كتبت- إيمان رشدي

لم يكن لدى”طوني كساب” فكرة واضحة، عما كان يخبئ له المستقبل، عندما فر من منزله في مدينة حمص السورية، ووصل إلى الأرجنتين، حصل ابن السادسة والعشرين، على تأشيرة إنسانية في إطار برنامج اللاجئين الجديد.

 إنه واحد من بين آلاف السوريين، يعيشون الآن في الأرجنتين في إطار “Programa Siria” الحكومي الذي يمنح تأشيرات إنسانية للأشخاص المتضررين من الصراع في سوريا.

ويقدم البرنامج الذي أطلق في 2014، وتم تعزيزه في سبتمبر 2016 مثالاً على تقاسم المسئولية، يمكن أن يتكرر أو أن يعتمد من قبل حكومات أخرى كجزء من الجهود الهادفة إلى وضع ميثاق عالمي بشأن اللاجئين.

مصر

إذا تركنا طوني والأرجنتين ومحطات اللجوء في الدول والقارات البعيدة والقريبة هربا من بلاد مزقتها الحروب، ماذا عننا نحن في مصر؟

استضافت مصر أكثر من 672 ألف لاجئ، وطالب لجوء مسجلين لديها من 62 جنسية مختلفة. 

الجنسية السودانية هي الأكثر عدداً منذ أكتوبر 2023، يليها الجنسية السورية، تليها أعداد أقل من جنوب السودان، وإريتريا، وإثيوبيا، واليمن، والصومال، والعراق.

يشكل الرقم السابق أكبر عدد مسجل في تاريخ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والتي تعمل على توفير خدمات الحماية للاجئين التي تشمل تحديد وضع اللاجئ، وعمليات إعادة التوطين والتسجيل والتوثيق.

يختلف الرقم السابق كليا عن الأعداد الحقيقية الغير مسجلة، والتي تتزايد بسبب الصراعات والحروب وانعدام الاستقرار في الشرق الأوسط، والتي دفعت آلاف الأشخاص من جنوب السودان وإثيوبيا والعراق واليمن إلى الفرار لمصر.

يقول رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، أن الأرقام عن إعداد اللاجئين في مصر تشير إلى نحو 9 ملايين لاجئ، من بينهم 4 ملايين سوداني، يليهم 1.5 مليون سوري، وهذا الرقم الكلي “أي الـ9 ملايين”، تم تقديرها قبل أن تحدث التطورات الأخيرة في السودان. ويتابع رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أنه في ضوء الوضع الحالي للأزمة السودانية، من المرجح أن العدد قد يزيد بنحو مليوني لاجئ إضافي.

وهذه الأعداد تسبب ضغطا هائلا تواجهه مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر، فيما يتعلق بخدمات تسجيل اللاجئين بمكتب المفوضية؛ نتيجة للزيادات السريعة بالأعداد.  

وهذا التضخم بالأعداد في أرقام اللاجئين السودانيين يعقبه طول فترات الانتظار للحصول على الوثائق، مما يجعل العديد من المواطنين السودانيين عرضة للاعتقال والاحتجاز، ويمنعهم من الوصول إلى الخدمات الأساسية.

الإصلاح التشريعي في مواجهه الاعداد المتزايدة

الإصلاح التشريعي في مواجهه الأعداد المتزايدة

 استمرار تدفق الأعداد الكبيرة والمتزايدة من اللاجئين إلى مصر، لا يتطلب فقط إصلاح القوانين التي تنظم وجود اللاجئين وطالبي اللجوء من أجل حماية حقوقهم.

فغياب التطبيق الفعلي لقانون اللاجئين وطالبي اللجوء، إضافة للعراقيل الإدارية وغياب ثقافة الاندماج وبرامج إعادة التوطين، كل هذا كان وما زال السبب الأكبر في معاملتهم، باعتبارهم أجانب لا تشملهم الحماية بصورة أساسية، مما أدى إلى استغلالهم واستبعادهم فعليا من سوق العمل الرسمية، وهو ما يعد انتهاكا للحقوق المكفولة لهم بموجب القانون الدولي.

