على الرغم من كثرة الاعتراضات التي نالت مشروع قانون المسئولية الطبية، وقت أن تم الإعلان عنه منذ حوالي ستة أشهر، إلا أنه قد تم إقراره من قبل مجلس الشيوخ المصري بالحالة التي كان عليها حينها، ذلك على الرغم مما به من عيوب تشريعية، كانت بحاجة إلى تدقيق لم يتم من قبل مجلس الشيوخ، وكأنه يبارك المسودة الحكومية للمشروع، وهو ما ألقى عبئا كبيرا على عاتق مجلس النواب، وذلك يعود إلى كم التضييقات على ممارسة المهن الطبية في نصوص هذا المشروع، وهو الأمر الذي صاحبه هبة مجتمعية ونقابية من قبل نقابة الأطباء وغيرها، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إقرار القانون بعد إجراء بعض التعديلات عليه، وهي من بين الاعتراضات التي كانت قائمة على نصوص المشروع قبل إقراره.
وإذ أنه على الرغم من كون التعديلات التي أجريت على نصوص هذا القانون قد أصابت، إلا أن القانون على الصورة التي أقرها مجلس النواب المصري، لم تزل لا تلبي احتياجات الوسط الطبي المصري، وتقيد من ممارسة المهن الطبية، ولكن لا بد وأن نثمن من إلغاء الحبس الاحتياطي، كما ندعم ما جاء بهذا القانون من تمييز ما بين الخطأ المهني الجسيم وغير الجسيم، إلا أن السلبيات الموجودة في القانون لم تزل تؤرق ممارسة المهن الطبية، ومن بين تلك المطبات القانونية، ما ورد في تعريف الخطأ الطبي الجسيم (مادة 1 – فقرة 11): هو الخطأ الطبي الذي يبلغ حداً من الجسامة، بحيث يكون الضرر الناتج عنه محققاً، ويشمل ذلك، على وجه الخصوص، ارتكاب الخطأ الطبي تحت تأثير مُسكِر أو مخدر أو غيرها من المؤثرات العقلية، أو الامتناع عن مساعدة من وقع عليه الخطأ الطبي، أو عن طلب المساعدة له، على الرغم من القدرة على ذلك وقت وقوع الحادثة. (وعقوبته الحبس والغرامة أو إحداهما). ذلك لكون هذا النص لم يحدد مفهوم الجسامة، أو مفهوم الضرر المحقق، كذلك النكول عن المساعدة، وتحديد القدرة على المساعدة الطبية، وهذه المعايير هي التي كانت تتطلب وضوحاً أكثر دقة وتحديد، لكونها هي التي يترتب عليها المساءلة القانونية للطبيب، وأن تركها دونما تحديد قاطع، أو تعريف لمفهومها وحدودها، قد يقطع عنه الشك، ومحاولات الإقحام حال الممارسة الفعلية.
هذا إضافة إلى ما جاء بنص المادة السابعة من هذا القانون، والتي تنص على “عدم إجراء جراحة غير عاجلة، إلا بمراعاة أن يكون الطبيب الذي يجري الجراحة مؤهلاً طبقاً لتخصصه وخبرته. والمزايا الإكلينيكية المعتمدة من المجلس الصحي المصري. وأن تجرى التدخلات الجراحية في منشأة مهيأة بدرجة كافية لإجرائها”، ونصت العقوبة عليها بـ”الحبس والغرامة أو إحداهما”. وهو ما عبر عنه الأمين السابق لنقابة الأطباء الدكتور/ إيهاب الطاهر في حديث له لموقع العربي الجديد، بأن سلبيات تلك المادة، تتمثل في أنه “لم يجر حتى الآن العمل بنظام الامتيازات الإكلينيكية بمصر، فكيف يُحاسب الطبيب عليها؟ وكيف يُحاسب الطبيب على كون المنشأة غير مهيأة؟ فقد كان يجب أن تكون العقوبة هنا على المنشأة فقط”.
