ما الذي استجد على رهانات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في أزمات الشرق الأوسط المتفاقمة؟
ثمة شيء جديد اختلف في علاقته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” ومقارباته للحرب على غزة، والحرب المحتملة ضد إيران، لكن طبيعة سياساته تظل على حالها دون تعديل جوهري عليها.
لا يعني فشل “نتنياهو” في تحقيق أي إنجاز خلال زيارته الثانية للبيت الأبيض منذ عودة “ترامب” إليه، أن هناك مراجعة ما لمستوى الدعم الأمريكي.
في الزيارة الأولى، تماهى “ترامب” مع رؤية اليمين الصهيوني بدعوته لـ”تطهير غزة” من الفلسطينيين، بذريعة أن الحياة فيها باتت مستحيلة.
لا سأل عمن دمرها وشرد وجوع أهلها وقتل مئات الآلاف، أغلبهم من النساء والأطفال.. ولا خطر على باله، أن “نتنياهو”، الذي يجلس بجانبه منتشيا بما فوجئ به من تصريحات، مجرم حرب تلاحقه الجنائية الدولية.
كانت تلك شراكة متكاملة الأركان في الإبادة الجماعية والتهجير القسري.
ما الذي استدعى بالزيارة الثانية انقلاب الصور من الانتشاء إلى الصدمة؟
بدا “نتنياهو” هذه المرة ديكورا في المشهد الترامبي، أو موظفا يتلقى التعليمات دون استطلاع رأي مسبق.
استُدعي إلى البيت الأبيض، دون أن يكون لديه أدنى معرفة، بما سوف يُطرح عليه من قرارات وأوامر.
أُلغي المؤتمر الصحفي المشترك، الذي كان مقررا، دون أن يعرف: لماذا؟
أراد البيت الأبيض، ألا يُتِح أمامه أية فرصة لإرباك رسائل “ترامب” المستجدة.
إنها رسائل اقتضتها أزمة الرسوم الجمركية، التي وضعت الاقتصاد الأمريكي وصورة “ترامب” نفسه على فوهة بركان، يقذف حممه على العالم بأسره، الحلفاء والخصوم على قدم المساواة.
حاول “نتنياهو” أن يحصل على إعفاء، أو تخفيف ما، من تبعات الرسوم الجمركية على الاقتصاد الإسرائيلي، لكنه جُوبه برفض مهين، وجرى تذكيره بحجم المساعدات العسكرية والاقتصادية التي تحصل عليها إسرائيل.
لم يكن “ترامب” مستعدا لأية مجاملات في أزمة عاصفة.
حسب استطلاعات الرأي العام، فإن غالبية مواطنيه يناهضون الحرب التجارية، التي أعلنها دون تحسب، لما تلحقه من إضرار فادح بالأسواق الأمريكية.
خرجت تظاهرات واحتجاجات، وارتفعت أصوات مؤثرة من داخل إدارته أبرزها الملياردير المثير للجدل “أيلون ماسك”، داعية إلى التراجع.
لتجاوز الأزمة يراهن “ترامب” على أمرين.
أولهما، التفاوض مع الدول الكبرى المتضررة، خاصة أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وربما الصين لتطويق التداعيات السلبية بالوصول إلى حلول وسط.
وثانيهما، تهدئة الأجواء الملتهبة بالمخاوف من أي تصعيد محتمل في الشرق الأوسط، لبناء بيئة أفضل تسمح بضخ تريليونات الدولارات من دول الخليج التي ينتوي زيارتها قريبا في شرايين الاقتصاد الأمريكي والعودة في نفس الوقت لمشروع السلام الإبراهيمي، مع السعودية بالذات.
إنها أزمة الرسوم الجمركية قبل أي شيء آخر.
الاعتبارات الاقتصادية قبل المقاربات الجيو سياسية.
أنه يريد نوعا من التهدئة في الحرب على غزة، حتى لا تؤثر مخاوف الخليج أثناء زيارته المنتظرة، التي تضم السعودية وقطر والإمارات، على هدفه ومبتغاه.
كان لافتا تكليف “ستيف ويتكوف” مبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط بالجلوس إلى “نتنياهو” لاطلاعه، على آخر ما جرى الاستقرار عليه لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن، دون أن يكون له حق الأخذ والرد.
إنها الطريقة الترامبية في إدارة الملفات الإقليمية والدولية.
ربما تحدث تعديلات جديدة على الورقة المصرية، التي تستند على أفكار “ويتكوف” لسد الفجوات.
بنص كلام “ترامب”: “العمل جار لتحرير الرهائن المحتجزين، لكنها عملية طويلة”.
