شاهد الناس مظاهرات جرت مؤخرا أثناء صلاة العيد، حيث ظهر آلاف المصريين بلافتات موحدة، تعلن دعمها للرئيس في العديد من الساحات، كما عادوا وشاهدوا مظاهرات أخرى موجهة في العريش، حيث نقلت الحافلات مئات المصريين إلى هناك لاستقبال الرئيسين المصري والفرنسي، ورفعوا شعارات ترفض التهجير، وتعلن دعمها لسياسيات الرئيس.

وبعيدا عما كتب في مواقع التواصل الاجتماعي عن الأموال التي تدفع والوجبات التي تقدم “للمواطنين الشرفاء”، فإن أي مقارنة بين الوجوه الحقيقية لمن قابلهم الرئيسان من مصابي غزة في مستشفى العريش، و”بان” مدى صدقهم وإيمانهم بقضيتهم، وبين الآخرين الذين هتفوا وغنوا أمام المعبر وفي الحافلات كتأدية واجب، ولم يعطوا أي انطباع، أنهم أصحاب قضية أو موقف.

والحقيقة، أن مصر لديها تاريخ حافل مع المواطنين المؤيدين، صحيح أن تعبئة الحشود في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت فيها جزء حقيقي وأصيل، وكان فيها أيضا جانب مُصنع وموجه من السلطة السياسية، فشعبية عبد الناصر كانت كبيرة، وكان إيمان الناس بالرجل وحبهم له حقيقيا وأصيلا، حتى لو كان لأجهزة السلطة “التاتش” في التوجيه والتعبئة، ولكن على شيء حقيقي وأصيل، وهو حب الناس وإيمانهم بعبد الناصر، وحتى الرئيس السادات الذي حمل توجها مختلفا لعبد الناصر، فقد وجد أيضا كثير من المؤيدين، فقد خرج قطاع واسع من الناس يستقبل الرئيس الأمريكي نيكسون، حين زار مصر في منتصف السبعينيات، وكان بعض الناس يتصور أن أمريكا ستغنيهم بدلا من “فقر” الاتحاد السوفيتي، كما خرج مئات الآلاف من المصريين يستقبلون الرئيس السادات بعد مبادرته للسلام، واعتبروا أنها ستجلب الرخاء، كما قال السادات، وفي كلا الحالتين كانت الناس التي خرجت في غالبيتها العظمي حقيقية، وكان هناك تيار واسع في الشارع يدعم التوجهات الجديدة.

وبدا لافتا في السنوات العشرة الأخيرة حجم التدهور في اختيار نوعية المؤيدين، وزادت أعداد من يشاركون في الانتخابات أو الاستفتاءات أو المظاهرات المؤيدة، وهم غير مقتنعين، بما يقومون به أو يأدون واجب في مقابل مادي أو عيني.

ولا زال الكثيرون يذكرون الصور التي انتشرت لانتظار أعداد من فقراء المصريين توزيع “الكرتونة” عقب قيامهم بعمل توكيلات لدعم ترشح رئيس الجمهورية لدورة ثالثة، كما تصاعد دور المال السياسي في الانتخابات الماضية، واشتكى كثيرون من الرشاوى الانتخابية، واعتبرتها تقارير كثيرة، أنها باتت ظاهرة من أجل كسب ولاء الناخبين ليصوتوا، لمرشح يمتلك رصيدا ماليا، ويغيب عنه أي رصيد شعبي.

والسؤال المطروح، هل هذه النوعية من الناس التي تبيع اختياراتها من أجل مساعدات مالية أو عينية، تعني أننا لا يمكن أن نُجري مسارا سياسيا وانتخابيا حرا وشفافا، ما دام هناك شريحة مستعدة، أن تبيع كل شيء تحت وطأه الفقر والعوز، وما دام هناك من يتاجر بفقرها وعوزها، بما يعني أن الصور التي نشهدها في بعض المحطات السياسية والانتخابية ستعوق أي تحول ديمقراطي في البلد.

المؤكد أن “حزب الكرتونة” وحلفائه من “حزب البطاقة الدوارة” و200 أو 500 جنيه لكل صوت موجودين وتقديري على ضوء تجربتين انتخابيتين برلمانيتين خضتهما في 2011 و2015، وانتهيا بالنجاح أن نسبتها بأي حال لا يمكن أن تتجاوز الثلث، وتتراجع ولا تكون مؤثرة، إذا شارك الناس بكثافة في أي استحقاق انتخابي، بحيث لا يمكن بأي حال أن يكون هذا الثلث معطلا لو شارك 50% أو 60% من الناخبين في أي استحقاق انتخابي، وأن مشاركة الناس الكثيفة تجعل تأثير حزب الكرتونة وحلفائه محدودا جدا، ولا يمكن أن يكون المال أو الكرتونة عامل نجاح بمفرده لأي مرشح.

يقينا، هذه الشريحة موجودة ولا يمكن مواجهتها، إلا بدولة قانون ونظام ديمقراطي، يقلل من تأثيرها حتى تتراجع، وتصبح مشهدا سلبيا هامشيا أمام مشاهد انتخابية أخرى إيجابية وغالبة.

إن اعتبار وجود الأميين والمهمشين ومن قهرهم الفقر والعوز، سببا في أن يقول البعض إن مصر لا يمكن أن تصبح بلدا ديمقراطيا خطأ فادحا، لأن النظم السلطوية تكرس من وجودهم، وتعمل على تدهور التعليم والإعلام ونشر الخرافة والأكاذيب والكلام الفارغ، على عكس النظم الديمقراطية التي تحارب الفقر والأمية، وتنشر قيم العلم والعمل والإبداع.

والحقيقة، أن نظرية المجتمع الجاهل تختلف جذريا عن نظرية المجتمع المأزوم أو المعطل، ففي الأولى تحكم على المجتمع بالموت، في حين أن الحديث عن المجتمع المأزوم تدفع إلى مزيد من الجهد لفهم أسباب أزمة هذا المجتمع، وتعمل على بناء نظام كفء ودولة قانون ديمقراطية.

والحقيقة، أن الحالة المصرية شهدت مظاهرات موحدة وموجهة، وعرفت أيضا تجاربها الانتخابية حضورا للمال السياسي، والسؤال دائما، متى سيعود المواطن الحقيقي للمجال السياسي الذي لا يقبل أن يُشترى بالمال؟ ومتى يستعيد التوجه الرسمي جانبا من مؤيديه الحقيقيين، ويعترف أن المشاهد المؤذية التي يراها الناس في توكيلات الانتخابات، أو في دعم الرئيس أو استقبال رؤساء أجانب، باتت مكشوفه وتسيئ للنظام السياسي أكثر من معارضيه، وأن في تجاربنا السياسية كلها كان دائما هناك شيء أصيل وراء تأييد الناس للنظام القائم، وكانت هناك لمسة الأجهزة، لكن لا يمكن القول إن مواقف مصر الرافضة للتهجير لم تجلب بعض الشعبية للنظام القائم، وبالتالي فإن من الواجب البحث عن الناس الحقيقية أيا كان حجمهم؛ لأن عودة المواطن الحقيقي للمشاركة في أي فعالية سياسية سيعني إعادة الروح، لكل ما هو حقيقي وأصيل في البلد، وليس الزائف.