لا يقتصر وجه الإصلاح الوحيد على إصدار قانون فحسب، بل تتمثل الاستجابة الأكثر فعالية للأزمة في توافر السياسات الناجحة الغير تقييدية التي تجعل الدولة، تستفيد من تلك الأعداد الكبيرة بإدماجهم في سوق العمل بعد تقنين أوضاعهم، إضافة إلى زيادة برامج التمويل المناسبة التي تدعم وجودهم وتسهل عملية التقنين تلك، استنادا إلى تجربتي دولتي البرازيل والأرجنتين، واللذين يعدان النموذج الأبرز في أمريكا اللاتينية.

قانون اللجوء الجديد.. الانتقال من المفوضية إلى الحكومة

قبل اعتماد قانون اللجوء المصري الجديد، كانت الدولة المصرية تعتمد على الحقوق المكفولة للاجئين بموجب اتفاقية اللاجئين لعام 1951 وبروتوكولها 1967، إضافة إلى اتفاقية منظمة الوحدة الإفريقية لعام 1969 التي تحكم الجوانب المحددة لمشاكل اللاجئين في إفريقيا.

لكن ذلك لم يكن كافيا؛ بسبب اتساع نطاق الفجوات بين الحقوق المكفولة للاجئين بموجب تلك الاتفاقيات والتشريعات المحلية المصرية والأوضاع الحقيقية لهؤلاء، فالغالبية العظمى من اللاجئين يعيشون في مصر دون الحصول على وضع لاجئ بشكل رسمي، وبالتالي لا يمكنهم تلقي المساعدة أو الحصول على حق التعليم والرعاية الصحية، ويعتمدون في العيش على مدخراتهم الشخصية أو على المساعدات المجتمعية أو التبرعات.

وهو ما دفع الحكومة إلى إصدار قانون، ينظم حياة هؤلاء، فصدر قانون اللجوء الجديد رقم 164 لسنة 2024، المعتمد في 19 نوفمبر 2024، والذي يشكل بداية فترة جديدة من نوعها، تتنقل خلالها مسئولية تسجيل وتوثيق طالبي اللجوء وتحديد وضعهم كلاجئين من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى الحكومة المصرية عبر لجنة دائمة لشؤون اللاجئين.

 تصبح هذه اللجنة بمثابة الكيان القانوني الرئيسي للتعامل مع شؤون اللاجئين، بعد أن كانت تتولاه المفوضية في مصر منذ عام 1954، بناء على مذكرة تفاهم مع الحكومة.

إلا أنه حتى الآن ما زال نطاق مسئولياتها والإطار الزمني للتنفيذ غير محددين في القانون الجديد، ومن المقرر تحديد هذه التفاصيل من خلال اللائحة التنفيذية للقانون.

ويبدو القانون غامضا بشأن الدور المحدد للمفوضية في عملية تحديد وضع اللاجئين وجهود إعادة التوطين.

فبعد عقود كانت خلالها المفوضية صاحبة دور قيادي، هل ستظل شريكا ومستشارا رئيسيا للحكومة بشأن تسجيل اللاجئين، وإعادة توطينهم من أجل الحفاظ على التعاون الدولي الوثيق اللازم للتوافق مع المعايير العالمية لحماية اللاجئين؟

أيضا اشتمل القانون على مجموعة من البنود المقلقة التي تثير انتقادات داخلية وخارجية، وعليه أوصت منظمة حقوقية دولية الحكومة المصرية بالاستعانة بخبرة المجتمع المدني، والأمم المتحدة في تعديل قانون اللجوء، وفي صياغة اللوائح التنفيذية له، خلال الأشهر القليلة المقبلة، ووجهت انتقادات للقاهرة بشأن معاملة السودانيين في مصر، وهو ما أوضحه “مصر 360” في تقرير سابق له.

دمج القوى العاملة للاجئين في السوق المصري.. دول أمريكا اللاتينية النموذج الأقرب

تشكل سياسات الاندماج أهمية بالغة؛ لتعزيز انخراط اللاجئين في المجتمع والاقتصاد، فعلى المدى الطويل تحدت أمريكا اللاتينية الاتجاه العالمي المتمثل في سياسات الهجرة واللجوء التقييدية بشكل متزايد، وبدلاً من ذلك اتبعت سياسات قائمة على حقوق الإنسان.

