العربية، ومن بعدها الدولة السعودية، كانت ضد الترك، القومية العربية في الشام كانت ضد الترك، الثورة العرابية في مصر كانت في جزء مهم منها ضد الترك الذين يمثلون طبقة أعلى ذات امتيازات على حساب المصريين، الثورة المهدية في السودان في جزء منها ضد الترك، شعار مصر للمصريين في مطلع القرن العشرين، كان موجهاً ضد الترك والإنجليز دون فرق بينهما، ثورة 23 يوليو 1952، أنهت حكم سلالة الباشا، وهي آخر معاقل الأتراك في مصر، الحنين الرومانسي الذي يداعب بعض العرب تجاه تركيا، هو مجرد نوستالجيا، الوهم فيها أكثر من الحقيقة والخيال فيها أكثر من الواقع، فهي مجرد حلم لا ينفك يصحو صاحبه، فيتبدد ويتلاشى ويزول، تركيا الآن دولة وطنية قومية محضة علمانية في بنيتها السياسية وإسلامية في خطاب حزبها الحاكم، وهي في كل الأحوال أمة صوفية منقسمة بين التقليدية المحافظة والحداثة المتحررة، وهذا الانقسام في حد ذاته نقطة ضعف لا قوة.
3- كذلك تناقلت الأنباء مساعٍ قطرية للنيل من صورة مصر ومساهمتها في الوساطة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، قطر أذاعت نفياً قاطعاً لتلك الأنباء، بينما لم تعلق مصر عليها، واعتبرها العقلاء دسيسة من الصهاينة للوقيعة بين البلدين، خاصة أن من أذاعها هي مصادر إسرائيلية، وأياً كانت مصداقية الواقعة، والله أعلم بها، فهي شيء متواضع جداً، إذا قورن بمجهود قطري جبار منتظم ومتواصل من منتصف تسعينيات القرن العشرين للنيل من هيبة مصر وسمعتها ومكانتها، فإعلام قطر كان أول مدفعية ثقيلة دكت صورة مصر دكاً غير مسبوق، ساعده على ذلك أن مصر كانت قد دخلت في مرحلة استرخاء سلطاني كسول بليد، أحسن الأستاذ محمد حسنين هيكل وصفه، عندما قال، إن أركان السلطة ورجالاتها الكبار قد شاخت في مواقعها، من ذاك التاريخ، وحتى كتابة هذه السطور، لا يزال سماء مصر مكشوفاً أمام سطوة وهيمنة منصات الإعلام الخليجي، وقد حاولت مصر أكثر من مرة استعادة قدر من التوازن، لكنها في كل مرة لا تحقق غير قليل جداً من النجاح لا أثر له في الحقيقة، هذا الإخفاق ليس فقط لأن مصر تفتقد الإمكانات المادية، لكن لأن مصر تفتقد الرؤية الاستراتيجية، كما تفتقد معايير الكفاءة وتقدم عليها معايير الولاء أو اللا معايير من الأساس.
السؤال الآن، لماذا كل ما سبق، لماذا اللحظة العربية الراهنة تقع تحت سطوة اسرائيل ومعها تركيا، ومعها الخليج ومن فوقهم جميعاً أمريكا، لماذا تركيا والإمارات تتشاوران حول مستقبل القارة الإفريقية بكاملها، لماذا تركيا وإسرائيل تتقاسمان النفوذ في سوريا، لماذا قطر تسعى للنيل من صورة مصر؟
للجواب اقترح نقرأ هذين النصين، اقتبستهما من بعض ما كتب وحذر وأنذر المفكر المصري الفرنسي العظيم الدكتور أنور عبد الملك، فقد كتب في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، أي من ثلاثين عاماً، كأنه معنا الآن، يشهد ما نشهده ويعاين ما نعاينه.
1- النص الأول من ص 266 من كتاب الوطنية هي الحل من منشورات الهيئة العامة لقصور الثقافة يقول: “تعلن الصحف في مطلع ديسمبر 1998 القرار الأمريكي ببناء أكبر قاعدة حربية استراتيجية في العالم في دولة قطر؛ بغية دق الإسفين الدامي بين العرب من ناحية وإيران وآسيا الوسطى والجنوبية من ناحية أخرى، وكذا الإعداد لاحتلال إفريقيا الوسطى، وتقسيم السودان، ومحاصرة مصر”. انتهى نص الاقتباس الأول.
2- في ص 277 وما بعدها، ينبه الدكتور أنور عبد الملك، إلى أننا نعيش في قلب حرب عالمية شاملة، بدأت مع اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل 1978، لكن تم التمهيد لها على عدة مراحل:
1- محاصرة عبور أكتوبر المجيد 1973 سياسياً، ثم اقتصادياً وثقافياً، بدءاً من 1975- يقصد اتفاق فض الاشتباك النهائي بين القوات المصرية والإسرائيلية على جبهات القتال- انتهاءََ بكامب ديفيد، وما ترتب عليها من انقسامات وثغرات واستسلام لليأس والأوهام في عالمنا العربي.
2- تفجير حرب الخليج الأولى 1980- 1988 التي أنهكت قوى العراق وإيران، ثم حرب الخليج الثانية باستدراج الكويت لغزو العراق، بعد أن هدد الرئيس العراقي بمحو نصف الدولة الصهيونية من الوجود، وهذا التهديد هو سبب ما يتعرض له العراق حتى اليوم.
3- تكوين الكتلة الإفريقية للسيطرة على منابع النيل في وسط إفريقيا.
4 – حرب الخليج الثالثة التي استمرت من 1998 حتى 2003، حيث بدأت بضرب العراق وأفغانستان والسودان في وقت واحد.
5- أخيراً، نصل إلى صلب الموضوع، إلى مفتاح الأوضاع الراهنة، إلى الجواب الذي يفسر لك السؤال الأكبر: لماذا هذه الشراكة بين تركيا وإسرائيل والخليج على هندسة الإقليم ورسمه وقيادته وإعادة تشكيله وصياغته؟!.
في ص 279 من الكتاب المذكور، وفي الأسبوع الأول من فبراير 1999، كتب الدكتور أنور عبد الملك يقول بالحرف الواحد: “وأخيراً- يقصد مراحل الحرب العالمية الشاملة- تكوين نواة الحلف الاستراتيجي، الذي ينتظرون أن يحل محل التدخل الأمريكي المباشر في الشرق الأوسط، تتكون نواة هذا الحلف الاستراتيجي من: تركيا، ثم الدولة الصهيونية، ثم الأردن، ثم قطاع واسع من الخليج”.
ثم يقول: “على أن تكون قيادته- قيادة نواة الحلف- للدولة الصهيونية. انتهت الاقتباسات.
……………
لعل هذا يفسر لك: لماذا تفككت كافة الروابط العربية، بما في ذلك الجامعة العربية التي فقدت جدواها تماماً، ثم يفسر لك لماذا تدهور الحال بكل الدول العربية ذات القيمة باستثناء دول الخليج، ثم يفسر لك التقارب والدور المشترك المتنامي لتركيا واسرائيل والخليج، أو ما يسميه الدكتور أنور عبد الملك نواة الحلف الاستراتيجي؟!