الشق الأول، يوحي بقرب عقد اتفاق جديد.
الشق الثاني، يفسح المجال أمام “نتنياهو” للمماطلة والتحلل بذريعة “النصر المطلق”.
نص كلام آخر يصعب فك شفرته: “أود أن أرى الحرب تتوقف، أعتقد أن ذلك سوف يحدث في وقت ما، لكنه ليس بعيدا”.
الأخطر أنه عاد لجوهر دعوته إلى “تطهير غزة” والأطماع العقارية فيها.
“وجود قوة كالولايات المتحدة تسيطر على قطاع غزة، وتمتلكه سيكون أمرا جيدا” كاشفا عن اتصالات مع دول عديدة، لم يسمها لقبول تهجير الفلسطينيين إليها.
المسألة ليست أن يكون التهجير قسريا، أو طوعيا.
تكمن الخطورة في إخلاء غزة من مواطنيها والاستيلاء عليها وإنهاء القضية الفلسطينية، إذا ما جرى تهجير مماثل من الضفة الغربية إلى الأردن.
“لا أفهم لماذا أقدمت إسرائيل على الانسحاب من غزة عام 2005؟!”.
كان ذلك تصريحا ترامبيا يعكس جهله المفرط بالصراع العربي الإسرائيلي وحقائقه الأساسية.
ماذا قال في مداخلاته الهاتفية مع قمة القاهرة، التي ضمت الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”، والرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، والعاهل الأردني “عبد الله الثاني”.
لا توجد معلومات مدققة حتى الآن.
الأغلب أنه مال إلى التهدئة في ملف التهجير القسري؛ خشية أن ينفلت التوتر العسكري على الحدود لحرب واسعة تقوض اتفاقية “كامب ديفيد” أهم إنجاز أمريكي وإسرائيلي في الخمسين سنة الماضية.
“ماكرون” رفض التهجير القسري داعيا إلى وقف الحرب على غزة، وإنهاء المأساة الإنسانية، لكنه بنفس الوقت طالب بتقويض “حماس” والإفراج عن الأسرى والرهائن الإسرائيليين.
للكلام الفرنسي قوته المعنوية في أوروبا، لكنه يظل محدودا في إطار لا يتعداه.
كانت التهدئة المؤقتة مع إيران عنوانا ثانيا على مقاربات “ترامب” المستجدة.
لم يكن مستعدا لأي تصعيد في ظل أزماته المتصاعدة مع حلفائه الأوروبيين.
الغارات الجوية الكثيفة على اليمن فشلت في تقوض تمركزات الصواريخ الباليستية الحوثية، والتلويح بالغزو البري لليمن حماقة استراتيجية محكوم عليها بالفشل المسبق بالنظر إلى التضاريس الصعبة وكلفته، التي لا تحتمل من حياة جنودها.
الإعلان عن مفاوضات مباشرة مع الإيرانيين السبت المقبل مفاجأة أخرى، وصفت إسرائيليا بالصفعة لـ”نتنياهو”.
لا جديد في ذلك الإعلان باستثناء سياقه وروحه العامة، وهدفه المضمر لتهدئة مخاوف الخليج، من أن تمتد كتل النيران إلى مصادر النفط.
تسرع “ترامب” بالحديث عن مفاوضات مباشرة دون اتفاق مع الإيرانيين، الذين اضطروا إلى التأكيد أنها سوف تكون غير مباشرة بداعي تجنب الصدام المبكر، أو الخضوع لابتزازه.
تؤشر رئاسة “ويتكوف” للوفد الأمريكي، على أن “ترامب” هو الذي سوف يدير التفاوض، لا وزير الخارجية ولا مستشار الأمن القومي.
بتصريح لم يكن متوقعا، قال إن إيران قوية، وهو رجل يحب الأقوياء.
طالب “نتنياهو” بتحسين علاقته مع الرئيس التركي القوي “رجب طيب أردوغان” وتسوية خلافاتهما في سوريا، قاصدا تقاسم النفوذ والقوة، دون أدنى اعتبار للسوريين.
هذا نوع التهدئة، التي يطلبها في سوريا بداعي التزامه بإسرائيل والحب المتبادل مع “أردوغان”.
بتصريح صادم لوزير الخارجية التركي “هاكان فيدان”: “إذا أراد السوريون أن تكون لديهم تفاهمات معينة مع الإسرائيليين، فهذا شأنهم”!
التصريح بنصه وتوقيته يؤشر إلى تفاهمات تنتظر الإعلان عنها.
إنها دولة الرجل الواحد، الذي لا يمكن توقعه.