يمكن أن تصبح نماذج أمريكا اللاتينية، بالأخص دولتي الأرجنتين والبرازيل قابلة للتطبيق في السياق المصري، نظراً للتشابه بينهما في المستويات المرتفعة من العمالة غير الرسمية، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب.

الأرجنتين الوجهة المرحبة للاجئين، فتعد من أكثر الدول استقبالًا للاجئين في العالم، وتقر قوانينها بالهجرة واللجوء كحق من حقوق الإنسان، وتضمن لهم الحصول على الخدمات الاجتماعية الأساسية، وما ينبغي الإشارة إليه، أن ما يعكس انفتاح البلاد تجاه المهاجرين هو مساهماتهم الإيجابية في المجتمع هناك.

 فالأرجنتين عبر تأشيرات معقولة التكلفة، وبمجرد الموافقة على الدخول، تمنح الإقامة المؤقتة تلقائيًا الحق في العمل والأهلية للاستفادة من البرامج الحكومية.

كما أن تلك الإقامة صالحة لمدة عامين، ويمكن تجديدها بعد ذلك للحصول على إقامة دائمة. ووفقًا لدراسة استقصائية أُجريت عام 2019، فإن أكثر من 89% من المهاجرين الفنزويليين في الأرجنتين يتمتعون بوضع قانوني أو مواطنين.

ومن المهم الرجوع للخلف للنظر كيف استثمرت الأرجنتين أزمة اللاجئين كتجربة هامة وملهمة، إذ احتدم التأزم في الأرجنتين مع الركود الاقتصادي الوطني، والذي شهد انخفاضًا في قيمة العملة الوطنية بنسبة ٣٠٠٪، مما أسفر عن عواقب اجتماعية وخيمة. وارتفعت نسبة البطالة إلى ٢٠٪، وبلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر ٤٢٪، على إثرها اتُهم المهاجرون في ذروة الأزمة بالمسئولية عن ارتفاع معدلات الجريمة والبطالة.

نقطة التحول الحقيقية

بدأت نقطة التحول الحقيقية مع إقرار قانون جديد للهجرة، وهو القانون رقم 25.871/04، والذي أقر بالمساواة في المعاملة بين الأجانب والمواطنين، يليه تأسيس مجلس اللاجئين الوطني، والذي عمل على تقديم برنامج إعادة التوطين اللاجئين.

جاءت من بين أكبر إنجازات هذا البرنامج، أن جميع الأطفال المعاد توطينهم سيلتحقون بالمدارس إلى جانب ضمان حصول الجميع على الخدمات الصحية، ومنحهم حق ممارسة أي نشاط اقتصادي على قدم المساواة مع المواطنين.

شملت الأدوات الإضافية المرتبطة بالقانون السابق إنشاء المعهد الوطني لمكافحة التمييز وكراهية الأجانب والعنصرية، ولجنة ثلاثية معنية بالمساواة في العمل وشمول قانون التعليم الوطني ضمان وصول المهاجرين غير المسجلين إلى المدارس.

السياسات السابقة، وبالأخص برنامج رعاية واستقبال اللاجئين السوريين مؤخرا، كان سببا لإطلاق وزير الخارجية الأرجنتيني “خورخي فوري” بالتعاون مع رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي في الأرجنتين “أود مايو كوليشي” مشروعًا لدعم سياسة الأرجنتين في استقبال مزيد من اللاجئين ودمجهم.

كيف يُساهم المهاجرون في اقتصاد الأرجنتين

للمهاجرين واللاجئين المعاد توطينهم دور أساسي في التعافي الاقتصادي السريع للأرجنتين في السنوات الأخيرة، فقدرت مساهمة اللاجئين بحوالي 4% من الناتج المحلي الإجمالي، حيث يعمل المهاجرون في كثير من الأحيان في قطاعات أقل إنتاجية، ويكون متوسط ​​تحصيلهم التعليمي وأجورهم أقل.

