ثلاثة قوانين مرت على مجلس النواب هذه الدورة، هي الإجراءات الجنائية، والعمل، والمسئولية الطبية. من هذه القوانين الثلاثة، ما انتهى تشريعيا، ومنها ما أوشك على الانتهاء، ومنها ما يزال قيد البحث. القوانين الثلاثة يجمعها رابطان مهمان:
الأول أنها تتعلق بمصير الملايين من الناس، سواء من هم متهمون مدانون أو غير مدانين، أو العمال في المصانع ومؤسسات العمل الأخرى، أو المرضى وذويهم ومعالجيهم.
الثاني أنها قوانين، ترتبط بالواقع المعاش، والذي يثار حوله مشكلات حياتية عديدة، وشبة يومية، فهي أمور متكررة تكرار الحاجة للعدالة، والكسب من خلال العمل، وكذلك العلاج والاستشفاء.
تباين مجالات القوانين الثلاثة
ورغم التشابه في القوانين الثلاثة من حيث الأهمية، إلا أنها تتباين بتباين مجالاتها: –
فواحد منها، وهو الإجراءات الجنائية ذو طابع سياسي، لأنه يتعلق بحرية الرأي والتعبير والمحاكمات العادلة والحبس الاحتياطي وحق الدفاع، وكذلك دور الأجهزة العدلية في التحكم في مصير العباد.
الثاني، وهو العمل، وهو ذو طابع اقتصادي واجتماعي معا، لكونه يرتبط بمناخ الاستثمار وحقوق العمال وأرباب الأعمال، ومن ثم فهو يجمع عديد الفواعل كما ونوعا.
الثالث، وهو المسئولية الطبية، وهو ذو طابع اجتماعي خالص، لكونه يتعرض للعلاقة بين المريض والطبيب والمنشأة الطبية، ومن ثم فهو يمس أمرا مهما وحيويا، لا يرتبط بنوع أو عمر.
موقع الدولة من القوانين الثلاثة
وتتباين القوانين الثلاثة باختلاف طبيعتها، ما يجعل موقع الدولة بمؤسساتها الرسمية مختلف من واحد إلى آخر، وذلك كله باختلاف المخاطبين بأحكام تلك القوانين: –
ففي القانون الأول (الإجراءات الجنائية)، الدولة حاضرة بقوة من خلال السلطة القضائية سواء المحاكم أو النيابية، أو من خلال السلطة التنفيذية، حيث وزارة الداخلية، وذلك كله في مواجهة الناس أو الجماعات.
في القانون الثاني (العمل)، الدولة في الغالب الأعم حاضر بشكل مباشر، وقد تكون أحيانا حاضرة بشكل غير مباشر. الحضور المباشر هو الغالب بعد زحف الدولة على القطاع الخاص، وهيمنة مؤسسات سيادية معلومة للكافة على مؤسسات الأعمال الخاصة، أملا في سحب المغانم التي تحصل عليها تلك المؤسسات لحسابها. أما الحضور غير المباشر للدولة، فيخص مؤسسات العمل الخاصة التي بدأت تنحسر منذ أحداث يونيو 2013.
في القانون الثالث (المسئولية الطبية)، الدولة في الأغلب حاضر غير مباشر، وذلك وفقا لما هو قائم. فإذا كان المقصود المنشآت الطبية الخاصة، وهي الغالبة بعد عمليات البيع والتأجير والخصخصة، بما فيها تلك التي أقرها مجلس النواب في دورته الحالية، فهي موجودة بشكل غير مباشر. وإذا كان المقصود المؤسسات الطبية العامة، فهي بلا شك حاضر مباشر.
انحيازات الدولة
واحد من أهم الأمور التي لوحظت إبان مناقشات القوانين الثلاثة، هي انحيازات الدولة. هذه الانحيازات ظهرت بوضوح في موقف السلطة التنفيذية من القوانين الثلاثة التي أعدها مجلس الوزراء. فتارة تكون تلك السلطة التنفيذية منحازة لذاتها ككل، أو لأحد وزرائها، والمقصود هنا وزارة الداخلية. لكن في بعض الأحيان تنحاز السلطة التنفيذية لفرع آخر من أفرع الحكومة التي تضم السلطات الثلاث، والمقصود هنا السلطة القضائية، وتحديدا النيابة العامة. لكن ما يجمع مبرر الانحياز هنا لا شيء، سوى التسلط وبقاء الريادة في يد الدولة، ولو على حساب الإرادة الشعبية. هذا النمط من الانحياز غير مستغرب من خلال السعي الدائم للهيمنة والاستحواذ، وهو أمر مردت عليه السلطة في مصر، وهو على أي حال غير مستغرب أحيانا في عديد المشروعات القوانين التي تقدم إلى البرلمانات، حتى في البلدان المتمدينة، الفرق فقط هو أن هذا الاستحواذ يبقى مترجما في القانون بعد إقراره في دولة كمصر، ويتحلحل كثيرا بعد مناقشات البرلمان في الديمقراطيات العتيقة. بطبيعة الحال، الحالة المصرية محكومة بطريقة الانتخاب الملتوية وغير الشفافة لنواب البرلمان، والتي يغلب عليها التعيين والتزكية، أي تزوير إرادة الناخبين بالأخذ بنظام القائمة المطلقة في نصف عدد مقاعد مجلس النواب.