ولم يقف الأمر عند حد هذه المادة فقط، بل امتد إلى نص المادة الثانية عشر من هذا القانون، والتي تنص على أنه “مع عدم الإخلال بالحق في التقاضي، يكون لمتلقي الخدمة تقديم الشكوى بشأن الأخطاء الطبية إلى الأمانة الفنية للجنة العليا”، وفيما يبدو من ظاهر النص، أنه قد أريد منه فقط طمأنة الأطباء نصاً، وليس فعلا، حيث أن المادة لم تزل تعطي الحق في اللجوء إلى الجهات القضائية، قبل أن يصدر تقرير من لجنة المسئولية الطبية، والتي يوضح منها وجود خطأ يستوجب المساءلة من عدمه. وهو ما قد يؤدي إلى مثول الطبيب أمام جهات التحقيق لأيام قد تطول بناء على شكاوى، لم يتم التأكد من صحتها.
هذا إضافة إلى وجود الغرامة، إذ على الرغم من خفض قيمتها من مليون جنيه إلى مائة ألف جنيه، إلا أن ذلك لا يعود بالنفع على المهن الطبية، ولا حتى على المتضرر من الخطأ المهني حال ثبوته، إذ أن الغرامة ما هي إلا عقوبة مالية، تحصل لصالح الدولة، وقد يكون لوجود التغريم المالي ضرورة، حال أن يتم توجيهها إلى تعويض المجني عليه، وليس إلى الدولة، إذ أن إقرارها على هذا النحو لا يمنع المتضرر من المطالبة بالتعويضات المالية حال ثبوت الحكم الجنائي بالغرامة، وهو الأمر الذي يثقل كاهل الأطباء مالياً، ذلك على الرغم من كون الغرامات المالية هي أقل أنواع العقوبات الجنائية. هذا بخلاف وجود عقوبة الحبس في بعض نصوص القانون.
كما وأن المجتمع المصري يمر بظروف اقتصادية، لا تساعد في كثير من الأحوال؛ لمواجهة ما يسمى بالطب الدفاعي، كما أن الدولة بمؤسساتها بدأت في التخلي عن إقرار تحملها لحق المواطنين في الصحة والعلاج، وبات العلاج أمرا لا تستطيع تحمل كلفته العديد من الأسر المصرية، في ظل حالة من التردي المستمر للأحوال الاقتصادية، كما أن اللجوء لهذا النوع من الإجراءات العلاجية ذات الكلفة العالية، قد يصاحبه تأخر في تلقي العلاج السريع، في ظل إجراءات قد يتبعها الأطباء، بما يضمن لهم عدم الوقوع تحت طائلة هذه النصوص. ذلك جميعه بخلاف ما يعانيه المجتمع الصحي المصري من هجرة متوالية للأطباء؛ بحثاً عن سبل عيش كريمة أو تطورات علمية جديدة، أو ما إلى ذلك من أمور تحقق لهذه الفئة منافع ذاتية.
وإذ أن مهمة التشريع ومسئوليته والملقاة بشكل رئيسي على عاتق مجلس النواب، والتي باتت فقط من الناحية النظرية، لكونه قد تخلى عن حقه بشكل يكاد يكون كاملا، وبات أمر التشريع متوقفا عند رغبة السلطة التنفيذية، فيما تقدمه إلى مجلس النواب، إلا أنه لا بد وأن ننوه إلى أنه لا يقف الطموح البشري عند حد معين، أو نقطة محددة، تعد بذاتها هي نهاية كفاح ونضال الكثيرين نحو تحقيق العدالة أو الرخاء للمجتمع، إنما دائما هناك المزيد من السعي، والمزيد من الجهد نحو تحقيق مستويات أفضل وتطوير الخدمات إلى أعلى، وهذه الأمور ليس لها سقف تقف عنده، ولكنها دائما وأبدا تتطور تماشيا مع الاحتياجات المجتمعية، هادفة في كل وقت إلى تحقيق مزيد من النمو ومزيد من الرفاهية، وبالتالي لا يعد إقرار قانون المسئولية الطبية بكل ما به من إيجابيات وسلبيات، هو المتمم لطموح العاملين في هذا المجال، وأن علينا أن نرصد منذ اللحظات الأولى لهذه التجربة ما بها من سلبيات، أو ما يظهر من عيوب، حتى نسعى إلى تغيير أو تحديث ذلك القانون، فلا يوجد نص قانوني مقدس، لا يمكن الوقوف عنده، فالكل يعلم أن الدستور نفسه ليس له قداسة أبدية، وإنما تعد هذه النصوص متناسبة، نوعا ما مع ظروف المجتمع في وقت من الأوقات، وقد تحتاج إلى تعديل أو تغيير كلي في أوقات مقبلة تتغير فيها الظروف المعيشية أو الحياتية سواء للدولة أو للأفراد.