وفي عام 2013، وهو آخر عام توافرت عنه بيانات، ساهم المهاجرون بمساهمة مالية صافية إيجابية، يتراوح متوسطها ​​ما بين 1% و2% من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يُظهر أن المهاجرين لم يُشكلوا عبئًا ماليًا.

كما ساهم برنامج اللاجئين السوريين مؤخرا في الدعم المالي، حيث تقرر أن تصبح الأرجنتين عضوًا في منظمة ERCM “اعاده التوطين الناشئة المشتركة”، وستتلقى على هذا النحو، المشورة والتمويل لمدة ثلاث سنوات، بالإضافة إلى التمويل الآخر المقدم عن طريق التعاون الدولي.

 بفضل السياسات السابقة تعد تلك التمويلات هي المورد المالي الوحيد الذي يمتلكه برنامج اللاجئين السوري على المستوى الوطني، فحتى الآن وخلال السنوات التسع منذ تقديم البرنامج، لم تقدم الحكومة الأرجنتينية أي التزامات ميزانية محددة له.

البرازيل.. سياسة الباب المفتوح

قدمت البرازيل في التعامل مع الهجرة الفنزويلية دروسا مهمة لدول أخرى، عكس العديد من الدول التي تفرض سياسات تقييدية؛ تهدف إلى منع المهاجرين من الدخول، أو تسمح لهم بالدخول ولكنها لا تستفيد من وجودهم.

 اتبعت البرازيل سياسة الباب المفتوح منذ عام ٢٠١٧، مما سهل استقبال المهاجرين في مدنها المتنوعة، وسمح بتسوية أوضاعهم.

حيث أصدرت اللجنة الوطنية للاجئين بالبرازيل في عام 2019 قرارا بإلغاء شرط إجراء مقابلات فردية؛ لتحديد وضع اللاجئين – لطالبي اللجوء الفنزويليين.  

وأعلنت الحكومة، أن الفنزويليين المتواجدين في البرازيل، ممن لديهم إثبات هوية موثق، وبدون سجل جنائي؛ سيحصلون على وضع اللاجئ ووضع الإقامة الدائمة التلقائي، ولهم الحق في الحصول على الخدمات العامة على قدم المساواة مع مواطني البرازيل.  

وخلال الشهر الأول فقط من التطبيق، تم التعامل مع 21 ألف فنزويلي بموجب هذا النظام الجديد، ومنحهم وضع اللجوء، ويعد هذا المنح الجماعي لصفة وضع اللاجئ للمهاجرين الفنزويليين مثالا للاعتراف التلقائي بصفة اللاجئين.

ووفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، غالبًا ما يستخدم النهج المبدئي التلقائي للاعتراف بصفة اللاجئ في حالات النزوح السكاني واسعة النطاق، وهو ما ينطبق على الوضع في السودان؛ نظرًا للأعداد الكبيرة من اللاجئين الذين يعبرون الحدود الدولية تجاه مصر.

من هذا المنظور، تعد سياسة إعادة التوطين إحدى الأدوات لمساعدة اللاجئين وطالبي اللجوء، وقد أثبتت سياسة الهجرة المفتوحة التي تركز على حقوق الإنسان والواقع الإقليمي، والتي اتبعتها الأرجنتين والبرازيل، أنها أداة أخرى، وناجحة إلى حد كبير.

فبدلًا من اختيار سياسة هجرةٍ تقييدية قائمة على تأمين الحدود والمخاوف العرقية، اختارت الأرجنتين والبرازيل اعتماد استراتيجية مختلفة من خلال سياسة هجرة مفتوحة.

واستلهاما لهذا النموذج، يمكن أن تعمل الحكومة المصرية على إقامة شراكات مع الوزارات المعنية بالعمل والتعليم والتدريب المهني لإدراج اللاجئين في أنظمة وسياسات وطنية لضمان توفير سبل كسب عيش مستدامة لهم، مع زيادة الوعي بحقوق المهاجرين من خلال الحملات الإعلامية المناهضة لخطابات الكراهية ضدهم.