الإجراءات الجنائية
قانون الإجراءات الجنائية هو القانون الأول الذي ناقشه مجلس النواب، وانتهى منه في نهاية فبراير الماضي، وقد علقت الأنظار به؛ بسبب أزمة الحبس الاحتياطي التي جعلت من دور النيابة العامة الفيصل في تعليق مصير العباد في يدها. لم تغير المناقشات التي دارت حول القانون لعدة أشهر من الوضع القائم، إذ أطلقت الحكومة رجالها بالمجلس، للنيل من كل من يحاول المساس بمشروع القانون، فكان مصير نقيب الصحفيين النقد المبرح الذي وصل لحد السباب من قبل رئيس اللجنة التشريعية بمجلس النواب، تلى ذلك النقد الأقل لنقابة المحامين، ثم الأقل- بدواعي الخشية أو الخوف- لنادي القضاة. خلاصة القول، إنه بعد أن تم إقرار القانون، لا زال للنيابة العامة السطوة الكبرى في التحكم في الحبس الاحتياطي والتجديد والتدوير في قضايا أخرى بغية الإمعان في التنكيل بالناس. حيث لم تسفر المناقشات عن أي جديد ذي شأن يغير من الواقع المرير، فلا سلطات النيابة تم تقليصها، ولا الحث المتواصل على الالتزام بالدستور في مدد الحبس انقطع، بل على العكس من كل ذلك أصبح الموظف العام محاط بضمانات وحصانات وسلطات كثيرة بالقانون، وحقوق الدفاع والمحاماة أصبحت مقيدة. ولما لا وقد نقلت الحكومة في مشروع القانون الذي تم إقراره مواد من قانون الإرهاب العقابي بالنص إلى هذا القانون. خلاصة القول، إن المواطن الذي لم يحكم عليه بالإدانة أصبح بهذا القانون أمام ثالوث النيابة والشرطة والقضاء!!!
قانون العمل
انحياز الدولة في قانون العمل كان لصالح فئة رجال الأعمال، أي الفئة الأقوى على حساب الفئة الأضعف!! فوفقا لما ذكره بيان تحالف أمانات العمال والنقابات، كانت المشكلة الرئيسة في القانون- الذي أرجئت الموافقة النهائية عليه لبضعة أيام- هو عدم ربط نسبة العلاوة الدورية بنسبة التضخم، ما يجعل عمليا القيمة الحقيقية للأجر في حالة انخفاض دائم، كلما وقعت موجه من التضخم، ومن ثم وجود تآكل دائم للأجور. وكان مقترح الحكومة إبان المناقشات هو تمكين أصحاب العمل من التنصل من العلاوة، بإضافة فقرة (وفي حالة تعرض المنشأة لظروف اقتصادية، يتعذر معها صرف العلاوة الدورية المشار إليها، يعرض الأمر على المجلس القومي للأجور للبت في تخفيضها أو الإعفاء منها، وذلك خلال ثلاثين يومًا من العرض عليه). من ناحية ثانية، هناك العمالة المنزلية المقدرة وفقا لنيفين القباج وزيرة التضامن السابقة ما بين 8- 13 مليون عامل وعاملة. هذه العمالة أغفلها القانون، ساريا على نهج قانون العمل 12 لسنة 2003، ما يجعل حقوق هؤلاء نسيا منسيا، فلا عقود ولا تأمينات ولا حوافز ولا بدلات ولا معاشات لهؤلاء. والغريب في الأمر أن الدول العربية التي كانت قديما تستعير نصوص القوانين المصرية لتطبقها بحذافيرها، سبقت مصر في هذا المضمار، إذ لدى 8 دول منها قوانين للعمالة المنزلية!!. من ناحية ثالثة، حذرت دار الخدمات النقابية والعمالية، مما اعتبرته تزايدا في العقود المؤقتة بشكل مفرط. وقالت: “رغم أن مسودة مشروع القانون في البداية عادت إلى الأسس السليمة، إلا أن التعديلات اللاحقة استجابت لضغوط أصحاب العمل، وأعادت السماح بالعقود المؤقتة دون قيد”، مما يفتح الباب أمام تجديد العقود المؤقتة سنويًا، ما يؤدي إلى استمرار استخدام العامل بعقد مؤقت في أعمال دائمة. وهو ما يعد تلاعبًا بحقوق العامل، حيث يظل العامل مهددًا بفقدان وظيفته، حسب بيان دار الخدمات النقابية والعمالية.
قانون المسئولية الطبية
تعاملت الحكومة في البداية مع القانون من منطلق العداء للطبيب، ولولا تدخل النقابة القوي لما وصلت الأمور لحد التوازن النسبي بين حقوق المرضى وحقوق الأطباء والمنشأة الطبية والتزامات كل منهم. بعض التعديلات التي وردت من نقابة الأطباء، أخذ بها مجلس النواب، وبعضها لم يأخذ بها إلى اليوم، لم تنته مناقشات القانون بمجلس النواب، لكن هناك تحذيرا من أن المغالاة في العقوبات، ربما يدفع لانتشار ما أسماه عضو مجلس نقابة الأطباء إبراهيم الزيات “الطب الدفاعي” حيث سيقوم الأطباء برفض علاج الحالات الخطيرة؛ خوفًا من المقاضاة في حالة فشل العلاج وتضرر المريض، خاصة في المستشفيات الحكومية التي تواجه نقصًا في الإمكانيات.
الخلاصة
هكذا سيختتم البرلمان أعماله بسن ثلاثة من أهم القوانين التي أصدرها خلال الفصل التشريعي بأسره. القوانين الثلاثة من خلال التطبيق والممارسة على أرض الواقع، سيتبين مدى الرضاء الشعبي عليها. القانون الأول اختباره هو الحبس الاحتياطي، والثاني هو أجور وعلاوات وتأمينات العمال، أما القانون الثالث فاختباره سيكون في مدى تردد الأطباء في دخول غرف العمليات.. في انتظار رد فعل الشارع!!